مرّت الذكرى الثالثة لقيام الثورة التونسية مهد الربيع العربي في ظل تعثر الثورة المصرية والثورة الليبية وفي ظل حوار وطني مضن ينجز على طريقة الرّي قطرة قطرة وفي ظل توافقات عسيرة تحت قبة مجلس التأسيسي تغلب عليها تنازلات مؤلمة من قبل الطرف الحاكم وصاحب الأغلبية. ويمكن النظر إليها من زاوية محدودية الانجازات مقارنة بانتظارات الشعب. يضاف إلى ذلك تدني الرعاية الصحية وارتفاع الأسعار وعدم حصول تقدم ملحوظ في ملف شهداء وجرحى الثورة. والمكسب الوحيد الظاهر لكل الناس إلى حد الآن، والذي لا يختلف عليه اثنان هو الحرية ونسيم الحرية. ولعلّ هذه الحصيلة هي التي حدت بالبعض ممن ينتمون لشرائح مختلفة من المجتمع المدني بالتصريح بأن الثورة لم تنجح في تحقيق الآمال المنشودة. بل إنّ بعضهم قال أنّ الثورة لم تحدث بالأساس. كما صرح بعضهم الآخر بأن الثورة حدثت فعلا ولكن السياسيين اختطفوها وحولوا وجهتها لصالحهم. فما مدى صحة كل رأي يا ترى، وما حقيقة قيام الثورة من عدمها في ظل كل الأحداث الجارية ؟ في واقع الأمر اندلعت شرارة الثورة من داخل المناطق الشعبية ومن داخل الأحياء المعدمة وشارك فيها العاطلون عن العمل والمهمّشون نتيجة سياسة الإقصاء والتهميش الصارخة التي انتهجها المخلوع وعصابته والتي تعسّفت على غالبية الشعب وخصوصا الفئات الضعيفة. اندلعت الثورة إذن في عقول الثائرين وعلى أرض الواقع لغاية ولأجل إعادة ترتيب المعادلات، وتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية ومن التوزيع العادل للثروات وفرض احترام الحقوق والواجبات على كل الناس بنفس القدر. ولكن في غضون ثلاث سنوات من الثورة هل حققت الثورة كل هذه المطالب وكل هذه المعاني ؟ النظرة المستعجلة توحي بأن الوضع لايزال كما هو قبل الثورة. فالمهمشون لا يزالون مهمشين ولازالت الفئات الميسورة تتمتّع بامتيازات كثيرة تضمنها لهم القوانين الجارية. فرغم أن الثورة أشعل لهيبها العاطلون عن العمل لايزال أغلب هؤلاء دون شغل إلى اليوم. وفي المقابل انتفض الأطباء والقضاة وغيرهم لأجل المحافظة على امتيازاتهم وتحصين مواقعهم التي استولوا عليها زمن الاستبداد. بل زادوا على ذلك بأن انقضوا على معظم الزيادات المرصودة في الميزانية وحولوا وجهتها إلى زيادات في أجورهم. وفي الأثناء وبعدما توارى بقايا الاستبداد وخفتت أصواتهم لبضع أشهر كشفوا عن نواياهم وتعالت أصواتهم من جديد بحيث ركبوا على الثورة واندسوا بين الثوار. فهذا السيد الباجي قائد السبسي، بعدما اعترف بعظمة لسانه بأنه قد زيف الانتخابات وساهم في سرقة إرادة الشعب في زمن الاستبداد، أصبح اليوم وفي الذكرى الثالثة للثورة منظّرا لها ويقول أنّ الثورة مرت بثلاث مراحل ويحدّدها وفق رؤيته الخاصّة فيما هو لم يعايشها مطلقا. ولكن علاوة على ذلك ما الذي عطل تسريع الإنجازات وتسريع الإصلاح والمحاسبة إلى حد الآن ؟ لقد كان مصدر الفساد الأساسي هو رأس النظام و الأطراف واللّوبيات المنضوية تحت لوائه والتي كانت في توأمة تامة معه (على قاعدة خوذ وهات وعلى قاعدة دعم من جهة ومناشدة من الجهة الأخرى). وكان هذا الرأس يقود عملية الفساد والإفساد وبقية الأطراف تتمعش سرا وجهرا من حمايته لها. ولكن وبعد أن خلع الشعب المخلوع خرست أغلب اللّوبيات المرتبطة به في بداية الأمر. إلّا أنّها بعد أن اطمأنت على سلامتها، في ظل ثورة سلمية، خرجت من جحورها وبدأت تطالب، بدعوى حرية التعبير وبدعوى فرض القانون والمطالبة بتلبية مطالب مهنية، بفرض أجندتها وامتيازاتها القديمة والجديدة على الناس. فما كانت تفعله هذه الأطراف متخفية وراء ستار الاستبداد السميك أصبحت الآن تقوم به في العلن (بصحة رقعة) وكأنه حق مكتسب لها. فالأطباء مثلا (في العموم) تحصلوا على كل ما يريدون قبل الثورة : أعلى مرتبات مقارنة بباقي الاختصاصات والقطاعات. فهم يعملون في نفس الوقت بالمستشفيات العمومية والمصحات والعيادات الخاصة ، وهم يستغلّون أجهزة المستشفيات لحسابهم الخاص ويحولون وجهة المرضى الميسورين من المستشفيات إلى المصحات الخاصة و... (وهذا معلوم للقاصي والداني) ويفرضون كل شروطهم على المجتمع المدني في صمت رهيب من سلطة الإشراف مقابل مناشدتهم "لصانع التحوّل" أو في أحسن الأحوال سكوتهم عن الظلم والاستبداد. وبماذا تحجج القضاة في تحركاتهم ضد فصول من الدستور ؟ تحججوا باستقلالية القضاء! ! ! ولماذا لم تحتجوا أيها القضاة ولم تقوموا بمسيرات إلى مجلس النواب زمن بن علي عندما استغل العديد منكم وربّما أغلبكم لقهر الشعب التونسي وتغييبه في السجون لسنين طويلة ؟ فإذا كان أغلب القضاة فاسدين و مفسدين ومرتشين فكيف يترك القضاء مطلق الحريّة دون مراقبة و تدخل من سلطة الإشراف بحجة المحافظة على استقلال القضاء؟ إثر سقوط رأس الاستبداد نزلت بقية الرؤوس والمفسدين إلى الميدان تدافع عن مكتسباتها بنفسها وتطالب بفرض ما كانت تتمتع به بحجج مهنية وبحجج واهية لا تسمن ولا تغني من جوع، كتحجج أطباء الاختصاص بقلة التجهيزات في مستشفيات المناطق الداخلية ! ! ! وما دوركم أنتم أيها الأطباء المحترمون، يا من صرفت عليكم المجموعة الوطنية الكثير لتصبحوا أطباء ؟ ألا تريدون أن تضحوا قليلا لتردوا بعض الجميل إلى هذا الشعب الذي ناضل وكافح وأودع السجون وقدم الشهداء والجرحى ؟ أنا موقن يقينا جازما فيما لو كانت سلطة الإشراف اقترحت راتبا بعشرين ألف دينار لكل طبيب مختص يعمل بالمناطق الداخلية وبالأرياف لأسقطوا من حساباتهم مسألة التجهيزات ولتقدم أغلب الأطباء بطلب نقلة إلى كل أرياف تونس ولأصبحت الأرياف وجهة الأطباء. ولأصبح العديد منهم يبحثون عن واسطة تمكّنهم من العمل بالأرياف. ولذلك ينتظر الشعب الكثير من الصبر والمثابرة والجهاد لقطع كل الرؤوس الفاسدة (وخاصة المصدّدة). فتحقيق العدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الثروات وعدالة توزيع الخدمات يتطلب وقتا وجهدا وتضحيات جديدة من الشعب. كما يتطلب المرور من الفترات الانتقالية إلى فترات دائمة لكي يتحقق كل ذلك. فمثلا فرض طب الاختصاص في كل ولايات الجمهورية وفي كل الأرياف وفرض قضاء عادل وفرض توزيع عادل للثروات