بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    آخر ملوك مصر يعود لقصره في الإسكندرية!    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    قيس سعيد: الإخلاص للوطن ليس شعارا يُرفع والثورة ليست مجرّد ذكرى    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحد المنطقي والنص الأصولي والصعوبات المشتركة


بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله و اصحابه وسلم تسليما
الشيخ احمد ولد محمد محمود ولد بيبني: انواكشوط
لقد قيل الكثير من الكلام عن العلاقة التي تربط بين المنطق اليوناني واصول الفقه الاسلامي. فالاكثرية الساحقة تميل الى الفصل بينهما، فكل منهما يمثل منهجا و طريقة في التفكير مغايرة لللآخر. بينما يذهب البعض الى القول بالتقارب الكبير بين المنهجين الى حد القول بأنهما وجهين لعملة واحدة. ولعل في وجوه التقارب بين الحد المنطقي والنص الاصولي علي مستوى الصعوبة التي يطرحها كل منهما ما يؤيد من صحة الموقف الأخير.
1 صعوبة الحد:
من نتائج اليقين المطلق في المنطق انه ادي الي تعذر اليقين والتشكك في الامور الواضحة والبسيطة، أي ان الاصرار على اليقين واليقين المطلق ادى إلى نتائج عكسية وهي الشك في الامور الواضحة على منهج السفسطائية، كما تسرب مفهوم اليقين المطلق هذا الى الدراسات الاصولية حيث تعذر الوصول الى اليقين في الأدلة الواضحة والبسيطة و ذلك ما سنلاحظ في السطور التالية.
مثل الحد القسم الأول للمنطق، أما القسم الثاني فهو التصديق فعادة ما تنقسم أبحاث المنطق وأقسامه إلي هذين القسمين أي الحدود وهي التصورات التي تتناول الأفراد والثانية التصديقات وهي الحجج وأنواع الاستدلال، ومن شأن الحد أن يتقدم أولا لتوقف المركب على البسيط، والمؤلف على الفرد. ولهذا يقول ابن سينا في تقديم مبحث الحد « ولما كان الشيء المؤلف من عدة أشياء يستحيل أن تعرف طبيعته مع الجهل لبسائطه، فبالحري أن يكون العلم بالمفردات قبل العلم بالمؤلفات»[1]
إن أهمية الحد تكمن في أنه المادة التي يتركب منها الحكم، أو القضية. وهو أيضا ما يتركب منه البرهان، لأن المقدمات والنتائج هي عبارة عن قضايا يعبر عنها بحدود، تسمى أحيانا بالأكبر والأصغر أو بالموضوع والمحمول.
و يعرف أرسطو الحد بأنه: « القول الدال على ماهية الأمر» أو هو: « القول الدال على ماهية الشيء» فالحد أو المفهوم يعبر به عن طبيعة الشيء، يعرفه ويحدده وبعبارة أخرى «هو ماهية الشيء».[2]
وقد ميز أرسطو بين الحد اللفظي والحد المنطقي، فالحد اللفظي يختصر على الدلالة والمعنى، وحد الأشياء يقتضي أن تكون بالأوصاف الذاتية والماهيات والمعبر عنها بالألفاظ، فالتعريف بالحد الأرسطي يقع على صورة الشيء الذهنية، أي لا يقع على الاسم الذي هو الرمز أو العبارة عن هذه الصورة.
إن البحث عن الحد يبدأ بالتصور، والتصور هو إدراك المفردات المحسوسة والمعنوية فالعالم تصور محسوس ، وحادث هو تصور معنوي، وهذه التصورات تنقسم إلي قسمين: أولي وهو الذي يقول عنه الغزالي: « ما يرتسم معناه في النفس من غير بحث وطلب، كلفظ الوجود والشيء وككثير من المحسوسات، ومطلوب وهو الذي يدل اسمه علي أمر جملي غير مفصل، ولا مفسر فيطلب تفسيره بالحد»[3] إلا أن ابن سينا يري أن كلا من التصور والتصديق، يتطلبان معرفة سابقة، ليكونا معلومين، فهما مجهولين يعرفان بمعلوم، مما ينفي صفة البداهة عنهما، يقول ابن سينا: «فيكون التصور والتصديق كل واحد منهما لا يحصل معلوما إلا بالكسب ويكون كسب كل واحد منهما بمعلوم سابق متقدم»[4]
ومن المعلوم أن الحد والتعريف والقول الشارح والمفهوم والماهية لها معاني واحدة فأرسطو يقول في حد التعريف مثلا : « التعريف هو العبارة التي تصف جوهر الشيء»[5]
وهناك مستويين للتعريف أحدهما الحد التام والثاني الحد الناقص لذلك يسمى الأول باسم الحد ويسمى الثاني باسم الرسم، وإن كان الغزالي قد أضاف حدا ثالثا وهو الحد اللفظي فهي إذن ثلاثة مستويات من الحد أو التعريف.
