تأجيل محاكمة العميد الأسبق للمحامين شوقي الطبيب إلى 12 فيفري المقبل    القصرين: سائقو التاكسي الفردي يجدّدون احتجاجاتهم للمطالبة بالترفيع في عدد الرخص    رسميا: نعيم السليتي جاهز للمشاركة في كأس أمم إفريقيا    تونس: كيفاش تستعدّ الديوانة التونسية لعطلة الشتاء ورأس العام    فيلم "هجرة" للمخرجة والكاتبة السعودية شهد أمين : طرح سينمائي لصورة المرأة وصراع الأجيال    حزب التيار الشعبي يلتقي قيادات من حركات المقاومة الفلسطينية    وفاة رضيع نتيجة البرد القارس في خان يونس..#خبر_عاجل    زيلينسكي: روسيا تتهيأ ل"سنة حرب" جديدة في أوكرانيا    الحماية المدنية: 117 تدخّلا للنجدة والإسعاف بالطرقات خلال ال 24 ساعة الماضية    نهائي السوبر: الترجي ضد النجم – وقتاش؟ وفين تشري التذاكر؟    عاجل: منع جماهير منتخبات عربية وإفريقية من دخول مونديال 2026... وهؤلاء المعنيون    تفاصيل ممكن تغيب عليك كيف تكري دار...أهمّها إجراءات المغادرة والزيادة    تظاهرة كروية جهوية من 23 الى 26 ديسمبر 2025 بالمركز الثقافي والرياضي للشباب بن عروس    بعد 13 عامًا..العثور على طائرة مفقودة في الهند    جمعية أجيال قصر هلال في جبل سمّامة: الجبل يحتفي بالدكتور فنطر    كوتش يفسّر للتوانسة كيفاش تختار شريك حياتك    تزايد حالات التهابات الأنف والأذن والحنجرة: تحذيرات من دكتورة تونسية    تأخير محاكمة الأزهر سطا    دار الصناعات التقليدية بالدندان تحتضن معرض "قرية وهدية" من 22 الى 30 ديسمبر الجاري    معهد الرصد الجوّي يكشف موعد وصول التقلّبات الجوّية    الملتقى الوطني للاتحاد التونسي لاعانة الاشخاص القاصرين ذهنيا من 19 الى 21 ديسمبر 2025 بمدينة سوسة    سيدي بوزيد: اضراب جهوي لأعوان الشركة الجهوية للنقل القوافل    لا تفوتوا نهائي كأس العرب لكرة القدم بين المغرب والأردن..موعد والنقل التلفزي..    فتح باب الترشح لجوائز الإبداع الأدبي والفكري والنشر لمعرض تونس الدولي للكتاب    المسرح الوطني التونسي يقدم سلسلة عروض لمسرحية "جرس" بداية من الجمعة 26 ديسمبر    ندوة حول اللغة العربية وتضافر الاختصاصات يوم 20 ديسمبر 2025 بالمكتبة الجهوية متعددة الوسائط بأريانة    خلال الملتقى الوطني للكورال بجندوبة.. مدرسة البراهمي تترشح للنهائيات الوطنية    الجامعة النيجيرية لكرة القدم توجه إتهامات خطيرة لمنتخب الكونغو الديمقراطية    الاولمبي الباجي يعزز صفوفه بمحرز بالراجح ومحمد علي الراقوبي    رحلات وهميّة نحو تونس: عمليّات تحيّل كبيرة تهزّ الجزائر    عاجل: الدولة تنظّم ''شدّان الصغار'' في الدار...وهذه أبرز الشروط    نائب بالبرلمان: تسعير زيت الزيتون عند 15 دينارا للتر لن يضرّ بالمستهلك..!    اختفى منذ أيام: العثور على جثة شاب متوفي وسط ظروف غامضة..    دراسة تحذر.. "أطعمة نباتية" تهدد صحة قلبك..تعرف عليها..    الستاغ: هاو كيفاش تتمتّع بإجراءات تسهيل الخلاص بداية من 22 ديسمبر    في المرتبة التاسعة: تونس تسجّل أضعف معدّلات الولادات عربياً    عاجل/ بداية من اليوم: تونس تدخل تحت تأثير منخفض جوّي قادم من الجزائر..    