أثار الجدل.. سحب كُتيّب يروّج للمثلية من معرض تونس للكتاب    "بنات ألفة" يتوج بثلاث جوائز في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث عدد الباحثين    كرة اليد: الترجي في نهائي بطولة افريقيا للاندية الحائزة على الكؤوس    حريق بوحدة تصدير التمور يُخلّف خسائر مادية بدوز الشمالية    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    كاردوزو: سنبذل قصارى جهدنا من أجل بلوغ النهائي القاري ومواصلة إسعاد جماهيرنا    وفد "مولودية بوسالم" يعود إلى تونس .. ووزير الشباب والرياضة يكرم الفريق    هطول كميات متفاوتة من الامطار خلال الاربع والعشرين ساعة الماضية    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    صادم في المنستير: مناوشات في مطعم تتطوّر الى اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه!!    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    عاجل/ انتشال نحو 392 جثمانا من مجمع ناصر الطبي ب"خان يونس" خلال خمسة أيام..    الداخلية تشرع في استغلال مقر متطور للأرشيف لمزيد إحكام التصرف في الوثائق    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    جندوبة: 32 مدرسة تشارك في التصفيات الجهوية لمسابقة تحدي القراءة العربي    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    روح الجنوب: إلى الذين لم يبق لهم من عروبتهم سوى عمائمهم والعباءات    لعبة الإبداع والإبتكار في رواية (العاهر)/ج2    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    Titre    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ بمنزل بورقيبة: هذا ما تقرر في حق الموقوفين..#خبر_عاجل    المهدية : غرق مركب صيد على متنه بحّارة...و الحرس يصدر بلاغا    رئيس الجمهورية يجدّد في لقائه بوزيرة العدل، التاكيد على الدور التاريخي الموكول للقضاء لتطهير البلاد    الكيان الصهيوني و"تيك توك".. عداوة قد تصل إلى الحظر    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها على البلجيكية غريت    الترجي يطالب إدارة صن داونز بالترفيع في عدد التذاكر المخصصة لجماهيره    كأس ايطاليا: أتلانتا يتغلب على فيورينتينا ويضرب موعدا مع جوفنتوس في النهائي    اليوم: عودة الهدوء بعد تقلّبات جوّية    شهادة ملكية لدارك المسجّلة في دفتر خانة ضاعتلك...شنوا تعمل ؟    شهداء وجرحى في قصف صهيوني على مدينة رفح جنوب قطاع غزة..#خبر_عاجل    ماذا يحدث في حركة الطيران بفرنسا ؟    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    "تيك توك" تتعهد بالطعن على قانون أميركي يهدد بحظرها    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    سعيد في لقائه بالحشاني.. للصدق والإخلاص للوطن مقعد واحد    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    وزارة الصناعة تكشف عن كلفة انجاز مشروع الربط الكهربائي مع ايطاليا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هكذا أرى المقاصد الشرعية


بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على محمد و آل محمد وسلم تسليما

أولا بين علم اصول الفقه ومقاصد الشريعة
