كتبه عبدالحميد العدّاسي بين ساعة القدوم وساعة المغادرة لوحات طبع شوق اللقاء على وجهها المتأثّر بالمكابدة - دون اقتناع بما نحن فيه - مسحة من الرّضا والقناعة.
القدوم يتمّ حتما عبر بوّابة من بوّابات تونس البحريّة أو البرّية، وقد كانت رحلتي إلى بلدي في شطرها الثاني عبر الخطوط الجوّية التونسيّة التي وإن اجتهد العاملون على طائرتها المقلّة لنا لم تنجح في أن تكون تونسيّة الهويّة ثوريّة التوجّه... وجبة غداء تجعل آكلها يحمد الله تعالى على أن نزل بأرض يأكل أهلها الحلال تُعقَب ببيع سجائر "رفيعة" وخمور تُشعِر بأنّ المكان غير آمن وقد لا يكون أكله بالضرورة حلالا، وتجعل المرء يتفكّر في أسباب خسائر الشركة ومجاورتها منطقة الإفلاس، فإنّ الحرام إذا خالط الشيء أهلكه وإنّه لن ينفع إلّا ما كان حقّا حلالا... نزلنا المطار وبالصحبة سوّاح قادمون من مدريد، وجبت العناية بهم كرما منّا وجلبا لهم بغية مساهمتهم في إنعاش اقتصاد البلاد، ولكنّ العاملين في المطار أفسدوا ذلك ومنذ اللحظة الأولى... فشريط الأمتعة ظلّ فارغا مدّة طويلة حرّضت القادمين الأجانب على الضجر والتأفّف والشتم السرّي والنّدم على المجيء، وكلّفني حزنا لم أحزنه حتّى عند موت أمّي رحمها الله تعالى... وعندما برزت طلائع الأمتعة صفّق الجميع سخريّة مؤذية لا يفهمها إلّا محبّ لبلده مخلص!...
وأمّا المغادرة فتميّزت بتأخير استثنائي... فبدل المغادرة على الساعدة التاسعة صباحا كتب لها بجهد "الوطنيين" المضني أن تكون في حدود الساعة الثالثة تقريبا... كلّفت أمثالي ممّن لم يقدروا على الرحلة المباشرة مبالغ إضافيّة هامّة وأوقاتا ثمينة مهدرة... كلّفتني مثلا تذكرة إضافيّة لجبر التأخير الأوّل ثمّ كلّفتني تذكرة ثانية لجبر التأخير الثاني كما كلّفتني ضياع أمتعتي وضياع موعد عمليّة جراحيّة على العينين كانت مبرمجة لليوم الموالي، وحسبنا الله ونعم الوكيل!... غير أنّ خسائري تلك لا تعني شيئا أمام خسائر البلاد. فقد كان المشهد داخل المطار مزريا بل مقرفا... ازدحام يُجري العرق أنهارا ويُفرز الرّوائح عارا وشنارا... كراسي غير ثابتة تتأرجح بالبعض وتوقع ببعض الخبث أرضا بعض البعض... لوحات كتب عليها مواعيد غير مطابقة للرحلات... ضجيج وصراخ وبحث مضن عن المقصد... المسؤول يتجوّل بين الجميع ويجيب الجميع ويترك انطباعا عند الجميع أنّه لن ينفع فردا ولن ينفع الجميع... يتجرّأ سائح إيطالي فيأخذ المصدح مناد عبره عن مفقود منه يدعوه لباب علم أنّ نجاتهما لن تكون إلّا عبره ومنه... سائق الحافلة في الأسفل يحاول استعمال وسائل اتّصاله، يجتهد بخلط اللغات لعلّ ذلك يُنجِح اتّصاله، ثمّ يترك مقوده لينزل ويستعمل أصابعه في إيصال صفّارته، فما أجداه ذلك نفعا مع أناس كرهوا الاتّصال!... سائق الحافلة في الأسفل يحاول استعمال وسائل اتّصاله يجتهد بخلط اللغات لعلّ ذلك ينجح اتّصاله ثمّ يترك مقوده ليستعمل أصابعه في إيصال صفّارته... مشهد مضحك مبك محزن يؤكّد أنّ تونس قد فقدت التعامل بالمصطلحات الحضاريّة!... نصعد الطائرة وقد طمعنا في الرّحيل فإذا المسؤولون كلّ في مستواه (وكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته) يعتذر لنا للتأخير الحاصل ولا يتناول أبدا ما لحق بالتأخير ومن انجرّ عنه (فذلك حقّنا الشخصي الذي لا ينازعنا فيه أحد)، ثمّ يعتذر ثانية لتأخير آخر سبّبه عدم التحاق مسافرين حتّم تفتيش الأمتعة لمنعها من السفر مع المسافرين خوفا - طبعا - على المسافرين!... وقفت بباب المدرج حزينا ساخطا غاضبا، التفتّ فإذا بنت شكّكني جمالها في تونسيتها، سألتها أجابت أن أنّها تونسيّة... شكوت لها ما بداخلي، تفاعلت فقالت: ما تراه ليس من فعل الصغار. إنّهم الكبار الذين يفعلون ذلك. وكثير منّا قد نبّه، وكثير منّا قد كتب ولكن لا حياة لمن تنادي!... تألّمنا سويّة ثمّ شكرتها مودّعا... علمنا أنّ النّتن لا يكون إلّا من الكبار، استدركت أنّ الكبير الصالح زكيّ الرّائحة ثمّ استقرّ رأيي على نوعيّة أولئك النّتن... أولئك الكبار!...
في المطار تجهيزات بالية لا بدّ أن تُغيَّر!... في المطار فضاءات ضيّقة لا بدّ أن تُوسَّع!... في المطار ألوان باهتة لا بدّ أن تُزخرَف!... في المطار حُجُرات مكتضّة لا بدّ أن تُخفَّف!... في المطار وساطات مشبوهة لا بدّ تُراجَع!... في المطار "مسؤولون" غير مسؤولين لا بدّ أن تقع إقالتهم!... في المطار خونة مارقون لا بدّ من تصفيتهم!... في المطار عادات خارجة عن عاداتنا وتقاليدنا لا بدّ تُبدَّل!... في المطار تسيّب لا بدّ أن يُقلّم!... في المطار ثورة مضادّة لا بدّ أن تُقاوَم!... في المطار عار لا بدّ أن يُزال!... في المطار سواد سلوك لا بدّ أن يُعدَّل!!!...