منظمة الاعراف تناقش مع وفد عماني رفيع المستوي الاستعدادات لزيارة مرتقبة لزيارة وزير الصناعة العماني الى تونس خلال سبتمبر 2025    عاجل/ هذا ما تقرّر ضد بن غربية في 4 قضايا فساد    تونس في المرتبة السادسة عربيًا في مؤشر السلام العالمي لسنة 2025... تعرّف على قائمة الدول العشر الأولى    منتدى الحقوق الاقتصادية يطالب بإصلاح المنظومة القانونية وإيجاد بدائل إيواء آمنة تحفظ كرامة اللاجئين وطالبي اللجوء    حملة لمراقبة المحلات المفتوحة للعموم بدائرة المدينة وتحرير 8 مخالفات لعدم احترام الشروط القانونية (بلدية تونس)    عاجل: اتحاد الشغل يطالب بفتح مفاوضات اجتماعية جديدة في القطاعين العام والوظيفة العمومية    بلومبيرغ: إيران تخترق كاميرات المراقبة المنزلية للتجسّس داخل إسرائيل    عاجل: القلق الإسرائيلي يتصاعد بسبب تأجيل القرار الأميركي بشأن الحرب على إيران    البريمرليغ: "محمد صلاح" ضمن قائمة المرشحين لجائزة أفضل لاعب    التشكيلة المحتملة للترجي أمام لوس أنجلوس    الحماية المدنية: 552 تدخلا منها 98 لإطفاء حرائق خلال ال 24 ساعة الماضية    عودة التقلّبات الجوّية في تونس في ''عزّ الصيف'': الأسباب    ''مرة الصباح مرة ظهر''.. كيف يتغيّر توقيت اعلان نتيجة الباكالوريا عبر السنوات وما المنتظر في 2025؟    "ليني أفريكو" لمروان لبيب يفوز بجائزة أفضل إخراج ضمن الدورة 13 للمهرجان الدولي للفيلم بالداخلة    من مكة إلى المدينة... لماذا يحتفل التونسيون برأس السنة الهجرية؟    بطولة برلين : من هي منافسة أنس جابر اليوم الجمعة ؟    ميسي يقود إنتر ميامي لفوز مثير على بورتو في كأس العالم للأندية    كاس العالم للاندية : ريال مدريد يعلن خروج مبابي من المستشفى    عاجل/ طهران ترفض التفاوض مع واشنطن    روسيا تحذّر أمريكا: "لا تعبثوا بالنار النووية"    عاجل/ عقوبة سجنية ثقيلة ضد الصّحبي عتيق في قضية غسيل أموال    طقس اليوم: أمطار بهذه المناطق والحرارة في ارتفاع طفيف    ''التوانسة'' على موعد مع موجة حرّ جديدة في هذا التاريخ بعد أمطار جوان الغزيرة    صاروخ إيراني يضرب بئر السبع وفشل تام للقبة الحديدية...''شنو صار''؟    كأس العالم للأندية: الترجي الرياضي يواجه الليلة لوس أنجلوس الأمريكي    تقص الدلاع والبطيخ من غير ما تغسلو؟ هاو شنو ينجم يصير لجسمك    ما تستهينش ''بالذبانة''... أنواع تلدغ وتنقل جراثيم خطيرة    عاجل/ سعيّد يكشف: مسؤولون يعطلون تنفيذ عدد من المشاريع لتأجيج الأوضاع    100 يوم توريد... احتياطي تونس من العملة الصعبة ( 19 جوان)    خامنئي: "العدو الصهيوني يتلقى عقابه الآن"    الأوركسترا السيمفوني التونسي يحتفي بالموسيقى بمناسبة العيد العالمي للموسيقى    بالفيديو: رئيس الجمهورية يشرف على اجتماع مجلس الوزراء...التفاصيل    استقبال شعبي كبير في شارع بورقيبة لقافلة الصمود    باريوس يقود أتليتيكو للفوز 3-1 على ساوندرز في كأس العالم للأندية    إيران تطلق موجتين صاروخيتين جديدتين وارتفاع عدد المصابين بإسرائيل    كأس العالم للأندية: أتليتيكو مدريد يلتحق بكوكبة الصدارة..ترتيب المجموعة    خطبة الجمعة... ذكر الله في السراء والضراء    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    ملف الأسبوع...ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ الْكَرِيِمِ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ    شارع القناص ...فسحة العين والأذن يؤمّنها الهادي السنوسي .. الثقافة وهواة اللقمة الباردة : دعم ومدعوم وما بينهما معدوم.. وأهل الجود والكرم غارقون في «سابع نوم»!    موسم الحبوب: تجميع4.572 مليون قنطار إلى غاية 18 جوان 2025    رابع سبب للموت في العالم الخمول البدني يصيب 83 ٪ من التونسيين!    وفاة أول مذيعة طقس في العالم عن عمر يناهز 76 عاما    الاستثمارات الاجنبية المباشرة تزيد ب21 بالمائة في 2024 في تونس (تقرير أممي)    أمطار أحيانا غزيرة ليل الخميس    إسناد المتحف العسكري الوطني بمنوبة علامة الجودة "مرحبا " لأول مرة في مجال المتاحف وقطاع الثقافة والتراث    بعد 9 سنوات.. شيرين تعود إلى لقاء جمهور "مهرجان موازين"    اطلاق بطاقات مسبقة الدفع بداية من 22 جوان 2025 لاستخلاص مآوي السيارات بمطار تونس قرطاج الدولي    وفاة 5 أعوان في حادث مرور: الحرس الوطني يكشف التفاصيل.. #خبر_عاجل    الخطوط التونسية: تطور مؤشرات النشاط التجاري خلال أفريل وماي 2025    اتحاد الفلاحين ينظم، اليوم الخميس، النسخة الرابعة لسوق الفلاح التونسي    وزارة التجارة للتونسيين: فاتورة الشراء حقّك... والعقوبات تصل إلى 20 ألف دينار    لجنة الصحة تعقد جلسة استماع حول موضوع تسويق المنتجات الصحية عبر الانترنت    قرابة 33 ألفا و500 تلميذ يشرعون في اجتياز امتحان شهادة ختم التعليم الأساسي العام والتقني دورة 2025    عاجل: أمل جديد لمرضى البروستات في تونس: علاج دون جراحة في مستشفى عمومي    بعد تعرضها للهجوم .. نجوم الفن المصري يدعمون هند صبري بأزمة "قافلة الصمود"    قافلة الصمود تُشعل الجدل: لماذا طُلب ترحيل هند صبري من مصر؟    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نفحات من التفسير - الجزء الأول
نشر في الحوار نت يوم 10 - 12 - 2009


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله وليّ المؤمنين يخرجهم من الظلمات إلى النور، وهادي المجاهدين فيه يهديهم سبله حتى يروا اليقين، ومرشد السالكين إليه يأخذ بأيديهم حتى يروا أنّه هو الحق المبين. والصلاة والسلام على إمام العارفين، ومبدد ظلمات الجهل ومنكرات العقل وسفاهة المشركين: والأسوة الحسنة لكل من ابتغى الكمال والسعادة من الأوّلين والآخرين.


مقدمة
يغوص بنا هذا الحديث في سور القرآن الحكيم لنستخرج منها شيئا يسيرا من حكمة العليم في خلق الإنسان.
لقد رأينا لمّا غصنا في سورة الإخلاص أنّ العقيدة والفكر هما سبيل الإنسان إلى الامتياز عن غيره من المخلوقات، فاستخرجنا من هذه السورة الركن الأول لنهضته وهو ركن العقيدة والفكر. ثم رأينا لمّا غصنا في سورتي الليل والبلد أن الاجتماع والاقتصاد هما سبيل الإنسان إلى سدّ حاجاته، فاستخرجنا منهما الركن الثاني لنهضته وهو ركن الاجتماع والاقتصاد. ثم رأينا لمّا غصنا في سورة العلق أنّ الثقافة هي سبيل الإنسان إلى الكمال فاستخرجنا من هذه السورة الركن الثالث لنهضته وهو ركن الثقافة. وسنرى بالغوص في سورة العصر أنّ السياسة هي سبيل الإنسان إلى السعادة، فنستخرج منها الركن لنهضته وهو ركن السياسة .