منذ ان استكشف كتاب الموافقات عن طريق محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا وتلميذ هذا الأخير الشيخ عبد الله دراز مكتشف الشاطبي الحقيقي[1] ، أصبحت المقاصد تتبوا الصدارة في حقل علم الشريعة،[2] او علم اصول الفقه بحسب التسمية المعهودة، فقد نظر الى هذه المقاصد باعتبارها هي الضالة المنشودة في اصول الفقه، وهي طوق النجاة لمعرفة الاحكام الشرعية وتوسيعها، وهي كما قيل في المكان والزمان في الفيزياء « إن الزمان والمكان الأصل الهائل أو الحقيقة المبدئية، التي نشأ عنها العالم، هيولي أولي، أو جوهر أصلي صدر عنهما كل الوجود بالانبثاق، فعن الزمان والمكان انبثقت أولا المادة، وبالتدريج انبثقت الحياة ، ثم الوعي ...بل إنهما أيضا ماهية الموجودات بعد انبثاقها عنهما، فتظل كل الأشياء مثل مصدرها زمانية مكانية»[3] هكذا صارت المقاصد: فهي عند الشاطبي اصل اصول الشريعة فقال مدافعا عن قطعيتها « و اصول الشريعة قطعية حسب ما تبين في موضوعه فاصل اصولها يعني المقاصد اولى ان تكون قطعية».[4] وعند الباحثين المعاصرين فهي كما يقول الدكتور محمد الريسوني: « نظرية تحكم تفاصيل الشريعة و تحكم كل فهم لها وتوجه كل اجتهاد في اطارها، ونقطة الانطلاق في هذا: هي التسليم الجازم بكون الشريعة إنما وضعت لجلب مصالح العباد ودرا مفاسدهم في الدنيا و الآخرة .... » [5] و يقول جمال الدين عطية: « وعلى الرغم من ان هذه المقاصد تمثل المصلحة التي راعاها الشرع و أنها هي المقصود الأهم، و أنها كانت ولا تزال مسيطرة على الذهن الفقهي و العقل التشريعي المسلم ، وهي التي تشكل وجدانه بل تعدله، كالنظام العام الذي لا يجوز القدح فيه و المرجعية التي تؤطر عمله وفهمه للشريعة»[6]
رغم ذلك فان هذه المقاصد كعلم بديل لاصول الفقه عند بعض أصحابها و المدافعين عنها، ليست احسن منه حالا، فبقيت الثمرة العملية لها قليلة او معدومة، كما انها تحتوي على نفس العيوب المسجلة في اصول الفقه، من هذه العيوب:
1 عدم قيام دليل صريح من النص تستند شرعيتها عليه. فالشاطبي وهو ابرز المقاصديين و كبش الكتيبة وفحل الشول فيها، لم يقدم لها دليلا شرعيا من الادلة بانواعها، فلا يمكن ذلك عن طريق العقل لأنه لامدخل له هنا، و لايمكن من النقل، فالمنقولات تنقسم الى آحاد لا حجة فيها، أو إلى نصوص متواترة، وهذه تتوقف على المظنونات العشرة والموقوف على الظنيات ظني، و لا يمكن عن طريق الإجماع فهو متعذر ولعلك لا تجده.[7] و إنما اكتفي بالاستدلال عليها بما يثير الغموض، وهو قوله بان دليل المسالة هو روح المسالة، وايضا الاستقراء الذي ثبت عن طريقه اغلب الاحكام الشرعية. وهذا ما سار عليه ايضا قبله العز بن عبد السلام حيث عرف هذه المقاصد قائلا « مقاصد التشريع العامة هي المعاني و الحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع او معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من احكام الشريعة، فيدخل في هذا اوصاف الشريعة و غايتها العامة، و المعاني التي لا يخلو التشريع على ملاحظتها، ويدخل في هذا ايضا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوظة في انواع كثيرة منها»[8] و لايخفي ما في هذا التعريف من الغموض لما يحيل اليه من تصورات عامة واحكام مطلقة، فهي ملحوظة في احوال التشريع لكن اين هي بالضبط لمن يطالب التعيين و لا يريد الأحكام العامة[9] ؟.
2 الخلاف في الأصول ينتقل الى المقاصد ايضا فاذا كان العائق الكبير امام اصول الفقه ليصل الى العلمية، هو وجود الخلاف فيه، ذلك الخلاف الذي يطال الاركان الاساسية، مثل كون الاجماع والقياس حجتين[10]، فإن الخلاف انسحب ايضا على المقاصد فاختلف في عددها كما اختلف اهل الأصول في عدد اصول الادلة، فالمقاصد الضرورية التي يتوقع الاتفاق على عددها على الاقل وهي الدين و النفس والنسل والعقل والمال مختلف فيها. اذ هناك من يضيف ضرورة سادسة وهي العرض. كما تعددت المقاصد من مقصدي لآخر فقد قسمها الجويني إلى ضروريات وحاجيات وتحسينات ومندوبات، والخامس ما لا يظهر فيه تعليل واضح ولا مقصد محدد، مع تعقيبه على الأخير بأنه يندر وجوده،[11] اما الغزالي و الشاطبي فقد قسما المقاصد الى ضرورية و حاجية وتحسينية ولكل منها مكملات ومتممات ونلاحظ عند الدكتور محمد الريسوني انها تنقسم إلى ثلاثة أقسام وهي:
