كوننا أمة القرآن، كما نزعم بها لأنفسنا، من المفروض علينا وكركن من أركان التوحيد أن نؤمن بالقرآن، كما نؤمن بالله تماماً بكل صفاته العلا وأسمائه الحسنى، والإيمان بأسمائه الحُسنى وصفاته العلا يتطلب معرفة ماهية الصفة والإسم ليكون الإيمان عن معرفة ويقين، وذاك من صفات الأنبياء والمرسلين، وأوصيائهم، والصالحين المُحسنين من بعدهم من الأئمة والعارفين والمُتقين.... ونفس الشروط تنطبق على كتاب الله، فالإيمان به يستوجب ما يستوجبه الإيمان بالله، وعلى رأس الواجبات معرفة أنه كلام الله فيه تفصيل وتبيان "لكل شيئ" ولم يُفَرَط فيه "من شيئ"، فلا عُذر إذاً لأحد من العالمين أن يُخالف ما فيه، ولو كان رسولاً مرسلاً، فكيف إذا خالف صريحه بشرٌ واعتُبِرَ مجتهداً، ولو ضَلَّ فلن يُحرَمَ أجر اجتهاده!!! أفبآيات الله تجتهدون، وهل نقص في القرآن "من شيئ" أم لم يتبين "أي شيئ"!!؟؟
ولندخل في صميم الموضوع ونقول بأن "سياسة" إقصاء الآخر، هي مخالفة صريحة وواضحة لله ورسوله، بَلْ والأعظم من ذلك أنها تَجَبُرٌ على الله وتعالٍ عليه، سبحانه وتعالى عما يصفون علواً كبيرا.... يُخبرنا الله تعالى في كتابه العزيز عن كيفية خلق الإنسان الذي سيكون بداية لهذه الحياة ، لأنه لولا الإنسان لما كانت هناك حاجة لخلق السماوات والأرض المُسخرات لهذا المَخلوق العظيم، بعظمة خالقة، والمهين بأعماله وأقواله.... خَلَقَ الله آدم "البشر" من طين ثم نفخ فيه من "روحه"، وأمر الملائكة بأن يسجدوا له تعظيماً للخالق على خلقه، فسجدوا، و"استكبر" إبليس، فكانت عاقبته اللعنة إلى يوم القيامة ثم العذاب الأليم، ألم يَكُنْ من الأَسْلَم، من وجهة نظر "اجتهاد" البشر، إقصاؤه والتخلص منه إلى الأبد؟ وهذا يكون تعدّ واضح وصريح على صفات الله وأسمائه ومخالفة بينة لمنهجه. حاور الله إبليس اللعين وهو خالقه، واستعتبه واستفسر منه وهو سبحانه العالم بكل شيئ، فهل هذا الفعل الإلهي، والمنهج الرباني، والمشهد الفني القرآني عَبَثٌ وبَطَرْ!!!؟؟ سبحان الله عما يصفون ثُمَ أخبر الله آدم بأن هذا عدوٌ لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، تبليغ وإقامة الحجة، "فعصى" آدمُ رَبَهُ "فغوى"، لقد سَقَطَ آدم "البشر" عند أول اختبار له، فهل كانت النتيجة "الإقصاء"؟ ذاك ملعون متكبر، وآدم عاص لربه، واستمرت الحياة إلى يومنا هذا، وستستمر إلى أن يشاء خالقها.... فإن كان هناك من البشر، أو الفكر من يرقى إلى درك إبليس، فإن الحل الرباني الذي بين أيدينا هو عدم إقصائه، فما بالك بمن هو من نفس الملة والدين!!! وأما إذا لجأنا إلى اجتهادات البشر وتأويلاتهم، فالحلول بعَدَدِ البشر، وبالتالي تكون الفرقة والاختلاف داخل الدين الواحد، بل والمذهب الواحد. وقبل أن نغادر سماء القرآن نُذكر به من يخاف وعيد؛ حيث "نهانا" الله عن سب الذين يعبدون من دون الله آلهة أخرى، من الصنم الصناعي إلى الصنم البشري، مروراً بالبهائم ووصولاً إلى الكواكب، فكيف نُحلِّلُ لأنفسنا سب أهل ديننا وملتنا، ولو اتَهم بعضُنا بعضاً "بالشرك"، وهو ما لا يغفره الله، ولكن ليس للبشر من محاسبتهم نصيب: " وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ". وكمثال بسيط وواضح لما ورد في الآية؛ معاوية أمر بسب الإمام علي وأهل بيته على المنابر، وهذا متواتر لا يحتاج إلى برهان، وردة الفعل الفطرية التي أخبر بها القرآن في نفس الآية أن من غلاة الطرف الآخر من رد بسب الشيخين أبي بكر وعمر، والبقية معروفة....... ولكل طرف من يبرر لفعله ويعتذر له. والخطير في هذه الآية الكريمة قوله تعالى "زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ" فهل من أمة أو فرقة أو مذهب من يستطيع أن يدَّعي بأنه يملك ما يُثبت يقيناً بأن ما يراه حقاً ليس سوى "تزيين لعمله"؟؟؟ إن زَعَمَ أحدٌ ذلك فقد خالف كتاب الله وكذَّبَ كلامه، فالله يقول "فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى". وإن كان هناك أعظم من ذنب إبليس، وأخطر من الشرك، فمن المسموح لكم أن تجتهدوا وتُقصوا الآخر، لأن ذلك سيكون حينها تشريع جديد لأمر مُستحدث لم يرد نصه في القرآن الذي فيه "تبيان وتفصيل لكل شيئ"!!!