بذلك نرى إلى حدّ هذا الحديث كيف تقوم نهضة الإنسان على أربعة أركان أولى منتهي كلّ ركن من هذه الأركان. ركن العقيدة والفكر ومنتهاه الامتياز، وركن الاجتماع والاقتصاد ومنتهاه سد الحاجة، وركن الثقافة منتهاه الكمال، وركن السياسة ومنتهاه السعادة.
ولقد رتّبنا هذه الأركان ترتيبا يجعل كلّ ركن متصلا بالركن الذي يليه. فركن العقيدة والفكر يتبعه ركن الاجتماع والاقتصاد إذ الامتياز الذي يميّز الإنسان عن سائر الكائنات يتبعه سدّ الحاجة. وركن الاجتماع والاقتصاد يتبعه ركن الثقافة إذ سد الحاجة يتبعه الكمال. وركن الثقافة يتبعه ركن السياسة إذ الكمال تتبعه السعادة.
وكأنّ هذه الأركان الأربعة هي درجات في سلّم نهضة الإنسان. أنظر الرسم1
الرسم 1: تدرّج نهضة الإنسان.



إنّ الرسم (1) يبيّن أنّ نهضة الإنسان هي تدرّج من الامتياز إلى سدّ الحاجة إلى الكمال إلى السعادة، وأنّ سبيل الإنسان في هذه النهضة هو أيضا تدرّج من العقيدة والفكر إلى الاجتماع والاقتصاد إلى الثقافة إلى السياسة.
إنّ هذا التدرّج يعني أنّ الإنسان لا يستطيع أن يبلغ درجة السعادة عن طريق السياسة حتى يبلغ درجة الكمال عن طريق الثقافة، ولا يستطيع أن يبلغ درجة الكمال عن طريق الثقافة حتى يبلغ درجة سد الحاجة عن طريق الاجتماع والاقتصاد ولا يستطيع أن يبلغ درجة سدّ الحاجة حتى يبلغ درجة الامتياز الإنساني عن طريق العقيدة والفكر.
فلو أراد الارتقاء من درجة الامتياز إلى درجة الكمال دون المرور بدرجة سدّ الحاجة لعجز عن بلوغ غايته، وكذلك لو لأراد الارتقاء من درجة سدّ الحاجة إلى درجة السعادة دون المرور بدرجة الكمال، أو لو أراد الارتقاء من درجة الامتياز إلى درجة السعادة دون المرور بدرجتي سدّ الحاجة والكمال.
ولكن هذا التدرج لا يعني أنّ الإنسان في نهضته يمر بأربع مراحل منفصلة زمنيا بعضها عن بعض، فلا يمرّ إلى مرحلة الاجتماع والاقتصاد حتى ينتهي من مرحلة العقيدة والفكر، أو لا يمر إلى مرحلة الثقافة حتى ينتهي من مرحلة الاجتماع والاقتصاد أو لا يمرّ إلى مرحلة السياسة حتى ينتهي من مرحلة الثقافة، وإنما الدرج لا ينفي أ، يكون الإنسان ساعيا في نفس الوقت إلى غايتين أو أكثر كالامتياز وسدّ الحاجة، أو كالكمال والسعادة . فلا مانع ابتداء من أن يتوازى سعيه العقدي والفكري وسعيه الاجتماعي، أو أن يتوازى سعيه الاجتماعي والاقتصادي وسعيه الثقافي ، وأن يتوازى سعيه الثقافي وسعيه السياسي وإنّما السعي الاجتماعي والاقتصادي لا يرتقي بالإنسان في سلّم النهضة ما لم يسبقه سعي اجتماعي واقتصادي يرفع الإنسان إلى درجة إليه من سدّ الحاجة، وكذلك السعي السياسي لا يرتقي بالإنسان في سلّم النهضة ما لم يسبقه سعي ثقافي برفع الإنسان إلى درجة عالية من الكمال . فهذا هو معنى شرط التدرج في سلّم النهضة الإنسانية . ولا معنى لنهضة الإنسان بدون هذا الشرط . لذلك فقد نرى الإنسان في الواقع يسعى في كل الاتجاهات في نفس الوقت، العقدي الفكري والاجتماعي الاقتصادي والثقافي والسياسي، دون أن يشهد نهضة حقيقية، فهو في سعيه هذا أقرب إلى الدوران في حلقة مغلقة، وما جعله يكون حبيس هذه الحلقة كونه لم يراع شرط التدرج، إذ لم يرتق بسعيه العقدي الفكري إلى درجة عالية من الامتياز تتيح له الانتقال النوعي في سلّم النهضة من درجة الامتياز إلى درجة سد الحاجة، ولم يرتق بسعيه الاجتماعي الاقتصادي إلى درجة عالية من سد الحاجة تتيح له الانتقال النوعي في سلّم النهضة من درجة سدّ الحاجة إلى درجة الكمال، ولم يرتق بسعيه الثقافي إلى درجة عالية من الكمال تتيح له الانتقال النوعي في سلّم النهضة من درجة الكمال إلى درجة السعادة.