1 المقاصد العامة وهي التي تراعيها الشريعة و تعمل عليتحقيقها في أبواب الشريعة .. وهذا القسم يهنيه التحدجثون عن مقاصد الشريعة
2 المقاصد الخاصة و أعني بها المقاصد التي تهدف الشريعة إلى تحقيقها في باب معين.. ولعل الشيخ ابن عاشور هو خير من اعتنى بهذا القسم من المقاصد فقد تناول منها منها
مقاصد الشارع في احكام العاءلة
مقاصد الشارع في تصرفاته المالية
مقاصد الشارع في المعاملات المنعقدة على الأبدان
مقاصد القضاء و الشهادة
3 المقاصد الجزئية و هي ما يقصده الشارع من كل حكم شرعي من إيجاب او تحريم او ندب او اباحة او شرط او سبب. [12]
وقد حصر الدكتور جمال الدين عطية هذه المقاصد في اربعة وعشرون مقصدا، موزعة على اربعة مجالات، هي مجال الفرد، ومجال الاسرة، ومجال الامة، ومجال الانسانية[13]. وادخل بعض الباحثين مقاصد اخرى، كالعدل و المساواة والحرية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وضمها الى المقاصد العليا.[14] ومن بين هؤلاء الشيخ محمد الغزالي واحمد الخمليشي و يوسف القرضاوي واحمد الريسوني واسماعيل الحسني. اذا لما كانت المقاصد غير منضبطة و غير محصورة فقد جاز لكل احد أن يضيف اليها ما شاء. وهي منهجية بعيدة عن الفحص العلمي الذي الفناه عند القدماء، حيث ان الحاق حكم معين الى الشريعة لا يتم بسهولة، وانما بعد مقارنات وتحريات شديدة و سبر وحصر واجتهاد كبير. وفوق ذلك لابد ان يكون الالحاق على اصل سابق، مثل الحاق الامة بالعبد في سراية العتق، وقياس الصغيرة على البكر في ولاية النكاح والمال، و الحاق غسل الجنابة بغسل الميت. ..
كما ان الخلاف يستعر في اولوية هذه المقاصد وترتيبها في اهمال واضح للمقاصد في موضوع المقاصد، فالترتيب السائد: الدين والنفس و العقل والنسل والمال الا ان هناك من يقدم النفس علي الدين. وهو اختلاف شكلي لأن هذا الترتيب يتغير بحسب الواقع فالدين سابق عندما يتعلق الامر بالجهاد وحفظ بيضة الدين، لاكنه ياتي في المؤخرة في ظرف آخر، يقول الغزالي مشيرا الى نسبية الترتيب وتغيره: « حيث ذكرنا خلافا فذلك عند تعارض مصلحتين أو مقصودين، وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى، ولذلك قطعنا بكون الاكراه مبيحا لكلمة الردة، وشرب الخمر، واكل مال الغير و ترك الصوم و الصلاة ، لأن الحذر من سفك الدم أشد من هذه الأمور و لا يباح به الزنا ، لأنه مثل محذور الاكراه[15]» كما ذهب العلماء الى ترجيح مصلحة المال علي مصلحة الدين، في اشارة الى ان الترتيب ليس ثابتا. فاجازوا ترك الجمعة و الجماعة ضرورة حفظ ادنى شيئ من المال. وهذا يعني ان الاختلاف في هذا الموضوع شكلي، لا ينظر في المقاصد، وهو يبحث فيها لذلك لم يلتزم العلماء ترتيبا خاصا مثل الرازي و الآمدي.[16]
3 مما يؤخذ على المقاصد هو خروجها من رحم المعرفة الاصولية، عندما كانت تمر في وقت تمكنت فيه الغارة الهلينية من السيطرة على المعرفة الاسلامية وتوجيهها حسب اطرها وقوانينها. [17] وهذا يعني ان نفس الظواهر السلبية الماثلة في اصول الفقه تتجلى ايضا في علم المقاصد، مثلما نقول عن تاثر الفرع بالاصل واللاحق بالسابق.
