من جديد تتحرك "ماكينة" القضاء الفاسد التي وظفها بن عليّ لضرب الشرفاء وكتم أصواتهم لتُخرج دون حياء أو وجل قضايا كيدية من أدراج كان الأولى أن تكشف جميعها للشعب من أجل تنويره بما كان يحصل زمن الإستبداء، وما يجب أن لا يحصل في زمن دفع فيه شعبنا ثمنا باهضا من دماء أبنائه وحريتهم وأرزاقهم. مطالب عديدة ذهبت في زمن "الثورة" أدراج الرياح، وأمن المجرمون المندسون في كل المواقع من المحاسبة أو كشف أسرارهم حتى لا تكون لهم الجرأة مجددا لتكرار أفعالهم. فلا أرشيف البوليس السياسي فتح ، مع أرشيف المتعاملين معه المؤتمرين بأمره في كل المواقع والإدارات. ولا أرشيف القضاء الفاسد عرض على الناس حتى يعرفوا طريق الخلاص لبناء منظومة قضائية مستقلة. ولا قوائم سوداء لصحفيي البوليس السياسي وعبد الوهاب عبد الله و"الحجامة" نشرت، فتساوى في ذلك الصحفي الشريف بالصحفي البوليس، وكل من رفع صوته في الوقت الضائع وزعم أنه مناضل من أجل الكلمة الحرة وحرية الإعلام، وكذب الكذبة وصدقها هو وأمثاله! الصديق والزميل المولدي الزوابي لم يكن من مناضلي الوقت الضائع، أو من الذين ترتفع أصواتهم اليوم "عهرا" وكذبا، بل كان رجلا صادقا في زمن قل فيه الرجال في ميدان الصحافة والإعلام، وكان شريفا في وقت قل فيه شرفاء هذه المهنة. لو أنه أراد أن يسلك طريق غيره من بائعي الذمم لوجدها سالكة ميسرة ولأغدق عليه من غير حساب. ولكنه اختار طريقا آخر وحاول أن يكون فيه صادقا متوازنا ملتزما بشرف المهنة ومتحملا تبعات ذلك من هرسلة واعتداءات متكررة وضرب وتلفيق للقضايا الكيدية وقطع النت عنه وعزله وإجبار مالك العقار الذي يستأجره لطرده منه. وقد بلغ الأمر ببوليس "بن علي" ملاحقة ابنه ذي الخمس سنوات "محمد عزيز" لطرده من الكتاب! المولدي جمع بين النشاط السياسي، زمن الإستبداد والنشاط الحقوقي واهتم بالبيئة والقضايا الاجتماعية! كانت وسائله بسيطة جدا ولكنه تنقل في أرياف الشمال الغربي واستطاع بلا منازع أن يكشف زيف الرخاء والإزدهار الذي أصمت به آذاننا صحافة "بن عليّ" من مناضلي اليوم الأشاوس!! دمعت عيوننا مرات والله وبكت قلوبنا من معاناة مواطنينا في الشمال الغربي من شدة الفقر والحاجة والخصاصة في "مشاهد" مسموعة عبر الموجات المخنوقة لراديو "كلمة" حينها، أو بعض الصور الفتوغرافية التي كنت أستلمها منه في ساعة متأخرة من الليل لتنزيلها في موقع كلمة. مشاهد كثيرة مازالت راسخة في الذهن مما نقل إلينا المولدي عندما كانت الصحافة في بلادنا "مهنة متاعب" بحق! لازلت أذكر ذلك الرجل الذي يقسم بالأيمان المغلظة أن اللحم الأحمر لا يدخل بيته إلا مرة واحدة في السنة عند عيد الإضحى وأنه يكون محظوظا عندما يستطيع أن يأتي بقليل من "كبدة الدجاج" لأولاده. وذلك الشيخ الستّيني (المرّوكي) الذي انتحر حرقا بسبب الفقر وعجزه عن توفير القوت لبناته، وكانت حادثته قبل حادثة البوعزيزي بأكثر من سنة تقريبا. وذاك الشاب الذي يهدد بقتل نفسه وزوجته بسبب الخصاصة واليأس... إلى آخر ذلك من المآسي التي لم نكن نسمعها من مناضلي اليوم وأبواق الأمس. أحبّ المولدي وأحترمه وأكبر نضاله ومقاومته للاستبداد، عملنا معا طويلا، تحمل هو العبء الأكبر في وقت ما من داخل تونس ليستمرّ راديو كلمة في آداء رسالته، عملنا معا لوقت طويل، جمعنا الاستبداد و"فرقتنا" الحرية والظروف الحالية. مسألة واحدة لم تعجبني منه في حاضره بلغتها له مباشرة وتقبلها مني بصدر رحب، فزدت احتراما له وتمنيت له أن يبقى في مستواه العالى ولا يختلط بالمستويات المنحطة، وتمنيت أن يكفيه الله الحاجة إلى من هو دونه خلقا وأدبا ووعيا. لو كنا في "ثورة" حقيقية حري بالمولدي وأمثاله أن يكرّموا وأن تفتح المحاكمات العادلة للأنذال الذين نكلوا به وبأمثاله! ولكن ما حيلتنا والثورة قد تحالف عليها أعداؤها وأنصارها بالأمس! وما حيلتنا والقضاء رغم درنه "مستقل"!! وما حيلتنا والعهر لا يستحي من تسويق نفسه زعيما للشرف!