بطولة الكويت: طه ياسين الخنيسي ينقذ الكويت من الخسارة امام السالمية    عاجل/ رصدت في 30 دولة: الصحة العالمية تحذر من انتشار سريع لسلالة جديدة من الإنفلونزا    ولاية ثالثة لترامب.. "حديث" يثير عاصفة دستورية    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    ترامب في خطابه إلى الأمة: الجيش الأمريكي هو الأقوى في العالم    عامر بحبة... منخفضًا جويًا قادمًا من الصحراء الجزائرية سيبدأ تأثيره على البلاد تدريجيًا    هدية أسطورية لميسي من ملياردير خلال زيارته الأخيرة إلى الهند    الاتحاد الأوروبي يوافق على قواعد أكثر صرامة بشأن ترحيل طالبي اللجوء    ديوان الزيت يدعو المتدخلين في القطاع لطلب تخزين زيت الزيتون لدى الخواص    ليلة الأربعاء: سماء مغيمة وأمطار متفرقة في هذه المناطق    عاجل: دولة عربية تعلن عن احتمالية اضطرابات في الرحلات الجوية...والسبب الطقس    عاجل/ عامين سجن في حق هذا الفنان..    هام: منظمة الصحة العالمية تحذّر من الانتشار السريع لل Grippe    مستشفى شارل نيكول: نجاح أول جراحة الكلى الروبوتية في تونس    عاجل/ "الستاغ" توجه بلاغ هام للمواطنين..    صندوق النقد العربي: بورصة تونس تتصدّر البورصات العربيّة في ارتفاع القيمة السوقية    شيرين تردّ على ''الكلام الكاذب'' عن صحتها وحياتها    الدكتور محسن حمزة/طبيب ... شباب القرن الحادي والعشرين يريد خطابًا يُحاوره لا يُلقّنه    ندوة «الشروق الفكرية» .. الشّباب والدّين    د. الصحبي بن منصور أستاذ الحضارة الإسلامية/جامعة الزيتونة.. السّؤال خارج الخطاب التقليدي خطوة لفهم الدّين لا ابتعادا عنه    8 أبراج تحصل على فرصة العمر في عام 2026    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموضوع و الموضوعية في البحث الشرعي

منذ تأسس علم أصول الفقه مع الشافعي ظل الموضوع الذي تستفاد منه المعرفة الأصولية ثابتا و مجمعا عليه. ويتمثل في الكتاب والسنة، واستثمار النصوص منهما. ولقد ظهرت أصول أخرى تختلف من مذهب إلى آخر، لكنها ظلت قليلة الفائدة، شحيحة المردودية، أدخلها علماء الأصول رغبة في الاستقصاء و التطويل ، وذلك كشرع من قبلنا، أو أن تكون أصولا بالمجازلا بالحقيقة، وذلك لرجوعها في الحقيقة إلى الكتاب و السنة، مثل ما هو الشأن للإجماع و القياس و المصلحة فإنها تستند على الأدلة، و إلا لم يعترف بها كما هو معلوم و شائع عند الأصوليين، في قولهم بأن القياس لا بد فيه من أصل يقاس عليه، و الإجماع كذلك وهلم جرا مع الأدلة الأخرى. و نظرا لهذا فإن القرآن والسنة قد ظلا العنصر الثابت في مرجعية البحث الشرعي، وقطب الرحي اللذين يدور الاجتهاد و البحث عليهما.
لقد ظهر هذا الأمر جليا عند الشافعي من خلال الرسالة. عندما قسم البيان إلى قسمين نص واستنباط من النص، فيقول بأن تعلم القرآن يعنى « استدراك عمله نصا و استنباطا[1]» ويقول أيضا: « فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصا و استدلالا ووفقه الله للقول والعمل بما علمه فاز بالفضيلة»[2] وكذلك السنة فهي أيضا طراز من الكتاب ونوع منه. لأن الله قرن بينهما فقال: «ويعلمهم الكتاب و الحكمة» وهي السنة كما يقول الشافعي عن من يثق به من أهل العلم. يقول الشافعي «وإنما هي يعني السنة- تبع للكتاب بمثل ما نزل نصا ومفسرة معنى ما أنزل الله منه جملا» ويقول أيضا: « ولا نجد خبرا ألزمه الله خلقه نصا بينا إلا كتابه ثم سنة نبيه»[3]
إن الشافعي يستخدم منهجا يقوم على العلم وهو أن يكون الموضوع ماثلا ويكون الدارس هدفه هو استنباط الموضوع واستخراج إمكانياته التأويلية.