فقد اخذ العلماء في العلوم العربية والاسلامية يعيدون بناء العلوم من جديد علي وفقه . وكما قال ابن خلدون حاول علماء الكلام ان يعيدوا صياغة هذا العلم نظرا الى ضعف صناعة المتقدمين وسذاجة القوم حسب عبارته ويقول : « وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحي الغزالي وتبعه الإمام ابن الخطيب[18]» وعلى مستوي النحو تحدث النحاة في هذه المرحلة عن دور المنطق و القياس والتعليل فيه، فيقول بن الانبارى «النحو كله قياس يتبع ...فمن انكر القياس فقد انكر النحو»[19] وعلى مستوي التصوف لم يرض أهله بالبقاء قعودا عن القافلة، فالف ابو عبد الله الترمذي المعروف بالحكيم الترمذي الصلاة ومقاصدها كما يراها المتصوفة حيث يرد كل تصرف الي علة كما في قوله : « وبالتكبير يخرج من الكبر و بالثناء يخرج من الغفلة» [20] وعلى مستوى اصول الفقه الف الباقلاني كتابا في الأحكام و العلل[21]. وايضا كتب الجويني البرهان وهو كما يشير اليه اسمه كتاب يتعرض للقضايا الاسلامية من منظور برهاني منطقي[22] قائم على الاستدلال والحدود والعلل. وهذا ما نجده ايضا عند الغزالي فقد الف في المنطق الكثير من الكتب و الف في العلة كتابه شفاء الغليل في بيان مسالك التعليل من المناسب و المؤثر و الشبه والطرد والمخيل، حيث يتصدر صدرالكتاب بالمقارنة بين العلة والقياس نظرا الي اهميتها، فهي لاجل ذلك في مقابلة القياس، وربما اهم منه، لأن العلة في تصورها لا تستدعي اصلا و فرعا، ولكن اذا ذكرت السبب المؤثر فقد ذكرت علة الحكم.[23]
في هذا الجو المفعم بالمنطق الارسطي تمخضت نظرية المقاصد كمظهر من مظاهر العلة، تلك العلة التي يقول ارسطو عنها: « إننا نمتلك العلم بالشيء علما مطلقا، وليس بالعرض كما هو في الطريقة السوفسطائية، متى كنا نمتلك العلة التي بها وجد الشيء، وعلمنا أن هذه العلة هي علة ذلك الشيء، وأنه بالإضافة إلى ذلك لا يمكن أن يكون ذلك الشيء على غير ما هو عليه[24]» إذن في القرن الرابع كان المنطق الأرسطي قد اشتد علي سوقه في الإسلام، في هذا العصر صارت العلة والتعليل والقياس هي كلمات السر و مفتاح المعرفة،[25] يقول ابن حزم: « فقد صح الإجماع عنهم أنهم لم يعرفوا ما القياس؟ وأنه بدعة حدثت في القرن الثاني ثم فشا وظهر في القرن الثالث، كما ابتدأ التقليد والتعليل للقياس في القرن الخامس»[26]
في رحم هذا الجو المفعم بالتعليل والقياس ظهرت نظرية المقاصد مع روادها الأوائل. فقد ذكرها الجويني في الحديث عن العلل وما هو قابل للتعليل وما لا، والغزالي في سياق كلامه على مسلك المناسبة من مسلك التعليل، في شفاء الغليل. اما في المستصفى فتعرض لها في الاستصلاح او ما يسمى بالمصلحة المرسلة. لذلك كانت التحديات المطروحة في القياس و التعليل مطروحة في المقاصد فمنها:
1 3 ان المقاصد كما العلل إنما تكونان كذلك بنص الشارع، وليسا من إنتاج العقل وتخرصه، بمعني ان الشريعة كما اللغة تثبتان بالتوقيف و النقل لا بالقياس و الاستدلال، بعبارة الغزالي، مما يعني ان البحث في العلل والمقاصد اذا كان المرجو منه عللا ومقاصد جديدة لوقائع جديدة، فهي محاولة محكوم عليها بالفشل، لأن العقل ليس بشارع. يقول الغزالي: « والعلة موجبة، أما العقلية فبذاتها و اما الشرعية فبجعل الشرع اياها علة موجبة، على معنى اضافة الوجوب اليها، كإضافة وجوب القطع إلى السرقة، و إن كنا نعلم انه إنما يجب بإيجاب الله تعالى، ولكن ينبغي ان نفهم الايجاب كما ورد به الشرع و قد ورد ان السرقة توجب القطع و الزنا يوجب الرجم».[27] وقد قرر الجويني سابقا هذا المعني فقال « المعاني المخيلة المناسبة للحكم لا توجب لعينها .. اذ الشدة التي اعتقدت مخيلة في اثارة التحريم كانت ثابتة والخمر حلال»[28]. هذا ايضا ما يقال عن تحديد المقاصد فهي وضع من الله. يقول الشاطبي: «إن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم، و المفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع، لا مجال للعقل فيه، بناء على قاعدة نفي التحسين و التقبيح، فإن كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحة، و الا فكان يمكن مثلا ان لا تكون كذلك، إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية، لا قضاء للعقل فيها بحسن و لا قبح . فإذن كون المصلحة مصلحة هو من وضع الشارع، بحيث يصدقه العقل و تطمئن اليه النفس، فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى انها تعبديات و ما انبني على التعبدي لا يكون الا تعبديا» [29] و اذا كان الامر كذلك فما فائدة محاولة البحث عن علل لم ينص عليها الشارع، ومقاصد لم ينص عليها، ما دام الشارع هو الجهة الوحيدة المخولة بالقول بأن هذه علة وهذه مصلحة فعلينا ان نترك الشارع يتحدث عن نفسه.