بعد القرآن الذي يُتلى نُعرج إلى القرآن الذي كان يمشي على الأرض، ونقول بعيداً عن "الديماغوجية الدينية-المذهبية" كان رأس المنافقين الذين آذوا رسول الله "ابن سلول"، فهل أقصاه الرسول الأعظم؟؟ وهو العالم بكل شيئ من ربه..... وفي حديثه الصحيح "في أصحابي إثنا عشر منافقا"، لماذا لم تفضحهم وتقصيهم يا رسول الله، أليس ذلك أسلم للأمة؟؟؟ هذا سؤال لا يطرحه من كان يؤله الله ويتبع رسوله، وأما من كان يؤله الخَلْقَ فسوف يخالف هذا المنهج الرباني المحمدي، ليشفي غليله ويحقق أهدافه "باجتهادات" البشر لأن فيها فسحة كبيرة لإشباع الهوى وبلوغ المرام. هذا عن رأس النفاق الذي نزل فيه قرآن يُتلى إلى يوم الدين، فهل من قرين له في زماننا؟ وإن وُجدَ فعلاً فما حُكمهُ وما الحَلُّ مَعَهُ؟؟؟ ونذهب إلى العظيمة الأخرى وهي الشرك، ونقول بأن المُشركين الذين تَمَكَّنَ منهم الرسول يوم فتح مكة لم يقتلهم و"لم يُقصيهم" بل أعطاهم خيارات عدّة كلها لا تحمل في طياتها مثقال ذرة من الإقصاء، بل وذهب إلى حد بعيد في عطائه حين أمَّن من دخل بيت أبي سفيان، وهو أكثر من حارب رسول الله من يوم بُعث إلى يوم الفتح..... فهل بعد الشرك ومحاربة الله ورسوله كبيرة تستوجب الإقصاء؟؟
وهذا لا بد أن يقودنا إلى سؤال جوهري ومُلح: ماذا يترتب عن "سياسة الإقصاء"؟ يترتب عليها فساد الأمة وتشتتها وتشرذمها وتعاونها مع أعدائها الفعليين للقضاء على إخوة الدين والعقيدة، بتهم جاهزة مُعلبة وضعها بشرٌ، يُصيبوا ويُخطئوا، فيخربوا أمتهم بأيديهم كما فعل الذين من قبلهم. وقد بدت ملامح "سياسة الإقصاء" رويداً رويداً بعد انتقال الحبيب المُصطفى إلى جوار خليله وحبيبه، وذلك عندما بدأت اجتهادات البشر من الصحابة تُؤخذُ على أنها قرآن مُنزَّل، بالرغم من ترديد "أهل السنة والجماعة" لمقولة "كلٌ يؤخذ من قوله ويُرد إلا صاحب هذا القبر" أي محمد نور الله في الأرض، يرددون ذلك قولاً، ويخالفونه عملاً في الكثير من الأمور.. وأما "الشيعة" فيعتقدون بأن آل بيت النبي عليهم الصلاة والسلام هو أوصياء الحبيب والأئمة من بعده ولهم العصمة المُطلقة.. من هنا بدأت سياسة الإقصاء وحجب الرأي الآخر لصالح من كانت بيده القوة والسلطة، التي انتقلت من طرف إلى آخر عبر العصور، وإن كان بتفاوت كبير لصالح "أهل السنة"، زماناً ومكاناً..
