بوريل..امريكا فقدت مكانتها المهيمنة في العالم وأوروبا مهددة بالانقراض    86 مشرعا ديمقراطيا يؤكدون لبايدن انتهاك إسرائيل للقانون الأميركي    المدير العام للديوانة يتفقّد سير عمل المصالح الديوانية ببنزرت    فتحي الحنشي: "الطاقات المتجددة والنجاعة الطاقية أصبحت أساسية لتونس"    تصنيف يويفا.. ريال مدريد ثالثا وبرشلونة خارج ال 10 الأوائل    قرعة كأس تونس لكرة القدم (الدور ثمن النهائي)    إفتتاح مشروع سينما تدور    فيلا وزير هتلر لمن يريد تملكها مجانا    بين النجم والمنستيري صراع مثير على المركز الثاني    منير بن رجيبة يترأس الوفد المشارك في اجتماع وزراء خارجية دول شمال أوروبا -إفريقيا    انتخاب تونس رئيسا للمجلس التنفيذي لمركز «أكساد»    القصرين: تمتد على 2000 متر مربع: اكتشاف أول بؤرة ل«الحشرة القرمزية»    بطاقتا إيداع بالسجن في حقّ فنان‬ من أجل العنف والسرقة    إنه زمن الإثارة والبُوزْ ليتحولّ النكرة إلى نجم …عدنان الشواشي    المركب الثقافي بمدنين يحتضن فعاليات الملتقى الجهوي للمسرح بالوسط المدرسي    محاميتها تتحدث عن كواليس ليلة القبض على الإعلامية حليمة بولند    المحمدية.. القبض على شخص محكوم ب 14 سنة سجنا    تالة: مهرجان الحصان البربري وأيام الاستثمار والتنمية    "سلوكه مستفز": الافريقي يطالب بتغيير هذا الحكم في مباراته ضد الصفاقسي    سوسة: ايقاف مروج مخدرات وحجز 500 قرصا مخدرا    حالة الطقس هذه الليلة    عاجل/ قضية "اللوبيينغ" المرفوعة ضد النهضة: آخر المستجدات..    مجلس وزاري مضيق: رئيس الحكومة يؤكد على مزيد تشجيع الإستثمار في كل المجالات    توقيع محضر اتفاق بين وزارة التربية وجامعة التعليم الأساسي .    توطين مهاجرين غير نظاميين من افريقيا جنوب الصحراء في باجة: المكلف بتسيير الولاية يوضّح    عاجل/ أعمارهم بين ال 16 و 22 سنة: القبض على 4 شبان متورطين في جريمة قتل    العثور على جثة آدمية مُلقاة بهذه الطريق الوطنية    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    نتائج قرعة الدورين ثمن وربع النهائي لكاس تونس لكرة القدم    عاجل/ الحوثيون: سنستهدف جميع السفن المتّجهة للاحتلال حتى في البحر المتوسّط    لجان البرلمان مستعدة للإصغاء الى منظمة "كوناكت" والاستنارة بآرائها    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها    مراسلون بلا حدود: تونس في المرتبة 118 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لسنة 2024    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    مدنين: حجز 50 طنا من المواد الغذائية المدعّمة    السعودية: انتخاب تونس رئيسا للمجلس التنفيذي للمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة "أكساد"    الحماية المدنية:15حالة وفاة و500إصابة خلال 24ساعة.    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    منظمة إرشاد المستهلك:أبلغنا المفتي بجملة من الإستفسارات الشرعية لعيد الإضحى ومسألة التداين لإقتناء الأضحية.    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    أعمارهم بين 13 و16 سنة.. مشتبه بهم في تخريب مدرسة    فوز التونسي محمد خليل الجندوبي بجائزة افضل لاعب عربي    جدل حول آثار خطيرة للقاح أسترازينيكا مالقصة ؟    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    خطير/ خبير في الأمن السيبراني يكشف: "هكذا تتجسس الهواتف الذكية علينا وعلى حياتنا اليومية"..    عاجل/ الأمن يتدخل لاخلاء محيط مقر مفوضية شؤون اللاجئين في البحيرة من الأفارفة..    