وإن الالتزام يشرط التدرج في سلم النهضة الانسانية لا يعني أن يقتصر الانسان في سعيه على جانب واحد من جوانبه النهضة وتهمل الجوانب الأخرى فلا يقتصدها حتى يبلغ منتهى الجانب الذي يسعى فيه، إن أن هذا التقيّد يتنافى مع طبيعة حياة لانسان التي تقتضي السعي في اتجاهات متعددة في نفس الوقت. ولكن النهضة الانسانية تشترط، إلى جانب تعدّد أوجه السعي الانساني ، أن يرتقي سعي الانسان في أحد جوانب النهضة إلى درجة عالية هي الحدّ الأدنى للنهضة في ذلك الجانب، حتى إذا ما بلغ هذا الحد اأدنى استطاع أن يدخل في المسار الصحيح للنهضة في الجانب الذي يليه دون أن يخشى الضياع في مسارات خاطئة تجعله في الجانب حبيس دائرة مغلقة وتحول بينه وبين الارتقاء في سلم النهضة إلى الدرجة الموالية.
هكذا يتبين لنا مفهوم " الحدّ الأدنى للنهضة" المرتبط بكل جانب من جوانب النهضة، هو الحد الذي لم يصل إليه الانسان وهو يسعى في أحد جوانب النهضة . إذا هو الحد الذي لم يصل إليه الانسان وهو يسعى في أحد جوانب النهضة فلن يسير في المسار الصحيح الذي يقوده إلى الدرجة الموالية في سلم المهضة بل إنه يظل حبيس حلقة مغلقة لا تخرج منها أبدا انظر الرسم 2:
أطوار النهضة الأربعة وشروط الارتقاء فيها.
أطوارالنهضة

إن الرسم (2) يبيّن أنّ الإنسان يسعى في جوانب النهضة الأربعة، العقدي الفكري والاجتماعي الاقتصادي والثقافي والسياسي، في نفس الوقت ضرورةً بحكم طبيعة حياته ومستلزماتها، ولكنه لا يخرج من طور النهضة العقدي الفكري ليلتحق بطورها الاجتماعي الاقتصادي حتى يبلغ درجة " الحد الأدنى للنهضة" في الطور العقدي الفكري، ولا يخرج من طور النهضة الاجتماعي الاقتصادي ليلتحق بطورها الثقافي حتى يبلغ درجة الحد الأدنى للنهضة في الطور الاجتماعي الاقتصاد ولا يخرج من طور النهضة الثقافي ليلتحق بطورها السياسي حتى يبلغ درجة " الحد الأدنى للنهضة" في الطور الثقافي.
فكأن النهضة لها أطوار أربعة متصلة بجوانب السعي الانساني الأربعة، العقدي الفكري والاجتماعي الاقتصادي والثقافي والسياسي، وكل طور هو مجموعة من الدرجات أحدّها هو الحد الأدنى للنهضة في ذلك الطور، وهو الحد الذي بدونه لا يخرج الانسان من أطوار النهضة إلى الذي يليه.
