مقداد إسعاد: عضو في حركة النهضة بالنظر إلى نتيجة الحوار الوطني في تونس، على النهضة أن تقيل كبير مفاوضيها. غريبة هي تونس هذه الأيام وعجيب أمرها. شدت أنظار العالم للمرة الثانية بعد ثلاث سنوات انتشى الضعفاء في العالم بانتفاضتها وترنموا بأهازيج نشيدها "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر". أما غريب هذه السنة الثالثة فمزدوج: طول مدة الحوار ونتيجته. ثلاثة أشهر من التجاذب والتلاسن والإضطرابات والتظاهرات وعرض العضلات من فرقاء الحوار وأيضا من السائرين على الحافة مثل تيار أنصار الشريعة. أما النتيجة فهي أغرب لأنها انتهت إلى اختيار رئيس للحكومة خلفا للسيد علي لعريض قبل به الجميع تقريبا، من صوت له ومن لم يصوت، لكن كل الأحزاب وبلا استثناء لم يتبناه منهم أحد. غريب أمرك يا تونس تجمع قواك السياسية على رجل يتبرمون منه واحدا واحدا وكأن الجن نصّبه بليل. بدا الحدث في الوهلة الأولى انتصارا للنهضة وقدرة منها على المناورة، حتى أن بعضهم شبهها باللاعب البارع لكرة القدم يتقن المراوغة ويسجل الأهداف. رفضه بعضهم لسبب وحيد وهو انتماءه لحكومة الترويكا. أما أتباع النهضة فان فرحتهم وثقتهم في مفاوضهم لم تدم طويلا ودب الشك إليهم. بعض المعارضين كانوا أكثر صدقا وإقناعا، قالوا نحن لم نصوت لرجل نكرة، لا نعرفه ولا نعرف كيف تسلل إلى وزارة الصناعة ؟ ثم كيف نال ثقة تسعة أحزاب على رأسهم النهضة. لقيادة النهضة مسؤولية سياسية وأخلاقية وتاريخية أمام قواعدها وأمام الشعب التونسي والمعارضة أيضا. بعض المعارضين قالوا إن نهضاويا نعرفه ونعارضه أفضل من مجهول تسلل بدعم الخارج إلى أعلى الهرم في السلطة في بلدنا الثائر، وجاءوا على ذلك بما يدعم تخوفهم ويبعث الشك في الشعب وحتى في قواعد النهضة. فهل يكون مهدي جمعة هو الفريق السيسي في ثوب مدني؟ هل تكون جهات عليمة قد أعدته لمثل هذه المهمة منذ دفعت به إلى الوزارة ثمانية أشهر قبل اليوم. بدأت المؤشرات على ذلك تتتالى وصل بعضها إلى الاتهام الصريح أن الدول الغربية والتي كانت تتابع باهتمام أوضاع البلاد والمنطقة أخذت المبادرة بعد أن تركت الأوضاع تتخمر على اثر الاغتيال السياسي الأول وتخبط حركة النهضة داخليا، إذ وقف الشيخ راشد بكل وزنه ضد الأمين العام للحزب ورئيس الحكومة السيد حمادي الجبالي ليعوضه بواحد من الطيعين يديم به تحكمه في قرار النهضة وتونس. وها أن الأمر ينتهي بتعويض الجبالي المناضل والمعروف بنكرة، علية كل نقاط الاستفهام وبتزكية من النهضة. أليس هذا من الجنون؟ صدق من قال يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه. من هو السيد مهدي جمعة؟ سؤال أصبح على كل الألسن هذه الأيام. قالت المعارضة بكل صراحة أنها لا تعرفه. أما النهضة فقد لجأت إلى مؤشراتها الكلاسيكية وكثرت أسئلة القواعد حوله، هل يصلي؟ هل يشرب الخمرة؟ وتساءل آخرون عن علاقته بالخارج وجاءت الإجابات غير مطمئنة رغم تأكيد التمثيليات الأوروبية على براءتها وحيادها. وما زاد في الريبة من السيد الوزير ثقته الكبيرة في نفسه وتصريحاته الكثيرة التي تعطي الانطباع أن السيد الوزير إنما يستلم المنصب لسنوات وليس لفترة قصيرة جدا بمهمة انتخابية واضحة. ولعل أخطر ما في الأمر تصريحاته حول السياسة الطاقوية لتونس وقد كان السيد مهدي جمعة من إطارات الشركة العالمية الفرنسية طوطال وكان يقيم في فرنسا قبل المجيء به على رأس وزارة الصناعة. شكوك كثيرة تحوم حوله وكذلك حول سياسة الحكومة الحالية التي بدأت تظهر كالطرطور في مهب الريح يفعل بها وفيها. أحدثت تونس منطقة عازلة على حدودها الجنوبية أظهرت الدراسات أنها تعوم على خزان طاقوي لم ينفك السيد مهدي جمعة منذ مجيئه من توقيع تراخيص التنقيب فيها لشركات أجنبية بعد أن منع قانون الطوارئ دخول التونسيين إليها. السؤال المطروح اليوم بعد كل هذا الشك والريبة المشروعين والذين يجدان لهما كثيرا من الأدلة: هل يستقيل السيد علي لعريض ويترك تونس للمجهول؟ بل هل بقي له هامش رجوع وصمود بعد أن وضعه أخوه عامر لعريض وكبير مفاوضي النهضة في الحوار أو "الحمار الوطني" كما زل به لسان أحد الوسطاء في وضع لا يحسد عليه. أولم يتعهد ألّا يترك تونس للمجهول وأن لا يسلم السلطة إلا لأيدي أمينة وموثوقة؟ هل ينهي السيد علي لعريض ثلاثة سنوات من نضاله في المسؤولية وأغلبية عمره في السجون والمعارضة ليتخلى للمجهول. ألم يصرح انه لا يخاف الموت في سبيل تونس؟ وماذا عن السيد الرئيس؟ هل يمضي ورقة تكليف المجهول ويعطيه أختام البلاد؟ أولم يقسم ثلاثا أن "لن تمروا"؟ أم أنه يقصد بذلك تلك الفزّاعة السلفية التي يكون الداعمين للسيد رئيس الحكومة المرتقب من وراء تضخيم دورها؟ هل أحدث السيد الرئيس المنطقة العازلة بالجنوب التونسي دون وعي منه؟ وأخيرا وليس آخرا ماذا عن المجلس التأسيسي المحتضر، هل ينهي مهمته بتزكية رجل لا يعرفه، استغل وضعه على رأس وزارة الصناعة ولم يضيع من الوقت شيئا لوضوح الرؤيا لديه لأنه قد يكون جاء على اثر خطة حاكها العارفون من ثعالب الغرب ضحكا على ذقون التيوس من حكام تونس الجدد؟ بدأت الوثائق تظهر حجم وخطر التعيينات التي أمضاها السيد الوزير على رأس المجمعات الصناعية لصالح الفاسدين القدامى ممن رضيت عنهم قوى مالية أجنبية؟ تلك هي حال تونس وقد أرست ثورتها إلى نظام سياسي هجين سرعان ما دبّ التناحر والريبة بين رموزه وحتى داخل الحزب الواحد اقتتلوا فأكلوا وقال الثور الأسود أكلت لما أكل الثور الأبيض ولم يكتفوا بذهابهم بل تركوا البلاد للمجهول. أما آخرا فلا بد من كلمة لمن بوأته تونس بعد الانتخابات مصيرها. ضل من علياء عمره النضالي كمعارض ممتهن ومن علياء برجه في مونتبليزير بالطابق الخامس يحرك الجميع رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة والمجلس التأسيسي على هواه ووفقا لما "دبر عليه" قليلي المؤهلات من أمثال رئيس الدائرة السياسية لحركة النهضة رغم استقالته من المنصب. لا شك أن وضع بلاده يؤرقه ووضع باقي بلدان العالم العربي أيضا، فمصر أثخن فيها فرعونها، وأما سوريا فلم تنفع قذائف الشيخ القرضاوي من أعالي منابر الدوحة ومن جزيرتها أن تمكن للثورة بل ثبتت طاغيتها. هكذا إذا ما فشل الشيخ راشد لا قدر في التمكين للثورة في مهدها تونس في تحقيق أهدافها فلا يبقى له مكان لا في النهضة ولا في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. كبير مفاوضي النهضة يجب أن يرحل.