فالحد اللفظي لا يبدو أنه من الأهمية بمكان عند أرسطو، ذلك أن الحد اللفظي مثلما يشير إليه مصدره اللغوي هو عبارة عن أصوات ترمز للانفعالات النفسية فإن هذه الرموز تختلف من لغة إلى أخرى، وما يبقى قاسما مشتركا هو الصورة الذهنية التي ترمز إليها العبارات والأصوات «وإذن فاختلاف الأصوات والألفاظ والعبارات من لغة إلى أخرى لا يقوم حائلا دون وحدة الفكر»[6]
ولهذا قال ابن حزم: «إن المحارجة في الأسماء لا معنى لها، وإنما يشتغل بذلك أهل الهذر والنوك والجهل» وقال الغزالي مؤكدا على أولوية المعاني وضرورة طلبها دون الألفاظ: « فاعلم أن كل من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك، وكان كمن استدبر الغرب وهو يطلبه، ومن قرر المعاني أولا في عقله ثم اتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى»[7]
كما ازدرى ابن سينا باللغة مؤكدا على أن الضرورة في التعبير عن الأفكار، هي التي ألجأت إلى استعمال الألفاظ والاشتغال بها عن المنطق، ويمكن في حالة معينة الاستغناء عنها بصورة كلية، يقول ابن سينا: « فلو أمكن أن يتطلع المحاور فيه على ما في نفسه بحيلة أخرى، لكان يغني عن اللفظ البتة، لكن لما كانت الضرورة إلى استعمال الألفاظ فاضطرت صناعة المنطق إلي أن ينحصر بعض أجزائها نظرا في أحول الألفاظ»[8]
إذا لابد من الاهتمام بالألفاظ، واعتبارها تقدم المستوي الأول من مستويات الحد، وهو الحد اللفظي. وهو تعريف شيء بواسطة لفظ أوضح منه، أو بواسطة لفظ مرادف له، وأشهر عند التخاطب. مثل تبديل لفظ العقار بالخمر، والبر بالقمح. وإذا كان اللفظ الشارح أكثر غموضا فهو حد مرفوض يقول أبو بكر الباقلاني: « الحد هو المحدود بعينه، ولو كان غيره لم يكن حده، وإنما على الحاد أن يأتي بعبارة يظن السائل عالما بها، إن جهل ما سأل عنه، فإن جهل العبارات كلها فسحقا سحقا» وقال الغزالي في الحد اللفظي« وهذا أيضا إنما يحسن بشرط أن يكون المذكور في الجواب أشهر من المذكور في السؤال، ثم لا يكون إلا شرحا للفظ».
النوع الثاني من التعريف هو التعريف بالرسم، وهو كما عرفه ابن حزم: «قول وجيز مميز للموضوع عن غيره» وقال الغزالي: «هو لفظ محرر جامع مانع يتميز به المسؤول عن غيره، كيفما كان الكلام، سواء كان عبارة عن عوارض ذاته، ولوازمه البعيدة عن حقيقة ذاته، أو حقيقة ذاته».[9]
ويكون التعريف بالحد الرسمي عادة بالجنس البعيد والصفة. كما تقول في تعريف الإنسان بأنه حيوان ضاحك، فإذا عرفت الشيء بذكر الجنس والخاصة، كقولنا الإنسان حيوان نحوي، أو الإنسان حيوان ضاحك، كان تعريفنا وصفيا وهذا هو الرسم بالاصطلاح العربي، وهو تمييز الشيء عن غيره... فالتعريف بالخاصة أو بالعرض العام (فهو) لا يفيد الماهية، بل إنما هو ذكر لبعض صفات الشيء»[10]
التعريف باللفظ والرسم لا يعبران عن ماهية الشيء. لذلك قال الغزالي: « وأما الحد اللفظي والرسمي فمؤونتهما خفيفة، إذ طالبهما قانع بتبديل لفظ العقار بالخمر، وتبديل لفظ العلم بالمعرفة، أو بما هو وصف عرضي جامع مانع. وإنما العويص المتعذر هو الحد الحقيقي وهو الكاشف عن ماهية الشيء لا غير»[11]
النوع الثالث وهو موضوع الحد في المنطق هو الحد بالماهية الثابتة. ولا يمكن أن يكون بالعوارض أو الألفاظ. فالحد عند أرسطو هو المعرف للماهية، وهو قمة العلم واليقين. وهو عند ابن خلدون هو غاية المنطق التي هي: « راجعة إلى التصور لأن فائدة ذلك إذا حصل فإنما هي معرفة حقائق الأشياء التي هي مقتضى العلم الحكمي»[12] وإذا كان الأمر كذلك كيف يقتنص الحد؟
يرى أرسطو أن الشيء يحمل في طبيعته خصائص ذاتية وخصائص عرضية. وهذه الخصائص هي بصفة عامة الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام. وهذه الخمسة لا يمثل ماهية الشيء منها إلا بالجمع بين الجنس والفصل. والجنس «هو ما يحمل ماهويا على أشياء كثيرة تختلف بالنوع» فالجنس له مقام كبير في الحد من حيث أنه الأرضية الأولى التي يقوم عليها التعريف، فعندما نقول الإنسان حيوان، نكون قد حددنا الدائرة التي ينتمي إليها الإنسان، ويبقى علينا إذن أن نفصله عن غيره، من الكائنات التي تدخل في نفس الدائرة وهذا ما يتم بذكر الفصل النوعي فنضيف إذن كلمة (عاقل) الإنسان حيوان عاقل، إذن يأتي الفصل كصاحب الدور الثاني في تحقيق الماهية، فالفصل إلى جانب كونه أخص ما في الشيء فهو أيضا المقوم الأول لموجوده. إلا أن الفصل لا يستغنى عن الجنس فعاقل وحدها لا تكفي لتحديد الإنسان، فثمة كائنات عاقلة أخرى لكن إذا قلنا الإنسان حيوان ناطق فقد صارت الماهية محددة.
الحد الذي يكون به مفهوم الشيء، هو مجموع فصوله، أو بعبارة أخري استكناه جميع أوصافه الذاتية، ولهذا لابد من التمييز بين الذاتي والعرضي واللازم، أما العرضي فقال الغزالي: أعني به ما ليس من ضرورته أن يلازم، بل يتصور مفارقته، إما سريعا كحمرة الخجل، أو بطيئا كصفرة الذهب، وزرقة العين ، وربما لا يزول في الوجود، كزرقة العين، ولكن يمكن رفعه بالتوهم.
فالعرضي هو أن نذكر أعراض الشيء، كما نقول في الخمر: هو المائع الذي يقذف بالزبد ثم يستحيل إلي الحموضة ويحفظ في الدن، فنحن هنا نعرض صفات يشترك فيها الخمر مع سوائل أخري، مائعة وتقذف بالزبد وتستحيل إلي الحموضة، كالكوكاكولا مثلا، أما اللازم فهو ما لا يفارق الذات البتة، ولكن فهم الحقيقة والماهية غير متوقف عليه، كوقوع الظل لشخص الفرس، والنبات والشجر عند طلوع الشمس. فإن هذا أمر لازم لا يتصور أن يفارق وجوده ولكنه من توابع الذات ولوازمها وليس بذاتي. ويعني ذلك أن فهم حقيقته غير موقوف على فهم ذلك. فكون الأرض مخلوقة وصف لازم لها، ولكن فهم الأرض غير موقوف على فهم كونها مخلوقة. بخلاف حقيقة أنها جسم فلا بد من معرفة الجسم أولا لنفهم الأرض ثانيا.