الرابطة المحترفة الاولى : تعيينات حكام مقابلات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    زلزال بقوة 4.2 درجة يضرب إقليم بلوشستان جنوب غرب باكستان    العمل شرف وعبادة    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    "أنثى السنجاب".. أغنية أطفال مصرية تحصد مليار مشاهدة    بايدن يتحدى احتجاجات الطلبة.. "لن أغير سياستي"    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنان عبد الله الشاهد    وفاة الممثل عبد الله الشاهد‬    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    ''أسترازنيكا'' تعترف بأنّ لقاحها له آثار قاتلة: رياض دغفوس للتونسيين ''ماتخافوش''    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة النور ج4/4: الاستاذ : حسن الطرابلسي
نشر في الفجر نيوز يوم 07 - 12 - 2008

طريق العودة : من المدينة المنوّرة إلى مكة المكرّمة
كان من فضل الله علينا ومن حسن برمجة الإخوة في الندوة أنّنا بعد زيارة المدينة المنوّرة عدنا مرة أخرى إلى مكة المكرّمة، وفي طريق العودة أحرمنا بالعمرة وكان ميقات إحرامنا هذه المرة من أبيار عليّ.
كنت وغالب الإخوة في إرهاق شديد فقد قضينا مدة الإقامة في المدينة في حركة دائبة من زيارات وشراء بعض الهدايا للأهل والأصدقاء، ولذلك حاولت مباشرة بعد تجاوز الميقات أن أخلد إلى النوم عساي أظفر ببعض الراحة أتقوّى بها على آداء العمرة عند الوصول.
ولكن ذلك لم يكن بالأمر البسيط لحرارة الطقس من ناحية، ولأنّ النوم في الحافلة غير مريح رغم أنها كانت مكيّفة ومجهّزة بأحدث التقنيات. أخذ العطش مني مأخذا شديدا فشربت وشربت ولكني لا أزال أحس بالعطش.
نسيت أن أذكر أن تقلّبات الطقس وحلق الشعر بعد التحلل في الحج أصاب الأغلبية بالزّكام فكثر العطاس وتغيّرت الأصوات وذبلت. وكان الأخ أبو خلاد (حسن سويد) ، وهو أخ كريم قد جاوز الستين من عمره وشغل منصب رئيس التجمع الإسلامي في بلجيكا ، أشدنا تأثرا وحساسية لهذا الطقس، فمرض مرضا شديدا، واشتدّ عليه الزكام فكان لا يغادر النزل إلا للصلاة في الحرم النبوي.
في الطريق طالعتنا من جديد الجبال برونقها، فللجبال رونق خاصّ، وجمال خلاّب، وهيبة عظيمة ، فعند الأصيل يزحف رداء الليل الممزوج بالخيوط الأخيرة من أشعة للشمس التي ترسلها ساكنة كأنها مسافر يودّع أحباءه على أمل موعد قريب . والجبال ولئن لفّها رداء الليل فإنه لا يستطيع أن يلغي وجودها فهي ثابتة ثبات الحقيقة، وقائمة قيام العدل عند السلطان العادل، شامخة شموخ العزة عند الفارس الدرغام. ولست أعلم لماذا أحب الجبال والصحراء والبحر برغم اختلافها المتباين، ورقم تناقضها الظاهري. فالجبل قاس، وقسوته في طبيعته، فليس الوصول إلى قمته بالأمر الهين، ولكن بعد الصعود إليه يحس المرء بأنه بذل جهدا ، وما الحياة إلا جهد ومكابدة ومعاناة ولهذا قال الشاعر:
ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
أمّا البحر والصحراء فإنّ ما يعجبني فيهما هو الإمتداد والتواصل ، فالكثبان الرملية في الصحراء تشبه أمواج البحر، فهي في تموّجها وتنقّلها تحاكي تقلّبات أمواج البحر. والصحراء إذا غضبت وعصفت الرياح بكثبانها لا تبقي ولا تذر ، كما أن أمواج البحر العاتية لا تقف أمامها الناقلة المحملة بأثقل المواد. وهما برغم اختلافهما الظاهري متّفقان في كلّ شيء، عند الغضب وعند الرضا. وكأنّ البحر أبى إلاّ أن يترك بصماته في الصحراء برغم أنه هجرها منذ عصور جيولوجية بعيدة، ولعل الحنين يقوده يوما فيعود، وتنقلب الصورة ويصبح الأخضر يابسا واليابس أخضرا وينقلب الزمان وترى الحفاة العراة العالة رعاء الناس يتطاولون في البنيان وتلد الأمة ربّتها، فنسأل الله العفو والمعافاة.