ولنا أن نقول بأن ترتيب أطوار النهضة من الطور العقدي الفكري إلى الطور الاجتماعي الاقتصادي إلى الطور الثقافي إلي الطور السياسي إنما هو ترتيب يستوجبه ترتيب مقاصد سعي الإنسان الطبيعي وهي، كما رأينا سابقا ، الامتياز وسد الحاجة والكمال والسعادة . فترتيبها المنطقي والواقعي يبدأ بمقصد الامتياز الذي به يخرج الإنسان من خانة الكائنات السفلي إلى خانة الكائن العاقل المفكر الناطق، ثم يليه مفصد سدّ الحاجات الذي به يسد الإنسان حاجاته المعيشية التي يتطلبها نوعه الإنساني كالطعام واللباس والمسكن وغيرها. ثم يليه مقصد الكمال الذي يرتقي الإنسان من أدنى مراتب الإنسانية القريبة من مراتب الكائنات السفلي إلى أعلى مراتب الإنسانية القريبة من مراتب الكائنات العليا . ثم يليه مقصد السعادة الذي به يبلغ الإنسان حالة الصفاء والانسجام الداخلي والخارجي إن هذا التسلسل المرتب لمقاصد سعي الإنسان هو الذي نسميه " نهضة " فالنهضة ليست سعيا عشوائيا في كل الاتجاهات يأخذ من كل جانب بطرف دون الوصول إلى مراتبه الرفيعة ، ولكنّها سعي مرتب ترتيبا مقاصديا له أطوار متصلة بعضها ببعض يرتقي في كل طور منها مراتب رفيعة لنمر الآن من هذا الجانب النظري العام لمسألة " النهضة " إلى جانبها الواقعي لكي ندرك بعض خصائصها العملية.



لنأخذ جمعا من الناس تربطهم روابط عقدية فكرية وأخرى اجتماعية وأخرى سياسية وهذا ما نسمّيه " مجتمعا" إنّ هذا المجتمع إذا أراد النهضة فعلية أن يرسم لنفسه قسمين من الغايات، قسم الغايات القريبة وقسم الغايات البعيدة في جوانب السعي الأربعة أما قسم الغايات القريبة فيرسم فيه كل الغايات الملحة التي يفرضها الواقع فرضا لا يحتمل الإرجاء، وأما قسم الغايات البعيدة فإنه يرتب فيه الغايات ترتيبا يراعي فيه الجانب النظري العام لمسألة النهضة المبيّن في الفقرات السابقة . فيكون هذا الترتيب متحرّرا ولو جزئيا من ضغط الواقع ملتزما أكثر بالمقتضيات النظرية.
إن هذا التقسيم تفرضه ضرورة الالتزام في الوقت بمقتضيات الواقع والمقتضيات النظرية. فلو التزم المجتمع بمقتضيات الواقع وأهمل مقتضيات النهضة النظرية فإنه سيبقى سجين الواقع أبد الدهر ولن يجد للنهضة سبيلا مثله كمثل من يدرو في دائرة مغلقة لا نخرج منها أبدا . ولو التزم بمقتضيات النهضة النظرية وأهمل مقتضيات الواقع فإنه لن يأمن على نفسه من تفكك روابط ولا من الضياع في متاهات بعيدة يكون فيها هلاكه.