أما الحد الذاتي فهو كل داخل في ماهية الشيء وحقيقته دخولا لا يتصور فهم المعنى دون فهمه، وذلك كاللونية للسواد والجسمية للفرس والشجر، فإن من فهم الشجرة فقد فهم جسما مخصوصا فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولا به قوامها في الوجود والعقل، ولو قدر عدمها لبطل وجود الشجرية وكذا الفرس. ولو قدر انعدام وجودها في الذهن لبطل فهم الشجر والفرس.[13]
إذن الحدود لها صفات ذاتية كالجسمية، ولازمة كزرقة العين، وعرضية كميوعة الخمر وصفرة الذهب. إلا أنه كما قيل سابقا في الحد اللفظي والرسمي بأن مؤونتهما خفيفة بالقياس إلي الحد، فهنا أيضا نقول بالمثل بأن اللازم والعرضي مؤونتهما خفيفة، بالقياس إلي الذاتي.
فالحدود الذاتية صعبة المنال، نظرا لتداخلها في بعض الأحيان، مع بعض الصفات اللازمة، وصعبة أيضا لأنه ربما دخل الخطأ في ترتيبها، كأن نضع الجنس القريب مكان الجنس البعيد، أو نضع الفصل القريب مكان الفصل البعيد.
وحول التداخل بين الذاتي والعرضي نعرض لبعض المواقف المقننة لشروط وخصائص كل منهما. يقول ابن سينا: «ولا يكفي في تعريف الذاتي أن يقال إن معناه ما لا يفارق فكثير مما ليس بذاتي مما لا يفارق مثل سواد الزنجي، ولا يكفي أن يقال إن معناه ما لا يفارق في الوجود، ولا تصح مفارقته في التوهم، حتى إن رفع في التوهم يبطل به الموصوف، في الوجود، فكثير مما ليس بذاتي بهذه الصفة، مثل كون الزوايا من المثلث متساوية القائمتين، فإنه صفة لكل مثلث ولا يفارق في الوجود ولا يرتفع في الوهم، حتى يقال إنا لو رفعناه وهما لم يجب أن نحكم أن المثلث غير موجود، وليس بذاتي ، ولا أيضا أن يكون وجوده للموصوف به مع ملازمته بينا، فإن كثيرا من لوازم الشيء لا تلزمه بعد تقرير ماهيته تكون بينة اللزوم له، بل إلزامي إذا فهم معناه واخطر بالبال، وفهم معنى ما هو ذاتي له واخطر بالبال معه، لم يمكن أن يفهم ذات الموصوف إلا أن يكون قد فهم له ذلك أولا، كالإنسان والحيوان، فإنك إذا فهمت ما الحيوان وفهمت ما الإنسان فلا تفهم الإنسان إلا وقد فهمت أولا أنه حيوان»[14] إذا لما كانت صفة تساوي القائمتين في كل مثلث صفة لازمة، رغم أنها لا ترتفع في الوجود، ولا تنتفي في الوهم فإن ذلك يعني صعوبة تعريف الصفة الذاتية، وللتداخل بين الذاتي واللازم يقول الغزالي في هذا المعنى: « فليس من شرط فهم الإنسان الامتناع عن اعتقاد كونه مولود، ومن شرطه الامتناع عن اعتقاد كونه غير حيوان»[15]

ويرى الغزالي أيضا أن الفرق عسير بين الذاتي واللازم، فإذا عرفنا الذاتي بأنه ما لا يفارق في الوجود والوهم فهو منقوص باللونية فهي ملازمة للإنسان.
إذن الصعوبة الأولى في الحد هي معرفة الصفة الذاتية نفسها فإنها تتداخل مع اللازم والعرضي.
الصعوبة الثانية في الحد هو أنه لا يمكن إقامة الدليل عليه، لأن ذلك يتطلب حدا آخر. وهو موقف ابن تيمية الصلب في رفض الحد المنطقي فقال: « إذا كان الحد قول الحاد فالحاد إما أن يكون قد عرف المحدود بحد، وإما أن يكون عرفه بغير حد، فإن كان الأول فالكلام في الحد الثاني، كالكلام في الحد الأول، وهو مستلزم للدور القبلي، أو التسلسل في الأسباب والعلل وهما ممتنعان باتفاق العقلاء. وإن كان عرفه بغير حد بطل سلبهم وهم قولهم أن لا يعرف شيئ إلا بالحد»[16]
فالحد لا برهان عليه. قال الغزالي: الحد لا يحصل بالبرهان لأنا إذا قبلنا في حد الخمر أنه شراب مسكر فقيل لنا لم؟ لكان محالا أن يقام عليه برهان[17] كما قال ابن سينا أيضا بأن التصديق يكون بالتصور والتصور لا يكون بالتصديق.
تكمن أيضا صعوبة الحد في ترتيب الجنس والفصل وهما قوام الحد والماهية فقد يوضع الفصل مكان الجنس، مثل العشق إفراط المحبة. كما قد يحدث العكس ايضا كما قد توضع الخاصة واللازم أو العرض مكان الفصل.