نعم يضيف الشافعي إلى الكتاب و السنة الإجماع و القياس فيقول: «ليس لأحد أبدا أن يقول في شيئ حل ولا حرم إلا من جهة العلم ، وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس[4]» إلا أن مفهوم القياس عنده لا يخرج عن الكتاب والسنة فهما أصل القياس. ولا قياس بدونهما، فالقياس عند الشافعي على أصل سابق من أجل استخراج المعنى منه. يقول الشافعي: «والقياس ما طلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم من الكتاب والسنة لأنهما علم الحق المفترض طلبه كطلب ما وصفت قبله من القبلة والعدل والمثل»[5]. و في هذا الصدد يمكن القول بأن هاجس الشافعي هو تحقيق اليقين في المعرفة الشرعية. و يرى بعض الباحثين أن اختزال مذهبه في التوفيق بين المدرستين ، مدرسة الرأي في العراق ومدرسة الحديث في المدينة هو ظلم له ، لأنه يقدم تاصيلا أصيلا لأصول الفقه، يقوم على اليقين كمقياس لقبول هذا الأصل أو ذاك. يقول رضوان السيد في قراءته لمشروع الشافعي التي يستنتج منها: « وهكذا فإن الشافعي ما كان توفيقيا أو تلفيقيا كما يقال... كان همه المركزي الحصول على اليقين في مصادر التشريع وأدلته فتركزت الوظائف التشريعية عنده في المصدرين الأولين، ووجد للمصدر الرابع وظائف تنظيمية علائقية، لكنه – بسبب من النظرة السالفة الذكر بالذات- ما استطاع أن يجد مكانا للإجماع في منظومته »[6]
لقد نظر الشافعي إلى ما عدا الكتاب والسنة بشيء من الحذر والشك. فرفض إجماع أهل المدينة وقال في هذا الصدد « ما سمعت أحدا ذكر قوله يعنى قول مالك في إجماع أهل المدينة – إلا عابه وأن ذلك عندي معيب»[7].
كما أنه رفض الاستحسان لأنه لا يلبي منهجيته السابقة من الاعتماد على الأصل. فمن المعروف أن الإمامين مالكا وأبا حنيفة قد أخذا بالاستحسان في حين أفرد الشافعي فصلا كاملا في كتابه( الأم) لإبطاله معتبرا أن من استحسن فقد شرع.[8]
ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا بأن المواقف الأصولية كانت تميل إلى كفة الشافعي. حيث أن الأصول عند مالك وأبي حنيفة رغم شمولها على الاستحسان وسد الذريعة والمصالح المرسلة وشرع من قبلنا قد آلت في النهاية إلى الأصول الأربعة عند أغلب أتباع المذاهب من الأصوليين.