وهما (البحر والصحراء)كليهما في علاقة مباشرة مع الإنسان، إذ ألهماه الشعر والأدب والجمال. فالشاعر العربيّ في الجاهلية أخذ من الصحراء شموخها وتحديها وقسوتها، فكان حبه وسيفه وفرسه وحدة متكاملة، هذا الفارس الذي يغشى الوغى ويعفّ عند المغنم، كما أنه إذا مدّت الأيدي إلى الزاد لم يكن بأعجل القوم، وأما إذا ناد منادى الحرب تراه أوّلهم حاملا سيفه الذي هو مستودع سره.
وأمّا الشاعر الذي عاش على ضفاف البحر، حيث الربيع بأزهاره، والطقس يترنّم على أوتار أمواجه، والعصافير تزقزق متغنّية بنعمه وأفضاله، هذا الشاعر تجده رقيق الطبع، مرهف الإحساس، تتفاعل معه الطبيعة، فيعتلّ النسيم لإعتلاله، كما تبكي الأزهار لبكاء هذا المحبّ الولهان.
وأنتبه من خواطري فأنظر من نافذة الحافلة فإذا الجبال تحيط بنا عن اليمين والشمال. فأشعر بقوّتها وصلابتها، فأزداد لها حبّا. وأرفض أن أقبل العيش بين الحفر. وهو ماجعلني أحبّ الجبال. وقد كنت أحسّ بالسعادة تغمرني وأنا أحقق أشياء أسعدتني وجعلتني أفتخر بذلك بين أصحابي الذين هاجروا معي وسيطر عليهم الخوف من الغربة، واعتبرها آخرون مقبرة تستحيل معها الحياة. وهذا ما كان يعمّق في نفسي الإحساس بالسعادة. هذه الحالة الشعورية ولّدت في نفسي إحساسا عارما بالتحدي الإيجابي، فلم أعد أقبل أن يقال: هذا الشيء صعب أو مستحيل وكنت أحاول أن أناقش منطق اللغة في كلمة مستحيل. فبدا لي أن قطاعا كبيرا من الأمة جعلوا من لفظ "مستحيل" و"صعب" علاّقا وشماعة يعلّقون عليه عجزهم وتقاعسهم وتكاسلهم، فعند أول صعوبة تواجهنا نفرّ فرديا أو جماعيا وحتى حضاريا إلى هذا البعبع الهائل الذي نسميه "مستحيلا" الذي تضخّم أمامنا حتى صار غولا نخشاه ونخافه، ولا نستطيع أن نخرج من بوتقته. وبقينا أفرادا ومجتمعا وحضارة ندور في فلك هذا المستحيل، وإسرائيل وقوى الهيمنة العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تغتصب فلسطين، وتنشئ المستوطنات، وتقيم الحواجز، وتفتك أجزاء من أرضنا وعرضنا وتاريخنا وحاضرنا… حتى غدا تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا يكتب بأيد غير إسلامية ويصنع في بلاد غير بلادنا وذكرتني هذه التأملات بالحوار الذي درا بيني وبين أحد الإخوة بعد زيارتنا للمسجد النبوي وأن أشياء كثيرة فيه صنعت بأيد غير إسلامية. فساءني ذلك وغمّني كثيرا. فضرعت إلى الله بالدعاء راجيا أن يزيل النكبة عن الأمة، ويرفع عنها الغمة.