إذن صعوبات الحد مثل صعوبات القياس، والاعتراضات الواردة على القياس من صعوبة تحديد العلة، ففي القياس قد نعلل الشيء بعلل حقيقية لكن فيها علة زائدة. أو بالعكس مثل نقص علة. وفي هذه الحالة يكون التعليل خاطئا كذلك في الحد لا بد من ذكر جميع الذاتيات. فالحد كما يقول الغزالي: يجب أن يتركب الحد من جميع الذاتيات التي بها قوام الشيء متميزا عن غيره في الذهن تميزا تاما ينعكس على الاسم وينعكس عليه الاسم.[18]
فإذا كان يمكن تعريف بعض الأشياء لسهولة معرفة جنسها وفصلها كقولنا الإنسان هو حيوان ناطق، والشجرة هي جسم نام، فإن الأجناس والفصول لماهيات أخرى غامضة لذلك يقول أحدهم « أحيانا بالنسبة لمعظم الأشياء الطبيعية، فإن الوصول إلي الفصل يحتاج إلي دراسة المتخصصين للوصول إلي فصل كل نوع من أنواعها.
إن الغزالي عنما يقسم التصور إلي بديهي وغير بديهي فإنه يضرب المثل للتصور البديهي الذي لا يحتاج إلي تأمل بمثال الشيء والوجود مما يشير إلي ندرتهما، خصوصا إذا عرفنا أن من عادة الغزالي الاستقصاء في ضرب الأمثلة، ولا يخفي تحفظ الغزالي هنا، وأنه يقوم بمصادرة علي المطلوب. فإن الوجود ليس تصورا بديهيا، إذ لو عرفنا الوجود لم تكن لنا حاجة إلي معرفة أخري، لأن الأشياء الأخرى هي أجزاء من الوجود، والشيء أيضا غير بديهي، فهناك خلاف فيما إذا كان المعدوم شيئا أو غير شيء، والغزالي ممن ينخرط في هذا النقاش وهو في الطرف الذي يقول بأنه ليس شيئا.
ويقول الغزالي في هذا المعني: «فإنا بينا أن ذلك عسر (أي صعوبة الحد)، في أكثر الأشياء ، بل أكثر المدركات الحسية لم نقدر عليه، وإذا عجزنا عن درك المدركات فنحن عن تحديد الإدراكات أعجز.»[19]
هذه الصعوبة ناجمة عن صعوبة حصر الفصول التي تميز النوع عن غيره، وصعوبة حصر الأوصاف الذاتية ، وصعوبة الترتيب من الأعلى إلي الأسفل، وذلك مثل النزول من جنس الأجناس إلي الجنس الذي يليه فلا تحدث طفرة أو حرق لمرحلة، والنزول من نوع الأنواع إلي النوع الذي يليه، إلي آخر القائمة.. يقول الغزالي: «وأكثر مما تري في الكتب من الحدود رسمية إذ الحقيقة عسرة جدا ، وقد يسهل درك بعض الذاتيات ويعسر بعضها، فإن درك جميع الذاتيات حتى لا يشذ واحد منها عسر، والتمييز بين الذاتي واللازم عسر، ورعاية الترتيب حتى لا يبتدئ بالأخص عسر وطلب الجنس الأقرب عسر»[20]
وإذا رجعنا إلي الحدود المفترض بأنها لاقت تحديدا نهائيا، ألفيناها غير كذلك، فتحديد الإنسان بالحيوان الناطق غير دقيق، ولهذا يقول القرافي معلقا علي الحد القائل بأن الإنسان حيوان ناطق: « إن الناطق معناه عندهم المحصل للعلوم، بقوة الفكر. فهو يرجع إلي قبول تحصيل العلوم بالفكر، وهذه القابلية مثل قابلية الضحك، في أنها قابلية، ولا مميز إلا الدفع، وليس مرادهم بالناطق النطق اللساني لأن الأخرس والساكت عندهم إنسان، وعلي هذا يبطل الحد بالجن والملائكة لأنهم أجسام حية لها قوة تحصل بالفكر فيكون الحد غير مانع، وبعضهم تخيل هذا السؤال فقال : حيوان مائت، والنقض يرد كما هو، لأن الفريقين يموتان كالإنسان»
وقال ابن تيمية في الاعتراض علي الحدود البديهية: «إنه إلي الساعة لا يعلم للناس حد مستقيم علي أصلهم، بل أظهر الأشياء الإنسان وحده بالحيوان الناطق عليه الاعتراضات المشهورة، وكذلك حد الشمس وأمثال ذلك، حتى أن النحاة لما دخل متأخرهم في الحدود ذكروا للإسم بضعة وعشرين حدا، وكلها معترض عليها، علي أصلهم، بل إنهم ذكروا للإسم سبعين حدا، لم يصح منها شيء كما ذكر ذلك ابن الأنباري المتأخر، والأصوليون ذكروا للقياس بضعة وعشرين حدا، وكلها معترض، فلو كان تصور الأشياء موقوفا علي الحدود لم يكن إلي الساعة قد تصور الناس شيئا من هذه الأمور، والتصديق موقوف علي التصور، فإذا لم يحصل تصور لم يحصل تصديق، فلا يكون عند بني آدم علم في عامة علومهم، وهذا من أعظم السفسطة»[21].
ولهذا نجد عند الغزالي تشككا في إمكانية التعريف بالجنس والفصل. وهما ما تعرف بهما الأشياء عادة، باعتبارهما نموذج التعريف في المنطق. فإن الغزالي يطالب بما يزيد عليهما، وكأنهما لا يكفيان علي خلاف العادة. ولكن يا تري أين تلك الزيادة ؟ يقول الغزالي في من يسأل عن الخمر ما هو؟ « فيقال هو شراب مسكر معتصر من العنب ، فيكون ذلك معبرا عن حقيقته ولا يقف الغزالي عند هذا الحد بل يواصل قائلا ثم يأتي التمييز لا محالة»[22] فالشراب هو الجنس والمسكر والمعتصر من العنب هما فصلين يفصلان الخمر عن أنواع الأشربة الأخرى، ولكن هذا لا يكفي عند الغزالي الذي يطالب بانن يأتي التمييز لا محالة، أي أنه لابد من زيادة التحديد.