وفرض معيار تكافؤ الفرص ليس ممكنا تحقيقها في ظل الفترة الانتقالية لأن هذه الفترة هي فترة مخاض وهي فترة تشريع ورسم الخطوط العريضة للسياسات المستقبلية. وهي كذلك فترة معارك بين الثوار و العصابات المتنفذة في سلك الصحة و سلك القضاء و سلك الإعلام وفي أغلب أسلاك القطاعات الأخرى. فكيف تأمل عائلات الشهداء وجرحى الثورة أن يكشف اللثام عن القناصة في ظل قضاء فاسد ولم يتطهر بعد من رموزه الفاسدين ؟ فالأولى هو تطهير القضاء وبعد ذلك المرور إلى المحاسبة وإلى تعويض عائلات الشهداء والجرحى. والحقيقة أنه لتطهير كل القطاعات من الفساد لابد من القيام بثورة أو بثورات في كل القطاعات. فالقضاء يتطلّب ثورة والإعلام يستحقّ ثورة والصحة يلزمها ثورة وإزاحة المفسدين من كل مواطن صنع القرار تتطلّب كذلك ثورة. ولنجاح هذه الثورات فإنّه من الضروري تكاتف ومساندة من جميع الأطراف : أهل المهنة ومؤسسات المجتمع المدني والمواطنين. لقد أعجبتني هبة الأيمة وتجمهرهم أمام المجلس التأسيسي لمساندة ودعم كل النواب المطالبين بسحب الفصل السادس من الدستور والذي ينص على تجريم التكفير. فأحيانا يجد ثوار المجلس التأسيسي أنفسهم مجبرين على الموافقة الوقتية على تمرير فصل لا يتماشى مع هوية البلاد والعباد نتيجة بعض الأخطاء من بعض النواب المحترمين ونتيجة ضغوط كبيرة من بقايا الاستبداد من داخل وخارج المجلس التأسيسي وتجنبا وتحاشيا لتخميرات بعض النواب المتطرفين لغاية تعطيل عمل المجلس والانقلاب على خارطة الطريق وعلى كل المسارات. فالثوار في المجلس التأسيسي ليسوا ملائكة وليسوا معصومين من الخطأ وبقدر ما هم محتاجون لتصويبات المجتمع المدني هم محتاجون في كل مرة إلى مساندة ودعم ثوار المجتمع المدني بكل أشكال الدعم من مسيرات ووقفات مساندة ومهرجانات خطابية. فالثورة ليست مجرد محاربة ومجاهدة رئيس أو رأس نظام من أجل الإطاحة به وكفى. بل هي نضال مستمر ضد الفساد وكل رموز الاستبداد على مختلف الواجهات. والإطاحة برأس النظام لا تعني البتّتة نجاح الثورة بل تعني فقط السير خطوة عملاقة على بداية طريق النجاح. وكل عمل يساهم في اجتثاث رمز من رموز الفساد أو في هدم قلعة من قلاع الاستبداد لترسيخ مناخ الحرية وقواعد الديمقراطية فهو بمثابة قطع مسافة على طريق النجاح وهو بمثابة شحن إضافي لرصيد الثورة ومساندة إضافية للثوار لمزيد تثبيتهم في مواقعهم. ولا يفوتنا في هذا المجال أن نستشهد بسيرة سيد الخلق ونذكر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ الثورة على الفساد والاستبداد في مناخ معاد لها. واستدعى الأمر خوض أربع معارك فاصلة في تاريخ الإسلام وصبر وجلد وجهاد مستمر وانتظار 21 سنة كاملة لتحقيق الانتصار. فإذا كان رسول الله المعصوم والمؤيد بالوحي والمؤيد بنصر الله والذي أوتي جوامع الكلم انتصر على الفساد والاستبداد بعد 21 سنة وبعد خوض أربع معارك فاصلة فكم يلزمنا نحن اليوم من وقت ومن معارك فاصلة على مختلف بؤر الاستبداد لكي تنتصر الثورة على كل مظاهر الفساد والاستبداد. منجي المازني