نجد هذا المعنى واضحا في اختزال الأصول في الكتاب و السنة مع الشاطبي. ففي كتابه الشهير الموافقات اكتفي بالكتاب و السنة في الحديث عن اصول الأحكام دون اهتمام بالإجماع و القياس. ويقول في هذا السياق «فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسباني ، وألقي في نفسي إلقاء بصيرة أن كتاب الله وسنة نبيه، لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول، ولا أبقيا لغيرهما مجالا يعتد به فيه، وأن الدين قد كمل والسعادة الكبرى فيما وضع، والطلبة فيما شرع، وما سوى ذلك فضلال وبهتان وإفك وخسران»[9]. و يقول أيضا أن العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى محصل لكلمتي الخير دنيا و أخرى و ما سواهما فأحلام و خيالات و أوهام [10] هل هذا الكلام الذي يقوله الشاطبي الذي يزن الألفاظ و يضعها وضعا كأسنان المشط كما يقول الشيخ عبد الله دراز عنه، يعني أن الإجماع و القياس باطلين؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف هو الأمر لما دونهما من الأصول الأخرى كالاستحسان الذي يعتبر عند البعض تسعة أعشار العلم؟
ونرجع لنقول: يقوم البحث الشرعي عند الشافعي بالاعتماد على الدليل. وهو النص أو الاستدلال من النص. وقد ظل هذا القانون متحكما ومحكما بعده. وذلك لما يوفر من العلمية والموضوعية اللذين يطلبهما كل بحث يريد أن يصل إلى نتائج موضوعية. ذلك أن عمل العقل يتمثل وينحصر في استخلاص واقع كان موجودا قبله. وعندما لا يتقيد العقل بموضوع معطى، دخل في التناقضات من بابها الواسع. ولهذا فإن البحث الشرعي ظل علميا كلما التزم بهذا المبدإ، و يقع في الزلل كلما ابتعد عنه. وهذا ما يوضحه القياس: فكلما كان في معنى النص و بالاستناد إليه كلما كان علميا ، وكلما كان الأصل غير واضح المعالم كلما كان أبعد من اليقين وكثر فيه الخلاف و الاختلاف، كما هو الشأن في قياس الشبه، فقد قال الغزالي أن ما يتحقق في المؤثر لا يتحقق فيه لذلك كثر الخلاف فيه. وأيضا فإن النظر في المقاصد و البحث فيها يستمد العلمية كلما اتكأ على النص و كان الهدف هو استخراج المقصد الشرعي من هذا الدليل أو ذاك. اما إذا تجاوز العقل النصوص المعطاة دخل في مقاصد ذاتية لا تنضبط مثل المقاصد الضرورية التي تنقص و تزيد حتى دخلت مقاصد الملائكة و مقاصد الجن عند البعض. ذلك ان البحث الشرعي يجب ان يبقى متمثلا في استغلال النصوص فقط و إذا قيل بأنها لا تفي فذلك أننا لم نعتبر أن النصوص و معانيها شيئ واحد و المعاني الشرعية حاوية لمقاصد الدين و الدنيا و بهذا تتحقق الموضوعية فالفكر مربوط بالنصوص و النصوص ايضا متسعة لاتساع معانيها.
ولعل الأصوليين قد قالوا بالوجود القبلي للمرجعية . فالإجماع يجب أن يكون بالاستناد إلى دليل، والقياس يجب أن يكون بدليل هو الأصل المقيس عليه، والمصلحة يجب أن تكون بدليل يدعمها، والاستحسان بدليل أيضا لأنه «عدول المجتهد عن مقتضى قياس جلي إلى مقتضى قياس خفي، أو عن حكم كلي إلى حكم استثنائي بدليل انقدح في عقله، ورجح لديه هذا العدول» أو هو «ترك القياس في مسألة ما والأخذ بما هو أوقف للناس»[11].
إذن في جميع الحالات ظل تقنين الشافعي لمصادر التشريع معتمدا، وثابتا ويتمثل في استخراج الحقيقة من دليل سابق وأصل موضوع بطريقة قبلية.
إن القول بوجود أصل متفق عليه شرط ضروري لإقامة أي استدلال، وللحصول على أية معرفة. يقول الجويني: «ولا معنى للدليل إلا بناء مطلوب على مقدم ضروري» واتفق الأصوليون على أنه لا بد من وجود المقدمة الأولى مسلمة، كما أنه لابد من وجود أصل يعتمد عليه: يقول الغزالي: «فإذا وقع النزاع في المقدمة الأولى لم تثبت إلا بالأدلة الشرعية، فإن التنازع فيه قضية شرعية، وهو كون الطعم علة مثلا، فيثبت ذلك بالنص أو بالإيماء أو الترتيب على الواقعة، أما إذا وقع النزاع في المقدمة الثانية وهو وجود العلة في الفرع بعد تسليم كون الوصف علة فهذا يعرف تارة بالحس.. وقد يعرف بالعرف وقد يعرف باللغة»[12]
وهذا ما يعنيه الشاطبي عندما يقول: « كل دليل شرعي فمبني على مقدمتين، إحداهما راجعة إلى تحقيق مناط الحكم، والأخرى ترجع إلى نفس الحكم، فالأولى نظرية وأعني بالنظرية هنا ما سوى النقلية سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر»[13]
فإذا كان الدليل المعين لابد من الأخذ به مسلما ليقاس به الفرع الذي يمثل النازلة الجديدة، فإن الأصل الكلي كالكتاب والسنة لابد أن يؤخذ به مسلما، ولابد أن يسلم بمصدر المعرفة الأصولية، لأنه إذا كان مختلف فيه لم يصح الاستدلال. فيقول هذا الشخص مثلا أنا أخذت هذا الدليل من القرآن، ويقول الآخر أنا أخذت الدليل من المصالح، وكل منا استند إلى أصل و لا فرق بين أصل وأصل، وإذا قال الأول أصلي هو القرآن، قال له الثاني القرآن فيه الناسخ و المنسوخ و المطلق و المقيد وهو بعد التخصيص صار ظنيا، وكل هذه الاعتراضات تنتفي إذا كان الأصل مسلما به، هذا شرط للبحث العلمي لأنه إذا وقع النزاع في الأصول لم يمكن الوصول إلى نتيجة.