وأنظر إلى جنبات الطريق فأرى الجبال من جديد، وكأنها تتحدّاني، وتقول لي إنّ هذا الذي تسميه مستحيلا هو واقع حقيقي لا مواربة فيه. فأدخل في حوار معها طالبا منها أن تكون رحيمة بي، وأذكرها بأن فيها أحد، جبل نحبه ويحبنا. فتتوارى بعض الشيء عن الطريق وكأنّها رقت لحالي، ولكنها ما تلبث أن تعود فأعود إلى التأمل حتى أرخى الليل سدوله. فأتوقف عن الكتابة لعدم وجود الضوء الكافي، ولكن تتواصل الأفكار تداعب ذاكرتي، وتتصارع في ذهني وعقلي فأغلق كراساتي وأنشغل بالتسبيح.
ثم فجأة أتذكر أبي الذي حرمت من رؤيته منذ ما يزيد عن العشر سنوات فتسيل الدموع غزارا.
وتأتي الإستراحة فتكون مناسبة طيبة للتزود بالماء وتجديد الوضوء، وشراء بعض المأكولات الخفيفة. خاصة وأن الطقس تحسن وانخفضت درجات الحرارة، وزال العرق، والإرهاق، وتجدّدت القوة.
طريق العودة إلى جدّة
بعد صلاة العصر من يوم 19/02/2003 بدأنا بإعداد الأدباش، وتغيير الملابس استعدادا للسفر إلى مطار‌ جدة الدولي، مع صلاة المغرب كان كلّ شئ جاهز تقريبا، فأدينا صلاة المغرب والعشاء جمعا وقصرا، وودعنا الاخوة في الندوة الذين أكرمونا كرما بالغا طيلة إقامتنا في رحلة الحج.
وكان أهم الذين تركوا انطباعا جيدا عندي هو الأخ الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي الشيخ الدكتور صالح الوهيبي الذي انبهرت بتواضعه ورقته. فلقد كان دائم الابتسامة وإشراقة الوجه. كما لا يمكنني أن أنسى الأخ أبو فراس فلقد كان نعم الرجل الشهم الكريم، فهو خدوم، متواضع، لين المعشر، حسن الكلام، قريب إلى القلب، باسطا يده بالعون والمؤازرة إلى كل إخوانه.
مطار جدة
يحتاج المطار إلى فصل خاص به، ذاك أن الذي يحدث به جدير أن يدون ويوصف بالتفصيل عسى أن يلفت ذلك نظر المعنيين فينتبهوا ويصلحوا والله ولي التوفيق.
إذا قلت أن المطار هو أشبه بيوم الحشر، أو المرور على الصراط فإنّي لا أجانب الحقيقة. إذ أن المسافر يجد فيه كلّ الأجناس: الأصفر، والأزرق، والأسود، والأبيض، العربي والتركي، الأفريقي والأوربي، الهندي والصيني،… أتوا كلهم وكأنهم على موعد واحد. والخدمات برغم الجهد المبذول فإنها لم ترتقي إلى تسديد احتياجات هذا الكم الهائل من الزوّار.
كان موعد إقلاع طائرتنا إلى ألمانيا على الساعة الواحدة والنصف ليلا، تأجّلت إلى الساعة السادسة صباحا ثم إلى الثامنة ثم إلى وقت غير معلوم.
مرت الساعات الأولى عادية فالمعنويات ما زالت مرتفعة، والقدرة على الاحتمال عالية، ولكنها مع الزمن ضعفت بل وتلاشت عند البعض.