هذه الصعوبة في استقصاء الحد جعلت الغزالي يضع ترجمة للفصل السابع من الفن الأول، في كتاب الحدود في كتابه معيار العلم نصها: « استعصاء الحد علي القوة البشرية إلا عند نهاية التشمير والجهد» ثم قال بعد ذلك « فمن عرف ما ذكرناه من مثارات الاشتباه في الحد عرف أن القوة البشرية لا تقوى علي التحفظ عن ذلك إلا علي الندور»[23]
2 صعوبة النص: إذا كان الحد متعذر في المنطق للأسباب السابقة، ووجوده مما يستعصي على القوة البشرية. والأفراد الذين يصلون إليه هم الشذاذ من أولياء الله المؤيدين بنور الحق، الذين لا تسمح الأعصار الطويلة بوجود الآحاد منهم، فضلا عن العدد الكثير الجم».[24]
إذا كان الأمر كذلك في الحد فإن النص مثله[25]. وربما زاد النص في الصعوبة. فالحد يمكن أن يعثر على القليل منه واحدا أو اثنان. أما النص فإننا لا نعثر على نص واحد في الشريعة.. فهل يوجد في الشريعة نص واحد، مثلما يردد الأصوليون دائما أن الحكم إما نص وإما دلالة من النص؟ لنتعرف أولا على معنى النص والمقصود منه في كتب الأصول. والنص هنا يستعمل بمعنى العام أيضا، فالعمومات الشرعية من القرآن مثل قوله تعالى: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ومن السنة كقول الرسول صلى الله عليه وسلم (الخراج بالضمان) وقوله (العجماء جرحها جبار) هي نصوص شرعية سواء سميناها عمومات أو مطلقات أو مجملات أو سميناها نصوصا: مثلما نتحدث عن الحدود ونقصد بها التصورات والمفاهيم والقول الشارح وما إلى ذلك.
والنص في لسان العرب رفعك الشيء، وكل ما أظهر فقد نص، والمنصة ما تظهر عليه العروس لتري، إذن النص بالمفهوم اللغوي هو والبيان من عائلة واحدة، على الأقل في المعنى، فكلاهما يعني الظهور والتميز عن الآخر، فالمنصة هو الموقع المرتفع الذي توضع عليه العروس فلا تشتبه مع النسوة الأخرى، مهما أبدين من زينة وجمال، إلا أن مكان العروس يجعلها متفوقة عليهن، ونصا عليهن. وقد فسر أيضا لسان العرب النص بأنه غاية الشيء ومنتهاه، فالعروس هي الغاية في الزينة والرونق، والنص أيضا هو الغاية في الوضوح والبيان.
على المستوى الاصطلاحي فقال الغزالي: « النص اسم مشترك، يطلق في تعارف العلماء على ثلاثة أوجه، الأول ما أطلقه الشافعي رحمه الله، فإنه يسمى الظاهر نص وهو منطبق على اللغة، ولا مانع منه في الشرع. والنص في اللغة بمعنى الظهور، تقول العرب نصت الظبية رأسها، إذا رفعته، وأظهرته، وسمي الكرسي منصة إذ تظهر عليه العروس، فعلى هذا حده حد الظاهر، هو اللفظ الذي يغلب على الظن فهم معنى منه من غير قطع، فهو بالإضافة إلى ذلك المعنى الغالب ظاهر ونص. الثاني وهو الأشهر ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا لا عن قرب ولا عن بعد، كالخمسة مثلا فإنه نص في معناه لا يحتمل الستة ولا الأربعة وسائر الأعداد، ولفظ الفرس لا يحتمل الحمار والبعير، فكل ما كانت دلالته على معناه في هذه الدرجة سمي بالإضافة إلى معناه نصا، الثالث التعبير بالنص عما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل، أما الاحتمال الذي لا بعضده دليل فلا يخرج اللفظ عن كونه نصا.[26]
والمقصود من النص هنا في هذه الدراسة هو النص بالمعنى الثاني، أي الذي اليقين فيه مثل اليقين في الرياضيات، فإن لفظة خمسة نص في معناها، لا تحتمل الاربعة ولا الستة، كما أن المطلوب في الحد هو الحد التام بالصفات الذاتية المقومة وليس الحد الناقص الذي يكون بالأعراض واللوازم مهما بدت مصاحبة للشيء. وإذن فالبحث هو عن نص يفيد هذا اليقين، أما النص بالمعنى الأول فيفهم معه معنيين أحدهما راجحا، والثاني مرجوحا والنص بالمعنى الثالث فهناك إمكانية ليتطرق إليه احتمال، وهذا الاحتمال وإن لم يكن موجودا في الوقت الحالي فقد يوجد في وقت آخر، وعدم قيامه الآن لا ينفي عدمه في المستقبل بل الإمكان متوقع.
وعند الحنفية أن الظاهر ليس هو النص. فالنص ما يقطع الاحتمال، كالنص المحكم والمتواتر الذي لا يقبل التأويل، ويسمونه علم اليقين. والثاني ما يقطع الاحتمال الناشئ عن دليل كالظاهر ويطلق عليه علم الطمأنينة.
إن النص إذن المطلوب هو بمعنى الحد كما هو مطلوب في المنطق، فهو الذي يقترن بالتعيين ونفي الاحتمال واستبعاد التأويل وإلغاء أي دلالة خاصة يتضمنها المفهوم؛
أي حصر جميع الذاتيات فيفهم الشيء بماهيته، وليس فقط يكفي أن يتميز عن غيره، والمطلوب هنا هو النص الذي لا يتطرق إليه احتمال لا من قريب ولا من بعيد، ونلاحظ أن النص بهذا المعنى يتعذر وجوده مثل الحد.
إن الشافعي يرى أن الأحكام على أنواع متفاوتة في درجة البيان والوضوح، فأعلاها ما نص عليه القرآن، ويتلوه البيان الثاني، وهو ما نص عليه القرآن وبينت السنة كيف هو، وهذا يعني أن النص بمعنى القائم بذاته لا يوجد في القرآن إلا نادرا.
يتعرض الشافعي لمفهوم العام والخاص والمجمل والمبين كصياغات ومظاهر للخطاب في اللغة العربية وفي الشريعة ، والعام والنص هنا بمعنى واحد، لأن العمومات هي نصوص وهذه العمومات أو النصوص على مستويات في الوضوح.