ولكي نُدعم ما نقوله نعود إلى قولين يُلخصان ما ذهبنا إليه بكل وضوح.
الأول قول بن عباس رضي الله عنهما: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر" (مسند الإمام أحمد، ابن تيمية في مجموع الفتاوى26/281، ابن حزم في الإحكام:4/581، وغيرهم كثير)، ثم عقب عليه الإمام بن حزم الأندلسي بما معناه، أن بن عباس قد قالها في ذلك العصر وفيه من فيه من الرجال والصحابة العالمين، فكيف بنا اليوم أقول قال الله وقال رسوله فتقولون قال الشافعي وقال مالك!!!! ثم أتى ابن قيم الجوزية ليعقب على نفس القول فقال بنفس قول ابن حزم إلا أنه قال "فتقولون قال بن فلان وقال أبو فلان"!
والثاني حديث عبد الله بن عمر حين سأله أحدهم في مسألة ولما أفتاه قال: إن أباك قد نهى عنها ! فقال عبدالله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله(ص): أمرُ أبي يُتَّبَع أم أمرُ رسول الله(ص)؟! فقال الرجل: بل أمر رسول الله(ص) . فقال: لقد صنعها رسول الله... (والحديث أخرجه الترمذي وأبو يعلى وصححه الألباني في سنن الترمذي ج1.) وعقَّبَ الإمام أحمد على قول بن عباس بقوله: عجبتُ لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان. والله تعالى يقول: ((فليحذر الذي يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). وأي فتنة أشد مما نحن فيه الآن، استباحة دماء وأعراض وأموال المسلمين ممن يخالفوننا في الرأي أو المذهب، وما اختلفوا إلا من بعد ما جائهم البينات "بغياً" بينهم.. نعم إنه البغي ولا شيئ سواه، هذا قول الله، ومن أراد أن يسميه باسم آخر فليتحمل وزره أمام ربه..
فليتق الله كل من كان يؤمن بالله ورسوله وكتابه واليوم الآخر، وليعلم الذين يعبدون من دونه بشراً، يُحِلّون لهم ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، بأنهم مشركون من حيث لا يشعرون وذلك مصداقاً لقول الحبيب عن أهل الكتاب الذين اتخذوا رهبانهم وأحبارهم آلهة من دون الله، ونحن اتخذناهم كذلك ولكن بمسميات مختلفة لفظاً، ومتطابقة مضموناً... ولا أعتقد، بعد هذه الآيات الصريحة الواضحة والسنة المحمدية الطاهرة، أن هناك فرقة ترى من إقصائها للآخر حقٌ مُبين ومنهج سليم، إلا من أبى واستكبر وكان من الخاسرين...
وختاماً أنادي ناصحاً ومُذَكِّرا جميع الطوائف والمذاهب بأن يتدبروا الآيات الكريمة التالية ويستحضروا مشهدها، ويجعلوها بوصلتهم المُنجية من عذاب أليم، ولن يتمرد عنها إلا من سار على منهج أول مُتَمَرد على أوامر الله ولنفس السبب دائماً، وذاك ما يؤكده الله في تقريعه وتوبيخه لهؤلاء "المستكبرين" عن سنة الله ورسوله: "وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ @ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ" فلا "الجمعُ" مُغنٍ بفلان وفلتان، ولا "الاستكبار" عن آيات الله وصراطه ومنهجه. والبأس الكبير والخذلان العظيم والضلال البعيد والعقاب الشديد يتمثل بداية برؤية هؤلاء الذين نراهم على الباطل ونرى أنفسنا على الحق من دونهم، يدخلون الجنة بلا خوف ولا حزن، ونكون نحن من أصحاب الجحيم.. وقانا الله وإياكم من عذاب الجحيم، وهدانا إلى صراطه المستقيم، وجمع شملنا على ما اجتمعت به الأمة في بدايتها، كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما أجمعت عليه الأمة بجميع طوائفها ومذاهبها من صحيح الحديث... والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدوان إلا على الظالمين...