يقول يوسف حامد العالم: « فالوحي هو الطريق الموصل و الهادي الأعظم ألا ترى إلى قوله تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان و لكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) [14] فصار خلقه القرآن ( و إنك لعلى خلق عظيم ) [15]لأنه حكم الوحي حتى صار في علمه و عمله على وفقه فكان الوحي حاكما إلى أن يقول و إذا كان كذلك فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم ومنارة يهتدون بها إلى الحق»[16]
ليس هذا وحسب بل إن هذا المعني للشريعة كموضوع مكتمل تستقى منه الأحكام و المعرفة بطريقة مرنة هو ما يتناسب مع تعريفها اللغوي. فهي في اللغة واقع معطى يستغله الناس بصورة عفوية لا مشقة فيها و لامحارة و لا نكد. فالشريعة هي في أصل اللغة تطلق على الطريق الظاهر الذي يوصل منه إلى الماء و تطلق على مورد الشاربة الذي يشربه الناس أي ينحدرون إليه، فيشربون منه و يستقون و العرب لا تسمي ذلك الموضع شريعة حتى يكون عدا لا انقطاع له، و يكون ظاهرا معينا لا يسقى بالرشاء، لا يحتاج معها إلى نزح بالعلق و لا يسقى في الحوض، و يقال في المثل أهون السقي التشريع.
كل المعاني التي للشريعة في اللغة تتنزل على معاني الشريعة بالمفهوم الشرعي فهي طريقة ظاهرة يؤمها الناس للسقي و هذا على مستوى المنهج و الطريق فكذلك الشريعة طريقها واضح في الخطاب بالأحكام و بالتكاليف و لا تحتاج إلى المنطق و تعقيده و القياس و شروطه و الحد وموانعه كذلك الشريعة هي الماء المطروح على سطح ألأرض و المعطي و الميسر للشاربة فكذلك الشريعة لقول الله عز وجل: (و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) فالشريعة واقع معطي.
وهناك بعض المواصفات التي يجب أن تتحقق في الأصل و تميزه عن ما هو غير أصل، وإن كانت وردت في سياق القرآن فإن السنة هي كذلك:
- أنه وحى ، فالقران كلام الله والسنة النبوية بيانه ووحيه إلى النبي لقوله تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) [17]
- هذا الأصل بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا سماع لنا من الله ولا من جبريل.
- أن الله تكفل بحفظ هذا الأصل ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[18]
- أن هذا الأصل هو طريق التحليل والتحريم ومعرفة أحكام الله وشرعه لذا وجب إتباع هذا الأصل ولزم التمسك به.
-وجوب التسليم التام لهذا الأصل – ومعرفة أن مفارقته قادح في الإيمان.
-هذا الأصل هو الإمام المقدم – ولا يوجد معه اجتهاد وأن إجماع المسلمين لا ينعقد على خلافه أبدا.
- أن هذا الأصل لا يعارض العقل بل إن صريح العقل موافق لصحيح النقل دائما – وهو يقدم على العقل دائما إن وجد بينهما تعارض في الظاهر .
-هذا الأصل يحصل به العلم واليقين خلافا عن كل الأدلة الأخرى التي لا تفيد إلا الظن.
-هذا الأصل ضروري لصلاح العباد في الدنيا والآخرة.
-هذا الأصل ترجع إليه جميع الأدلة – المتفق عليها والمختلف فيها.