لقد تحدث الشافعي عن باب: بيان ما نزل من الكتاب عاما يراد به العام ويدخله الخصوص، وباب بيان ما أنزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص، والملاحظ في هذه الأبواب هو غياب الباب ما نزل عاما يراد به العام، أو بعبارة أخرى ما نزل نصا بقي على نصه دون أن يلحقه أي نوع من أنواع التغيير، كالتخصيص والبيان وغيرهما، نعم لقد ذكر الشافعي مثالا واحدا للعام وهو قول الله تعالي: {وما من دابة في الأرض إلا على رزقها}[27] فقال: « فهذا عام لا خاص فيه، (قال الشافعي: فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر، وغير ذلك فالله خلقه، وكل دابة فعلى الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها»[28] إذن هذا المثال من العام في أدلة الأخبار، أي القضايا المتعلقة بالتوحيد، لا من أدلة الأمر والنهي حيث استنباط الأحكام العملية. أما على مستوى الأدلة الشرعية والأحكام العملية فلا عموم فيها، فلم يتناول الشافعي من هذه الجهة عاما، إلا وأدخل عليه التخصيص، فمخرج اللفظ عام في آيات الصلاة والزكاة والسرقة، وخصصته الأحاديث، كما خصصت الصلاة الخمس عموم قوله تعالى: أقيموا الصلاة مثلا، ولا عموم فيها، أي بمعني أنه لا نص فيها يفيد معنى واحدا لا يزيد ولا ينقص.
لقد قسم الشافعي الأدلة إلى قسمين، فهي إما نص، وإما معنى مأخوذ من النص أي بالاجتهاد، فغالبا ما يذكر الشافعي الاثنين معا، فالعلم نص واستنباط. "وأحكام الله في كتابه نص واستدلال[29] و يقول أيضا: جماع ما أبان الله لخلقه في كتابه من وجوه: فمنها ما أبانه لخلقة نصا، مثل جمل فرائضه، في أن عليهم صلاة وزكاة وصوما وحجا وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونص الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير. والسؤال المطروح هو هل هناك نص في الصلاة والزكاة لا يحتمل النقاش، ولا يدخله الإجمال والشك؟
الجواب طبعا هو: لا. فالصلاة والزكاة والزنا والسرقة هي مواضيع البحث والاجتهاد واليقين، ولو كان قد نص عليهما لاعتبر كتاب الرسالة نفلا زائدا وكلام فيما هو بديهي لا يحتاج إلى نقاش واستدلال. والقول بأنها فرائض منصوصة هو قول لا يسانده الواقع فإن الكتب الفقهية من لدن الأئمة ومن بينهم الشافعي إلى الفقهاء دونهم هي كتب قائمة على الاستدلال على تلك الفرائض. والدليل عند هذا الإمام ليس هو الدليل عند ذلك. فوقوع الخلاف فيها بين المذاهب ينفي عنها صورة النص و التنصيص.
يورد الشافعي "باب الفرائض التي أنزل الله تعالى، قال تعالى: «والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون»[30] قال الشافعي: فالمحصنات هن البوالغ الحرائر، وهذا يدل على أن الإحصان اسم جامع لمعاني مختلفة ويوضح الشافعي تلك المعاني فقال: «جماع الإحصان أن يكون دون التحصين مانع من تناول المحرم، فالإسلام مانع، وكذلك الحرية مانعة، وكذلك الزوج والإصابة مانع، وكذلك الحبس في البيوت مانع وكل ما منع أحصن»[31].
إذا فالإحصان في قوله تعالى: "والذين يرمون المحصنات" غير نص في معناه، الذي يفيد من بين ما يفيد الأزواج والحرائر وما إلى ذلك. فلو كان الأمر كذلك لجلد من قذف زوجته ولم يسلم بواسطة اللعان، لكن ما يشرح هذا وذلك هو انعدام النص قال الشافعي: " وفي هذا الدليل على ما وصفت من أن القرآن عربي يكون منه ظاهره عاما وهو يراد به الخاص[32].
إذن يتوصل الشافعي عند مشارف نهاية الرسالة إلى التفريق في العلم إلى علم عامة وعلم خاصة، وعلم العامة مثل: الصلوات الخمس وأن الله أوجب على الناس صوم شهر رمضان وحج البيت إذا استطاعوه وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر وما كان في معني هذا مما كلف العباد أن يعقلوه ويعلموه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم وأن يكفوا عنه ما حرم عليهم منه، وهذا الصنف كله من ا لعلم موجود نصا في كتاب الله، وموجودا عاما عند أهل الإسلام، ينقله عوامهم عن من مضي من عوامهم يحكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم.
من الملاحظ أن الشافعي هنا يخطئ عندما يقول بأن الصلاة الخمس والزكاة جاءتا منصوصتين في كتاب الله، ولذلك يستدرك هذا الخطأ عند ما قال أن سبيل نقل هذه الأشياء هو رواية النص، (فالمستند هو الرواية وليس النص) عن العوام إلى العوام إلى رسول الله وهي من هذه الجهة على الأقل غير منصوصة في القرآن، وإن كانت منصوصة في السنة لكنها اعتضدت هناك بالدليل والاستدلال، وعن طريق الرواية بدرجة أولي، فنصوص السنة بحاجة إلي الرواية لكي تنقل إلينا، أما نصوص القرآن فلا يتوقف نقلها إلينا علي الرواية فستصل إلينا ولو بدون رواية. وعلى هذا فالتنصيص علي تلك المسائل بمفهوم النص عند الأصوليين نادر أو متعذر.
