الجزائر، هذا البلد الذي يقترب في مساحته من شبه قارّة، على حدّ تعبير الوزير الأول السابق " بلعيد عبد السلام" في أحد خطبه سنة 1992، والذي يمتلك ثروات طبيعية هامة، وموارد غازية ونفطية معتبرة تساهم في إنعاش الاقتصاد الوطني، وتغذية الخزينة العامة. مما جعل الصندوق الدولي أخيرا يحتاج للاقتراض من الجزائر، لمحاولة ترميم العجزالذي أصاب مؤسساته. كما تمتلك الجزائر مخزونا من العقول، ذات الكفاءات العالية، المشهود لها دوليا بالقدرات العلمية والتقنية في العديد من الميادين. والمتمركزة في أغلب دول العالم. غير أن ما يلفت الإنتباه أنه رغم وجود هذه الطاقات المتعددة الاختصاصات، والمنتشرة في الكثير من دول غربية، والتي تحتل مواقع متقدمة في مجتمعات أخرى. إلا أن الملاحظ أن الجزائر تلجأ كل مرة إلى فرنسا لعلاج رئيسها، بدلا من مداواته في الجزائر. مما يحيل على طرح العديد من الأسئلة القلقة؟؟؟ حول الوضع الصحي بالجزائر منها: هل هذه المستشفيات تفتقر للإمكانيات والتجهيزات والمعدات اللازمة؟ هل جزائر البترول والغاز "وصونتكراك" وغابات الأطلسي، عاجزة على تأثيث مستشفياتها بمعدات تقنية حديثة تلغي التبعية الصحية؟ هل جزائر المليون ونصف شهيد لم تنجب أطباء أكفّاء يعتمد عليهم؟ هل المنظومة الصحية تخنقها البيروقراطية المتوحشة، وتعطلها أساليب الروتين وطرق التسيير؟ هل هذه الفضاءات الاستشفائية هي أقل شأنا ونجاعة من أن تعالج فيها شخصيات رسمية في وزن رئيس البلاد؟ أم أن هذه المستشفيات شُيِّدَتْ للمواطن العادي "الحيطيست"، الذي لا بَوَاكِيَ، له مما يغذي مظاهر الطبقية وتفشي الفوارق الاجتماعية، واختلال في تساوي الحقوق المدنية والدستورية بين أبناء البلد الواحد؟ أم أن ترحيل بوتفليقة لعلاجه في فرنسا يخبأ طبيخا داخليا، عنوانه البحث عن انتقال هادئ ودون ضجيج للسلطة، واستباقا للبند "88" الذي باتت ترفعه المعارضة في وجه حالة شبه الفراغ الدستوري. عدم المحافظة على أديم المعرفة من المفارقات أن الرئيس الجزائري جيء به ليعالج في فرنسا. ويكون أحد أهم أطبائه المشرف على وضعه الصحي جزائري وهو البروفيسور " رشيد بوغربال ". مما يطرح قضية العقول العربية المهاجرة، التي لم تجد في بلدانها الرعاية والاهتمام، ففضلت اضطرارا أن تشعَّ على بلدان أخرى بدل ان تستفيد منها أوطانها. حيث أصبحت هذه البلدان مصدِّرة للعقول وعدم المحافظة على أديم المعرفة، ومورّدة لأدواة " تنمية " ثقافة البطون.. ذلك لأن هذه الدول المقوسَّة الظهر والآفاق وليست الجزائر استثناء، اعتمدت في سياساتها على الآنية وعدم الاستشراف، لتكون الأبعاد والمخططات ارتجالية، ترتكز على أسلوب الترميم والترقيع و" bricolage ". مما يساهم سلبا في خنق الطاقات وبروز ثقافة الولاءات قبل الكفاءات، الشيء الذي أحدث ارتجاجا في البناء المعرفي، وخلَّف شعورا وفراغا في مختلف الميادين، عَمَّرَتْهُ شرائح أقل كفاءة، ولكنها أكثر تزلفا وشجعا، وأوثق إرتباطا بدوائر صنع القرار. ممّا شرّع لتفشِّي ظاهرة المحسوبية والانتهازية في عملية التوظيف. حيث أصبحت معايير الانتداب للمواقع الأمامية تخضع لمنطق الولاءات الحزبية الرسمية، والانتماءات الجهوية، والقرابة العائلية، بدل الاعتماد على مقاييس الكفاءة المهنية والشهائد العلمية. غليان صامت من اللافت أن الجزائر برغم عدم انخراطها في الربيع العربي، إلا أنها ليست بمعزل عن هبوب رياح التغيير، خصوصا بعد التغييرات التي حصلت في دول الجوار، وتحديدا تونس وليبيا، التي تتشابه من حيث النسيج الاجتماعي والمشاغل والهموم. ما