عم الهادي شيخ المجموعة التي كنت أنتمي إليها، رجل متواضع، أحس بالتعب والإرهاق فافترش الأرض ونام، فأشفق عليه صديقه فتحي وطلب مني أن آتيه بفرش على أن يبقى هو في حراسة أدباشنا، وبعد تفتيش طويل عثرت على بقايا كارتون فأتيته بها وناولته إياها فافترشها وواصل نومه.
لقد وصفت هذا اليوم بالحشر الأصغر دون مبالغة، فبعد طول انتظار يسّر الله لنا أن نسلّم حقائبنا، ودامت هذه العملية حوالي ست ساعات، وشعرنا بالراحة أن سلمنا الحقائب فلقد كانت تمثّل عبئا ثقيلا علينا.
بعد أن سلمنا الأمتعة انتقلنا إلى دائرة مراقبة الجوازات فعلمنا أنها لم تفتح بعد فذهبنا إلى مسجد المطار لأداء الصلاة والنوم. وبعد مدة قيل لنا أنه يمكننا الآن تسليم جوازاتنا. ودامت هذه العملية حوالي أربع ساعات. ولقد كنت منشغلا بالوقت وحسابه حتى أحاول ان أنسى رتابته ومتاعبه. فأحصيت تقريبا كل مرحلة من هذه المراحل التي سميتها مرحلة الحشر الأصغر. وبعد أخذ ورد وتغيير لهذا الطابور محل الطابور الثاني، وإدخال النساء ثم إخراجهن بدعوى عدم وجود العمال ثم إعادة إدخالهن إلى قاعة تسليم الجوازات برغم أن العمال لم يأتوا بعد.
ثم يفتح باب القاعة لمراقبة الأدباش إلكترونيا ويبدأ العمل، أي يدخل مجموعة من النسوة إلى البهو الثاني حيث تبدأ الحلقة المواليةمن الأنتظار الممل. ولكن وبعد برهة يأتي ضابط ويصرخ: "أين العمال؟" ولم نفهم ماذا يقصد! ثم يأمر أن تخرج النسوة اللآتي دخلن، فيخرجن. ويكرر سؤاله :"أين العمال؟" مرات ومرات. وكانت العيون تتسائل حائرة عمن يتكلّم هذا الضابط؟ لأنه كان يتكلّم وينظر إلينا. وبعد وقت أجابه أحد العمال هناك:"العمال في البهو الآخر" فيجيب الضابط :" وماذا يفعلون؟" فيجيبه العامل :" إنهم هناك وسوف يأتون" فينهره الظابط ويأمره بالذهاب إليهم وأمرهم بالقدوم!! فيخرج العامل. وعم أبو خلاد يسعل بشدّة والمرض يشتد عليه!
ثم يذهب الضابط ويأمر من جديد بإدخال النسوة اللاتي خرجن ويبدأ العمل. ولكن العمال لم يأتوا.
وندخل البهو الجديد وتبدأ سلسلة جديدة من الإنتظار والمعاناة. وهذه المرة يطول الطابور وتمتلئ القاعة من جديد ويكثر السعال، وترتفع الحرارة. ويجلس النسوة أمام الباب المخصص للنساء والرجال أمام الباب المخصص للرجال. ويطلب من مجموعتنا ، نحن ضيوف خادم الحرمين الشريفين، أن نقف أمام باب النسوة. ثمّ يأتي أمر بأن يغيّر النساء مكانهنّ إلى الباب المخصص للرجال والرجال أمام الباب المخصص للنساء. فتحدث فوضى عارمة وجلبة كثيرة.