إن مقتضيات الواقع مقتضيات النهضة تفرضان على المجتمع أن يسير في مسارين متوازيين في نفس الوقت، مسار ذو أمد قريب يبلغ به الغايات التي يفرضها الواقع في جوانب السعي الأربعة، العقدي الفكري والاجتماعي الاقتصادي والثقافي والسياسي وفي هذا المسار يراعي في ترتيب هذه الجوانب إلا ما يقتضيه الواقع، فإن كان الواقع يقتضي أن يكون حجم السعي السياسي أكبر من حجم السعي الثقافي أو العكس، لذلك فإن ترتيب جوانب السعي الثقافي مقدّما في فترة على السعي السياسي ثم يصبح السعي السياسي في فترة أخرى مقدّما على السعي الثقافي التزاما بما يقتضيه الواقع لا غير . وأما المسار الثاني الموازي للأول فهو مسار ذو أمد بعيد يبلغ به المجتمع الغايات التي تقتضيها نظرية النهضة وأوّل هذه المقتضيات هو وضع أربعة أطوار للنهضة متصلة بعضها ببعض تبدأ بالطور العقدي الفكري الذي يخصصه المجتمع للبحث النظري والعلمي في كل ما يرفع درجة العقدية الفكرية حتى إذا ما تبين له أنه بلغ فيه مرتبة عالية انتقل إلى الطور الاجتماعي الاقتصادي فخصّصه للبحث النظري والعلمي في كل ما يرفع درجته الاجتماعية، بمعنى سدّ الحاجات ، حتى إذا ما تبين له أنه بلغ مرتبة عالية فيه انتقل إلى الطور الثقافي فخصّصه للبحث النظري والعلمي في كل ما يرفع درجته الثقافية، بمعنى الكمال، حتى إذا ما تبين له أنه بلغ مرتبة عالية فيه انتقل إلى الطور السياسي فخصّصه للبحث النظري والعلمي في كل ما يرفع درجته السياسية، بمعنى السعادة.
إن هذا المسار قد يأخذ من حياة المجتمع بضع عقود من السنين، فأن ما بلغ المجتمع الطور الأخير من النهضة، وهو الطور السياسي، بعد هذه العقود رأى نفسه أمام وضع عام جديد تتطلب مسايرته نهضة جديدة، عندئذ يبدأ حلقة نهضة جديدة فيصنع أوّل أطوارها الجديدة وهو الطور العقدي الفكري ثم ينتقل إلى الطور الاجتماعي الاقتصادي الجديد ثم الى الطور الثقافي الجديد ثم الى الطور السياسي الجديد وبذلك يتم الحلقة الثانية كما أتم الحلقة الأولى، فيمر بعدها إلى الحلقة الثالثة، ثم تتوالى عليه الحلقات تترا. فالنهضة هي سلسلة من الحلقات لا تنتهي إلا إذا عجز المجتمع عن صنعها، وانها في جوهرها بحث نظري وعلمي عن الغايات والوسائل التي تطور وضع المجتمع في أحد جوانب سعيه تطورا نوعيا ويجعله يستجيب إلى متطلبات المستقبل، فهي إذن تطلع إلى المستقبل البعيد.
لقد رأينا في أحاديث سابقة قواعد النهضة العامة في أطوارها الثلاثة الأولى، العقدي الفكري والاجتماعي الاقتصادي والثقافي، مستخلصة من سور القرآن عن طريق النظر الفكري فيها ونريد أن نستخلص في هذا الحديث قواعد النهضة العامة في طورها السياسي من سورة العصر سالكين نفس الطريق ونذكر بأن اختيارنا لهذا الطريق كان مبنيا على أن القرآن هو الحق المطلق الثابت الذي تقاس عليه كل الحقائق النسبية المتغيرة بتغير الزمان أو المكان أو الواقع الإنساني . فما من قضية يفرزها الواقع الإنساني في زمان ومكان ما إلا ولها حقيقة مرتبطة بالحق الذي جاء به القرآن، وما السبيل لإدراك الرابط بين حقيقة قضايا الواقع المتغيرة والحق والقرآن الثابت إلا النظر الفكري . إن قضايا الواقع غالبا ما تكون ملبسة بلباس يحجب ما بينها وبين الحق القرآني من روابط، ودور العقل الإنساني هو رفع ذلك اللباس حتى تنكشف تلك الروابط، فإذا انكشفت أدرك العقل حقيقة قضايا الواقع حتى وإن ظن أنه رآها فتكون رؤيته عندئذ خاطئة . إن القرآن قد وضع صورة لقضايا واقع الإنسان العقدية الفكرية والاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية غير مقيدة بقيود الزمان والمكان والوضع الحضاري، وأبرز في هذه الصورة حقائق القضايا وأحكامها الثابتة، وترك للعقل الإنساني مهمّة الكشف عن كل ما يربط هذه الصورة بصورة الواقع الحادتة في الزمان والمكان والمتغيرة بتغير الوضع الحضاري، فإذا اكتشفها استنباط حقائق قضايا كل عصر وأحكامها.