دفع الجزائر إلى محاولة التصدي لما يمكن أن يكون شكلا من أشكال التسلل الاجتماعي، أو محاولات النفاذ إلى تقويض النظام، عبر استثمار واقع "الحقرة" والخصاصة والاحتياج. فقد حاولت السلطة الجزائرية امتصاص الغضب الجماهيري الصامت، من خلال مبادرات استباقية، كإسناد منحة شهرية للعاطلين عن العمل، وشطب بعض القروض لفائدة صغار الفلاحين، وإنجاز وحدات سكنية لبعض العائلات المعوزة، وتيسير اقتناء القروض لإقامة مشاريع صغرى. غير أن هذه الخطوات تبقى محتشمة في ظل فائض عائدات موارد الطاقة، التي منذ سنوات تضخُّ الأموال الطائلة في حساب خزينة البلاد. والتي لم تنتفع منها شرائح اجتماعية أخرى مهمَّشة، يعشِّش فيها غليان متماوج في الصدور ينتظر ساعة الصفر. هذا دون أن ننسى أن الجزائر كانت قد سبقت الربيع العربي بعدة سنوات، وتحديدا عام 1988، إبَّان تلك الانتفاضة الشعبية ضد التحنط السياسي وضد اهتراء الأوضاع الاجتماعية. والتي أفرزت شكلا من أشكال التعددية السياسية، التي فسحت المجال لإجراء انتخابات ديمقراطية، تمكنت فيها الجبهة الإسلامية للانقاذ بالفوز الساحق في الاستحقاقات التشريعية. غير أن هذه التجربة أجهضت عبر انقلاب عسكري سنة 1992، ليتم قصدا إفشال عملية الانتقال الديمقراطي، مما فتح الأبواب نحو مرحلة سمّيت بسنوات الدم والرصاص. سلطة مدنية متدثرة ببدلة عسكرية الملاحظ أن تضاريس المشهد السياسي الجزائري، يختص منذ استقلال هذا البلد إلى الارتكاز على المؤسسة العسكرية، المتغلغلة من القاعدة إلى القمّة، من بائع الحمّص والسجائر في الطريق العام، وصاحب الكشك الذي يغيّر العملة الأجنبية في الهواء الطلق دون أن يخشى القوانين، إلى شركات " صونتراك " في "عين أميناس "، إلى أعلى هرم في الدولة. مما يجعل السلطة السياسية في هذا البلد هي واجهة بروتوكولية، في حين أن العسكر هو الذي يدير شؤون البلاد من وراء الستار. مما يجعل الحكم مدنيا متدثرا ببدلة عسكرية، ومختبأ في خوذات أمنية. ولعل علاج بوتفليقة في فرنسا هو شكلا من ترحيل الأنظار، وإغراق رأي عام وطني في تفاصيل مرض رئيس قد يعود أو لا يعود، من أجل ترتيب سياسي خافت لا تدركه الأبصار. الصمت مقابل المرور كما يمكن الإشارة إلى مرحلة مهمة سبقت تأزم الوضع الصحي للرئيس بوتفليقة، ونعتقد أنها لا تخرج عن إطار التمهيد لمحاولة ترتيب انتقال السلطة، حيث لا يمكننا اختزال الدور الفرنسي، اللاعب الأساسي والتاريخي في التأثير المباشر والغير مباشر في تحديد الخيارات السياسية على هذه المنطقة، المرتبطة جغرافيا واقتصاديا بفرنسا. ولعل عملية السماح باستعمال المجال الجوي الجزائري، لمرور الطائرات الفرنسية في حربها ضد التشاد، هو نوع من تحييد الدبلوماسية الفرنسية التي انخرططت بكل ثقلها في إسقاط النظام الليبي، واتقاء لمثل هذه الضغوطات وغيرها، حتى لا تصاب الجزائر بعدوى الربيع العربي. وبذلك تقبض فرنسا ثمن صمتها، مقابل أن تخسر الجزائر قيمة أخلاقية، وميزة تاريخية، التي كثيرا ما تباهى وتغنى بها الجزائريون وهي " النيف الجزائري"، الذي يرفض أي تدخل أجنبي. هذا ولا يمكننا أيضا إغفال واقع تمطط المشهد السياسي الجزائري، الذي لونته سنوات الدم والرصاص، حيث أكسب السلطة العسكرية خبرة أمنية وميدانية، مكنتها من نسج شبكات مخابراتية وتقنية، أضحت ورقة ترفع في وجه أي عصيان مدني، مع الإيحاء الخافت والمبطن، أن التعايش مع الحقرة والجوع والاحتياج أهون وأفضل من العيش تحت زخات الرصاص ومآسي التفجير والمفرقعات. * صحفي وكاتب تونسي مقيم بباريس [email protected]