إذن نتوصل إلى أن حديث الشافعي عن ما نزل نصا في كتاب الله، وحديثه عن الفرائض المنصوصة، وحديثه عن ما نص عليه كتاب الله وما نص عليه الرسول، نلاحظ أن النص في هذه الحالات هو نص يحتاج إلى بيان، لأن الظنون والاحتمالات ترد عليه من أكثر من جهة. كما قال عن الإحصان أنه معاني مختلفة، وعلى هذا فإن الاجتهاد كما يتجلى فيما هو غير منصوص عليه، يتجلى أيضا فيما هو منصوص عليه وبنفس الدرجة.
هذا الاحتمال الوارد على النصوص هو ما استوعبه الأصوليون بعد الشافعي. ويتجلى عندهم في بحوث وفصول متنوعة في أصول الفقه. فالعام دلالته على أفراده ظنية والمجمل ما يحتمل معنيين وإن كان أحدهما مرجوحا و الثاني راجحا. كما انسحب هذا الموقف على المسائل اللغوية وذلك فيما إذا كان العرب قد نصوا على صيغ معينة للأمر والنهي وللعام والخاص وما إلى ذلك، فأصحاب الصيغ يؤكدون على أنها وضع لغوي لما وضعت له. بينما ذهب أصحاب نفي الصيغ على أنها لم توضع لشيء معين بدليل أن الأمر يكون تارة للوجوب وتارة للندب وتارة للإرشاد. وكذلك صيغ العموم تارة يراد بها العموم وتارة يرادا بها الخصوص وأقل الجمع. ولهذا قال الغزالي بأن التنصيص على هذه الصيغ لا يكون إلا بأربع حالات، ولعلنا لا نجد منها حالة واحدة. يقول الغزالي عن ثبوت صيغ الأمر للأمر أو للوجوب أو للإرشاد أو ما إلي ذلك يقول إن كونه موضوعا لواحد من الأقسام لا يخلو إما أن يعرف عن عقل أو نقل ونظر العقل إما ضروري أو نظري ولا مجال للعقل في اللغات، والنقل إما تواتر أو آحاد، ولا حجة في الآحاد، والتواتر في النقل لا يعدو أربعة أقسام: فإنه إما أن ينقل عن أهل اللغة عند وضعهم أنهم صرحوا بأنا وضعناه لكذا، أو أقروا به بعد الوضع، وإما أن ينقل عن الشارع الإخبار عن أهل اللغة بذلك أو تصديق من أدعى ذلك، وإما أن ينقل عن أهل الإجماع، وإما أن يذكر بين يدي جماعة يمتنع عليهم السكوت على الباطل، فهذه الوجوه الأربعة هي وجوه تصحيح النقل ودعوى شيء من ذلك في قوله افعل؟ أو في قوله أمرتك بكذا؟ أو قول الصحابي امرنا بكذا؟ لا يمكن فوجب التوقف فيه وكذلك قصر دلالة الأمر على الفور والتراخي، وعلى التكرار أو الاتحاد يعرف بمثل هذا الطريق وكذلك التوقف في صيغة العموم عمن توقف فيها[33]. إذا فكما لا نص على ما يراد بصيغ العموم والأمر والنهي، كذلك لا نص على متعلقاتها. فالصيغ هنا تتناول الصلاة والزكاة والصوم والسرقة وكما أن صيغ النهي أو الأمر مترددة بين الأمر والندب، فإذن لا نص على وجوب أو مندوب في الصلاة والزكاة، مادامت الصيغ لا تنص على أمر بعينه. إن الغزالي هنا يتحدث عن الصيغ للفظية للأوامر والنواهي والعموم والخصوص من حيث هي بحث لغوي، ويؤكد على أن ثبوت الوضع فيها يحتاج إلى أربعة طرق هي التي ذكرنا سابقا، ويتعذر تحقق طريق واحد. وكذلك الكلام ينسحب في الوضع الشرعي، فما يقال عن اللغة يقال عن الشريعة حتى نقول أن كون الصلاة والزكاة موضوعة لصيغة ما بعينها كالصلوات الخمس وكالزكاة المخصوصة يحتاج إلى نفس الطرق الأربعة. وتعذر وقوع واحد منها يدل على أن وضعها والتنصيص عليها إنما هو بفعل الاستدلال والمحاكمة العقلية، وليس عن تنصيص من الشارع غير قابل للاحتمال.
هذا الموقف في تعذر النص نجده أيضا عند الشاطبي فكما أن الشافعي لم يقدم مثالا واحدا من العام وحده في مجال الأحكام، لتعذر النصوص عليها. لم يقدم الشاطبي بدوره مثالا لصلب العلم. أي العلم الحقيقي بمعنى النص. فقد قسم الشاطبي كفيلسوف في نظرية المعرفة علي شاكلة "كانت" في الاتجاه العقلي، و"جون لوك" في الاتجاه التجريبي، قسم الشاطبي بدوره المعرفة إلي ثلاثة أقسام: وهي صلب العلم، وملح العلم، وما هو ليس هما. فصلب العلم هو ما كانت خواصه ثلاثة: وهي العموم والاطراد، والثبوت من غير زوال، وكون العلم حاكما لا محكوما عليه. ويقدم الشاطبي كأمثلة على ذلك المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية فهذه عنده تتصف بتلك الصفة، إلا أن الكلام في هذا المستوى لا يقدم مثالا عمليا، فإن المقاصد شيئ وما يفيد العمل شيئا آخر، لذلك نراه في القسمين الآخرين وهما ملح العلم وما هو غير صلب وغير ملح يقدم الأمثلة الجزئية عليهما.[34]
كما يرى الشاطبي كغيره من الأصوليين أن الأدلة تنقسم إلى آحاد وإلى متواترة يقول الشاطبي: "فإنها (أي الأدلة) إن كانت من أخبار الآحاد فعدم إفادتها القطع ظاهر، وإن كانت متواترة فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظني، والموقوف على الظنيات لا بد أن يكون ظنيا. فإنها تتوقف على نقل اللغات، وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، والنقل الشرعي أو العادي، والإضمار، والتخصيص للعموم والتقييد للمطلق، وعدم الناسخ والتقديم والتأخير، والمعارض العقلي، وإفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر[35].