إن الانسان بما فيه من أسباب النقص يصنع واقعا بعض حق وصواب واكثره باطل وخطأ، وغالبا ما يشبه عنده الحق والباطل أو الصواب والخطأ فيرى بعض الباطل حق أو العكس وبعض الخطإ صوابا أو العكس فتنطمس بذلك حقائق قضايا الواقع وما توافقها من أحكام فتنشأ عندئذ في الواقع أسباب هلاك الانسان وخراب العمران . وإن الانسان لا يستطيع أن يجتنب هذا المصير إلا بسببين الأول هو أن تكون له صورة للواقع الانساني المثالي يظهر فيها الحق غير ملبّس بالباطل والصواب غير ملبّس بالخطا ومبينه لسبيل وقاية الانسان والعمران من مصير الهلاك والخراب وهذه الصورة هي التي جاء بها القرآن . والثاني هو أن تكون له الأداة التي يرى بها سبيل الخروج من واقع الباطل والخطأ الذي يصنعه والارتقاء الى الواقع المثالي وهذه الأداة ما هي إلا العقل إن القرآن والعقل هما شرطا نجاة الانسان والعمران من مصير الهلاك والحزاب والاقتراب من صورة الواقع الانساني المثالي. الأول شرط لتبين الغاية والثاني شرط لتبين السبيل . إنهما شرطان لازمان معا . فلو جاء الانسان بشرط القرآن ولم يأت بشرط العقل فإنه سيعرف غايته ولكن لن يعرف السبيل إليها ، ولو جاء بشرط العقل ولم يأت بشرط القرآن فانه لن يعرف غايته فلن يتخذ إليها سبيلا ، ولو جاء بهما معا لعرف غايته ولعرف السبيل إليها أيضا. وإن الشرط الأول وهو القرآن هو شرط ثابت وينبغي أن يكون كذلك لان صورة الواقع الانساني المثالي ينبغي أن تكون ثابتة لا تتغير بتغير الزمان ولا المكان، وأما الشرط الثاني وهو رؤية العقل فأنه متغيرا وينبغي أن يكون كذلك لأن السبيل لإدراك صورة الواقع الانساني المثالي يتغير بتغير الزمان أو المكان، إذا السبيل ما هو إلا الأدوات والوسائل التي يسير بها الانسان نحو غايته، وهذه الأدوات والوسائل تتغير من جيل يشري إلى أخر . لذلك فأن الانسان لا يستطيع أن ينجو من الواقع الرديء الذي يصنعه إلا إذا كانت له صورة ثابتة للواقع الانساني المثالي يحافظ عليها مهما تغير الزمان والمكان ثم اتخذ لبلوغ تلك الصورة سبيلا يتغير مع الزمان و المكان . فالثابت في سعي الانسان هو الغاية والمتغير هو السبيل . فإذا غير الانسان صورة الواقع المثالي التي جاء بها القرآن فإنه لن يخرج بسعيه إلا من واقع رديء آخر بل قد يكون أحط منه، وإذا لم يغيّر الانسان الرؤية العقلي التي تبين له سبيل إدراك الواقع المثالي فكأنه رؤية لهذا السبيل جامدة لا تأخذ بمتغيرات العصر فإنه لن يصل بسعيه إلى الواقع المثالي الذي يرغب الوصول إليه.
إن تاريخ الإنسانية، منذ أن ظهر الإنسان العاقل على الأرض وعرف صورة الواقع الإنساني المثالي عن طريق الرسل والأنبياء، ليشهد على هذه الحقيقة. فما كانت الكوارث التي أصابت الإنسان قديما وحديثا إلا نتيجة أحد سببين، إما تغيير صورة الواقع الإنساني المثالي التي جاء بها الرسل كما فعل بنو إسرائيل، وإما التشبث برؤية عقلية واحدة لا تتغير على مر العصور في السعي إلى الواقع الإنساني المثالي كما فعل المسلمون على إثر نهضتهم الأولى والأخيرة ، وكما يزال أكثرهم يفعلون اليوم:


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.