والقول بأن الأصول الشرعية هما الكتاب والسنة، يتفق مع ما ذهب إليه معظم الأصوليين في قولهم بأن فيهما ما يكفي من الأحكام. واعتمد عليهما أنصار المذهب الظاهري فلم يعانوا من أزمة قلة الأحكام ، و قال ابن حزم بأنه وجد فيهما جميع أصول الأحكام ما عدا القراض فما وجدنا له أصلا حسب عبارته. وهذا ليس كلام الأصوليين ولكنه كلام الله عز وجل فقد قال عز و جل: « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي» وقال ابن حزم « فأيقنا أن الدين قد كمل وتناهي وكل ما كمل فليس لأحد أن يزيد فيه، ولا يبدله فما أحل الله ورسوله هو حلال، وما حرماه فهو حرام وما سكتا عنه فهو عفو مطلق حلال»[19]
إذن ما يستخلص مما توافق عليه الأصوليون هو أن المعرفة الأصولية تتعلق بموضوع معطى وواقع ماثل، تستخلص الأحكام منه، حتى تتحقق الموضوعية، ويتحقق البحث العلمي. فالبحث الشرعي هو بحث في واقع قائم يريد المجتهد استخراج مكنوناته وحقائقه. ولذلك قال الشافعي أن البحث الشرعي هو مثل البحث عن القبلة للصلاة. فهو يكون في حالتين، إما مشاهدة البيت، وهذا مثل ما جاء نصا من الأحكام، وإما بالاستدلال بالأمارات من النجوم والرياح والجبال والجهات فهذه أشياء يعتمد عليها في إثبات البيت وهو معنى الاجتهاد عنده، فالاجتهاد هو طلب عين قائمة بأعين قائمة أيضا، وليس هناك من اعتماد على العقل وحده بل العقل يستنبط مما يلاحظ ويرى. ويقول الغزالي في أن الموضوع معطي وأن عمل العقل هو ملاحظته فقال : «اعلم أن هذا القطب هو عمدة علم الأصول يعني القواعد من العام والخاص و الأمر و النهي إلى آخر القائمة لأن ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الأحكام من أصولها، واجتنائها من أغصانها، إذ نفس الأحكام ليست ترتبط باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها، والأصول الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل لا مدخل لاختيار العباد في تأسيسها وتأصيلها، وإنما مجال اضطراب المجتهد واكتسابه، استعمال الفكر في استنباط الأحكام واقتباسها من مداركها والمدارك هي الأدلة السمعية»
وكما أن النص من الكتاب والسنة هو واقع معطى، فإن الواقع لا يتوقف على ذلك، فذلك واقع كما أن الواقع أيضا نص يمكن استقراء معنى النص منه أيضا وهو مما يحقق الموضوعية ،لأنه معطى مثل النص المعطي.


[1] - الرسالة للشافعي ص 19
[2] - المرجع السابق ص 19
[3] - المرجع السابق ص 106
[4] المرجع السابق ص 39
[5] - المرجع السابق ص 37
[6]- رضوان السيد: الشافعي والرسالة: دراسة في تكون النظام الفقهي في الإسلام، الاجتهاد، العدد 9، خريف 1990 ص100
[7] - الشوكاني إرشاد الفحول ص 124
[8] - السيد ولد اباه مقاصد الشرع ص 5
[9] الشاطبي الاعتصام 1/14
[10] د حمادي العبيدي الشاطبي و مقاصد الشريعة دار قتيبة للطباعة و النشر و التوزيع الطبعة الأوى 1412 ه 1992 م ص14
[11] - المرجع السابق ص 5
[12] - الغزالي شفاء الغليل ص 436
[13] الشاطبي، الموافقات في أصول الأحكام ، ص 3/43
[14] الشورى 52
[15] القلم 4
[16] د. يوسف حامد العالم : المقاصد لالعامة للشريعة اإسلامية المعهد العالمي للفكر اإسلامي و الدار العالمية للكتاب الإسلامي الطبعة الثانية 1415 ه 1994 م الرياض المملكة العربية السعودية ص 18
سورة النجم 3 4[17]
الحجر 9[18]
[19] - ابن حزم الأحكام ص 10


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.