أمامنا من الناحية المقابلة جلس الأعوان على مكاتبهم أمام أجهزة الحاسب الآلي. فشعرنا بالفرح والإنشراح لأن الإنتظار سيزول وأن المحنة لن تطول. أو هكذا كنا نعتقد. وبعد وقت طويل، ينزل الأعوان من مكاتبهم ليتسكعوا في القاعة، فخاب أملنا، وعم أبو خلاد ازداد سعاله. طبعا لم يكن عم أبو خلاّد هو المريض الوحيد وإنما كان السعال كالموسيقى الراتبة. يخفت في ركن ليرتفع في ركن آخر وهو مرة رقيق ومرّة غليظ مزعج. ولكنه منسق ومتتال بل وفي بعض الأحيان صاخب ومرتفع. مثل السمفونيية التي ترتفع طبقاتها وتنخض حسب ما يحدّده المايسترو. أمّا أعوان الأمن فإنهم يبتسمون بل ويضحكون، فيضيفون على الجوقة رونقا آخر أقرب إلى البعد الملحمي إلتراجيديّ منه إلى البعد الفني الموسيقي. إنها ملحمة الإلياذة والأوديسا ، أو مسرحياة شكسبير ، سمّها ما شئت . أبطالها المسافرون ومسرحها المطار وموضوعها التعب والإرهاق والأمنية الجميلة .
بعد المرور من نقطة مراقبة الجوازات أتت مرحلة طبع الجواز للخروج. ودامت هذه العملية ساعة من الزمن. وخرجنا إلى الحافلة وكانت فرحتنا عارمة إذ شعرنا أن ساعة الخلاص قد قربت، وأنّها فرجت. ولما وصلنا الطائرة اضطررنا للإنتظار ثلاث ساعات أخرى ولقد سألنا في الطائرة عن سبب التأخير فقيل لنا إن الطائرة موجودة منذ مدة طويلة ولكن إدارة المطار هي التي تتحمّل المسؤولية. وأما إدارة المطار فإنها تقول إن الطائرة لم تأتي. فيا ليت شعري من الصادق؟
هي مجموعة من الأسئلة التي ظلت تدور بخلدي ولا أجد لها جوابا. لماذا كل هذا التأخير؟ هل لأن العدد ضخم وأن فترة الحج قصيرة مما يشكل عبئا كبيرا على إدارة المطار؟ أم أن المسافرين تنقصهم آليات التنظيم مما يعقّد المسألة ويجعل عمل إدارة المطار أصعب؟ أم أن الطائرة فعلا تأخرت كما قيل لنا؟ وقد تكون كل هذه الأسباب مجتمعة! فمما لا مجال للشكّ فيه أن عدد المسافرين هائل وأن إدارة المطار عاجزة على المستوى اللوجستي على تنظيم الرحلات المتعددة؟ أم أن المسألة تحتاج إلى عقل تنظيمي فقط؟!!
أصدقاء تعرفت عليهم في الرحلة
في هذا الفصل أردت ان أقدّم لبعض الأصدقء الين تعرفت عليهم في رحلتي هذه وتركوا لديّ أحسن الانطباعات . وقد جمعت بيننا طيلة الأيام التي قضيناها علاقة حب ومودّة رفيعة. ولقد آثرت أن أقدمهم إليك، عزيزي القارئ لما لقيمة الأخوّة والحب في الله من أثر طيب على العلاقات الإنسانية، ولما لفريضة الحج من فضل فهي ليست فقط فرض يؤديه المسلم وإنما هي فرصة لاكتشاف عظمة الله في جمع عدد هائل في وقت واحد تحفهم ملائكة الرحمة، ويستظلون بنور الرحمة الربانية، وينهلون من نبع النبوة الصافي. ولكني في هذا التعريف آثرت أن أقدمهم على طريقتي الخاصة ، أي كما عرفتهم أيام الحج ، ولم أهتم كثيرا بما يفعلونه في بلادهم وأي دور يقومون به أو أي طائفة يقودون أو يمثلون. وإنما وصفتهم كما التقيت بهم، وإلى القائمة دون أطالة:
1 صبري الشريف: شاب ليبي الجنسية، منذ أن رأيته لأول مرة في مطار فرانكفورت أحسست أنّي أعرفه من زمان فوثقت به واطمأننت إليه، ثم علمت بعد ذلك أنه أمير مجموعتنا، فحمدت الله لأنه قل ان تجتمع خصال كثيرة كتلك التي اجتمعت في صبري.