إذا فإذا كان الدليل القطعي هو القطعي في الدلالة والقطعي في الثبوت، فإن اجتماع الصفتين في الدليل الواحد شيء متعذر جدا، فإذا كان النص قطعي الثبوت أي بلغ مرحلة التواتر° إلا أن معناه ظني لتوقفه على ما هو ظني، وإذا كان قطعي الدلالة فإن ما يتوجه إلى التواتر يتوجه إليه أيضا .
إن أوضح الأدلة التي يقدمها الشاطبي في هذا الموضوع هو وجوب الصلاة، فإن النص وحده لا يكفي لإفادتها. يقول الشاطبي متابعا كلامه السابق ومؤكدا على أن العلم حاصل بأدلة ظنية، ولكن متضافرة ومتظاهرة: "ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس كالصلاة والزكاة وغيرهما قطعا، وإلا فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله (أقيموا الصلاة) وما أشبه ذلك، لكان في الاستدلال بمجرده نظر من أوجه، لكن حف بذلك من الأدلة الخارجية، والأحكام المترتبة ما صار به فرض الصلاة ضروريا في الدين لا يشك فيه إلا شاك في أصل الدين"[36] إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه، هو كيف ينتقل الظن إلى الحقيقة؟ وكيف لا يكفي كلام القرآن ويكفي كلام العلماء؟ فقد جعلوا قول الله في أقيموا الصلاة ظنيا، وجعلوا أدلتهم فوق اليقين حتى أن مخالفها كافر حلال الدم والمال. فإن الصلاة هنا انتقلت من الظنية إلى اليقين وذلك بالانتقال من النص القرآني إلى استدلالات الأصوليين واستقرائهم اللذين جعلوا منهما اليقين دون الآية[37].
ويقول الأستاذ سامي الصلاحات عن خصائص النص القطعي عند الأصوليين، فيقول: "فالنص القطعي الذي يشمل القطع الدلالي والقطع الثبوتي مما يندر أن يتوافر لمجمل أحكام الشريعة.خلافا للدليل الظني، الذي يتوافر بكثرة، ووفرة في أحكام الشريعة، يقول نجم الدين الطوفي، فقواطع الشرع نادرة فاعتبارها يعطل أكثر الأحكام، ولعل من الحكمة التي من أجلها قل توافر القواعد وكثر تشعب الظنون المرجوحة في الأحكام التشريعية، هو إعمال العقل واشتغال الذهن في التوصل إلى مراد الله من نصوصه. اذن نتوصل الى خلاصة لهذا الموضوع وهي انه كما لا يوجد حد في المنطق لا يوجد ايضا نص في اصول الفقه.



[1] ابن سينا، المنطق ، ص5
[2] الجابري، بنية العقل العربي، ص386
[3] الغزالي ، المستصفي ص: 11
[4] ابن سينا، المنطق، ص4
[5] الجابري، بنية العقل العربي ، ص387 و ابن حزم : التقريب لحد المنطق ، ص40
[6] الجابري، بنية العقل ، ص390
[7] الغزالي : المستصفى ، ص19
[8] ابن سينا: المنطق
[9] الغزالي : المستصفى ، ص12
[10] الجابري : بنية العقل ، 388
[11] الغزالي : المستصفى ، ص16
[12] ابن خلدون ، المقدمة، ص
[13] الغزالي : المستصفي ص 13
[14] ابن سينا : النجاة ، ص4
[15] الغزالي : معيار العلم ص94
[16] ابن تيمية : كتاب الرد على المنطقيين ، ص2
[17] الغزالي: المستصفى ص10
[18] الغزالي: معيار العلم ص267
[19] الغزالي : المستصفي ص ،
[20] الغزالي : المستصفي ، 15
[21] ابن تيمية الرد علي المنطقيين ص ،
[22] الغزالي، المستصفي ، ص : 10
[23] مجلة دراسات مصطلحية ، ص، 17
[24] الغزالي : معيار العلم ، ص65
[25] البحث في تحقق القطع في الأدلة الشرعية كما سنتناوله الآن هو موضوع كما يقول أحد الباحثين لم يحظ بالاهتمام الكافي : إن البحث في القطع مع أنه يمثل في الدراسات الأصولية الغاية المتوخاة من تعريفات المباحث، وتقسيمات الفصول في علم الأصول، إلا أنه من الموضوعات الغائبة الحاضرة فغيابه وعدم ظهوره يتضح من خلال عدم تناوله في إطار محدد، ومنهج واضح ... أما حضوره فيتمثل من خلال تحققه وتجذره في كل فرع أو مبحث أصولي. عن مقال بعنوان: خصائص النص القطعي عند الأصوليين للأستاذ: سامي الصلاحيات: ( مجلة: المعهد العالي للفكر الإسلامي العدد 23 )
[26] الغزالي: المستصفي
[27] هود : الآية 6
[28] الشافعي، الرسالة ص54
[29] الشافعي، الرسالة ، ، ص 35
[30] النور، من الآية 4
[31] الشافعي الرسالة ص 136
[32] الشافعي: الرسالة ص148
[33] الغزالي: المستصقي ص27
[34] الشاطبي الموافقات ص82
[35] الشاطبي الموافقات ص38
° يعرف التواتر بأنه "خبر متواتر عن رسول الله صل عليه وسلم، لا يعارض إمكان الزلل روايته، ونقله. ولا تقابل الاحتمالات متنه وأصله". وعرف ابن تيمية القطع من جانبه الدلالي والثبوتي فيقول: مقسما القطع إلى ما دلالته قطعية، بأن يكون قطعي السند والمتن، و ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، وتيقنا أنه أراد به تلك الصورة. وإلي ما دلالته ظاهرة غير قطعية، فأما الأول فيجب اعتقاد موجبه علما وعملا وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء في الجملة. سامي الصلاحات، مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالي للفكر الإسلامي، العدد : 23
[36] الشاطبي الموافقات ص38
[37] سامي الصلاحات: المعهد العالي للفكر الإسلامي العدد 23 مجلة إسلامية المعرفة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.