صبري شاب في الثلاثينات من عمره، مثقف إسلاميا وعلميا، فهو خريج الجامعة الكندية. عاد إلى بلده ودرّس هناك في الجامعة ولكن لم تطل هذه الفترة كثيرا فتركها فارا بدينه. ويعتبر صبري أهم شخصية تعرفت عليا في الرحلة كاملة، فلقد كان خدوما، مرحا، ليّنا في يد إخوانه، تفاعل معي وأصبحنا صديقين حميمين.
2 أبو خلاد: ولقد سبق أن ذكرت أنه كان مريضا في آخر أيام الحج. كان أبو خلاّد متواضعا، حكيما، كنت أجلس إليه عندما نعود إلىالسكن فأسأله ويحدّثني حديث الخبير المجرب، وأنا أستمع إليه وأنصت، إنصات المريد إلى شيخه يتعلّم منه قواعد الطريقة. علمت منه أنه أثرى العمل الإسلامي في أوربا وربى أجيالا وأجيالا.
خواطرعامّة
أضفت هذا الفصل لأتحدّث فيه عن ملاحظات عامّة على هامش الرحلة وهي وإن كانت في جوهرها مواصلة للذكريات إلاّ أني لم أخضعها لترتيب دقيق مثلما فعلت مع تفاصيل الرحلة والمناسك. وإنما كانت ملاحظات عامّة شملت الأسواق والمتسولين واستخلاصات عامة عن بعض سكان مكة والمدينة وضعتها تحت فصل الشعب السعودي تجوزا ومبالغة لأن الباحث الإجتماعي لا يستطيع أن يقيّم شعبا أو حضارة في زيارة خاطفة ليس هدفها أصلا الدراسة الحضارية والثقافية للشعب السعودي وإنما هي عين الملاحظ التي لم تغفل عن بعض الأشياء فكتبتها عسى أن تكون قد لامست الحقيقة أو قاربتها.
الأسواق:
الأسواق في المدينة متسعة مريحة تحيط بالحرم النبوي في حين أنها في مكة تتسم بضيق أنهجها وتلاصقها ومحافظتها على الجانب التقليدي الأصيل عكس المدينة المنوّرة التي هي أقرب إلى المدينة المعاصرة والحديثة.
الملاحظ أيضا أن أغلب التجار في مكة المكرّمة من ذوي الأصل الشرقي (الباكستانيون أو الهنود…) وأغلبهم لا يتقنون اللغة العربية. فعربيتهم ركيكة ولا يعرفون منها أساسا غير أسعار وأثمان البضاعة التي يبيعونها، ففقههم للغة لا يتجاوز فقه الريال. ولكن لست أعلم إن كان هؤلاء مجرد يد عاملة أم أنهم فعلا أصحاب تلك المتاجر والمحلاّت. أما في المدينة المنوّرة فإن أغلب التجار يمنيون دمثوا الأخلاق، لينوا العشرة، يجيدون المعاملة والتجارة، كما أن بضاعتهم جيدة وتلقى القبول الحسن من الحجاج والمعتمرين.
المتسوّلون:
ترى العجب، الكسيح والقعيد، والطفل والعجوز وذو اليد الواحدة وذو الساق الواحدة، أو نصف الساق، مظاهر تثير الفزع والهول. ولكن ما لفت انتباهي هو الجلسة الثلاثية لبعض المتسوّلين وهو أن تجلس المرأة وأمامها طفلان أقل من السادسة وتكون هي بمثابة الرقيب وقد حدّثني أحد الأصدقاء أنه شاهد إحداهن وهي تسحب بنتا صغيرة جدّا فوق الرصيف سحبا، وقادتها إلى أن اختفت عن الأنظار، وظلّ متسمّرا في مكانه ليتابع هذا المشهد المفزع، حتى توارت عن الأنظار ولم يحرّك أحد ساكنا.
الشعب السعودي شعب أقرب منه إلى الفطرة العربية الأصلية برغم الأشكال المادية المعاصرة، فالحداثة والمعاصرة بقدر ما تتداخل بقدر ما يلاحظ المرء أن هناك محاولة للتصالح بينهما، وهذه المحاولة دقيقة وصعبة إذ أنها قد تؤدّي إلى نقيضها ولكن تلاحظ أنّ هناك جهد كبير للإبقاء على هذه الحالة من الجميع، وهناك رضا شبه كلي على هذا النمط التصالحي.
ومما لا شك فيه أن أحداث 11 سبتمبر والضغوط الأمريكية على المملكة تلقي بظلالها على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.
فالصحافة والإعلام لا تفتأ تذكر بجهود المملكة في إرساء اسس الإسلام المعتدل الذي يعترف بالمدنية ويثمّن الجهد الإنساني العلمي والتقني. وفي المستوى الثقافي تتكاثر المؤتمرات العلمية التي يدعى إليها ضيوف ومفكّرون يمثلون أغلب وأبرز التيارات والمدارس الفكرية الموجودة على الساحة الإسلامية والعربية، وهذه الجهود لا بد لي أن أثمنها وأن أدعو إلى تواصلها لأنها هي التي ستقود إلى حوار فكري ستظهر نتائجه في المستقبل.
أما في الشارع السعودي فأنك إذا تحدثت مع أحد المواطنين خاصة ممن تجاوز العقد الثالث من عمره تستشف من حديثه هذا البعد التصالحي المرن.
أما الشباب في سن المراهقة وأكثر بقليل فإنهم يحتاجون إلى عناية اكثر لأنهم يتوزعون على صنفين أساسيين:
الأول صنف منبهر بالنموذج الغربي في شكله الأمريكي خاصة والثاني رافض رفضا مطلقا لهذا النموذج ولا يخفى على العارف بحركة الإجتماع الإنساني ما يمثل ذلك من خطورة على المستقبل المنظور للملكة.
حج مبرور وذنب مغفور وسعي مشكور
هكذا عزيزي القارئ أصل معك إلى الكلمات الأخير من هذه الرحلة المباركة التي أسأل الله أن يقبلها خالصة لوجهه الكريم، ولكن قبل الجمل الختامية أريد أن احدثك عن آخر مفاجئة في الرحلة وهي أننا عندما وصلنا إلى كمطار فرانكفوت بقينا ننتظر في المكان المخصص للحقائب لتسلّمها ولكنها لم تأتي. وبعد أن عيل صبرنا ، سألنا المسولين هناك حقائبنا، فأعلمنا أحد المشتغلين هناك بأن كل الحقائب التي كانت في الطائرة القادمة من جدة قد وصلت ولما سألناه عن حقائبنا تثبت من الأمر ثم أعلمنا بأنّها شحنت في طائرة أخرى إلى مطار آخر، كما طمأننا إلى أن شركة الطيران ستبذل قصارى جهدها من أجل أن تعيد لنا حقئبنا. فتوجهنا إلى مكتب الإستعلامات وسجلنا على عادة العربيّ في مثل هذه المواقف أحتجاجا على ذلك. ورجعنا نجر أثيال الحسرة والأسى فلقد كان الواحد منا قد اشترى لأسرته هدايا، ولأطفاله لعبا، ولزوجته ما يطمئن فؤادها، ولكن هيهات فلقد رجعنا إلى أهالينا صفر اليدين. ولم تلتحق بنا أمتعتنا إلا بعد حوالي الشهر.
نسأل الله العلي القدير ان ييسّر لجميع المسلمين الحج وأن يحفظ البيت الحرام من كل سوء وإنه على ذلك لقدير وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.