ولقائل أن يقول بأن الأحكام لا تتوقف على النص فقط فهناك الاستنباط من النص، وهو في معني النص أيضا، ولذلك يقول الغزالي في هذا الصدد « و لما كانت العلة الشرعية معلومة بالشرع، ولم تنحصر الطرق الشرعية في البيان والتعريف على النصوص، بل من طرقه التنبيهات و من طرقه الاستنباط و النظر، جاز ان يعرف كون الشيء علة بتعريف الشرع بالفاظ و افعال هي منبهة على العلة، كما ان الاحكام في انفسها لما كانت شرعية جاز معرفتها بجميع هذه الطرق». وواضح من النصوص السابقة تعارض الاصوليين عندما يقولون بان الاحكام تعبدية في حين يرون انها تنتج بالعقل فان ماهو منصوص عليه بالعبارة هو مثل ما عرف بطريق الاستنباط والدليل، كما نستنبط من رجم ماعز رجم كل ماعز لكنا لا نستنبط بذلك رجم صاحب اللواط فهذا يتطلب دليلا آخر يمكن ان يكون منصوصا عليه في آية أخري.....
فكما ان العلة هي نصب من الشارع فكذلك معلولها، و خطأ الأصوليين هو محاولة الفصل بين اللفظ وحامله المادي، والفصل بين العلة ومعلولها، وبين القصد وموضوعه لأنهما مرتبطين كارتباط الصلة بموصولها. فلو قال تعالي حرمت الخمر لاسكارها فاننا لا نجرد الاسكار عن محله فنقول المسكر حرام. بل نقول الخمر المسكر حرام، فالكلمتين الصفة وموصوفها مجتمعين هما منطوق الحكم وحقيقته، بحيث لا ينفصلان كما لا تنفصل العلة عن المعلول . فلو قال الشارع حرمت الخمر لزبده فهذا لا يعني تجريد الزبد لنحرم به ما هو مزبد ايضا كالكوكاكولا مثلا، وانما هو حكم خاص يتعلق بشيئ خاص أما سحب التحريم على الخمور الاخري فهو من دلالة اللفظ وشموله، وإذا قلنا هذا في العلة المنصوصة فكيف بغيرها كالعلة المشبهة و المخيلة او القائمة على الرم و الطم.
2 3 كذلك مما تاثرت به نظرية المقاصد فى نشاتها في احضان علم اصول الفقه في مرحلته الكلامية الفلسفية هو تعلق العلمين بهاجس توسيع الشريعة و تمطيطها لتطال كل ما هو جديد. فالشريعة تخشى الفراغ في الأحكام كما الطبيعة أيضا عند ارسطو. لقد ساد في القرنين الثالث والرابع الهجريين دعوى كبيرة وهي ان النصوص لا تفي بعشر معشار الأحكام الشرعية وبالتالي فلا بد من القياس لملإ الفراغ. ومن العجيب ان تصدر هذه الدعوى في وقت اعلن فيه عن توقف الاجتهاد نظرا الى ان الاحكام قد اكتملت. فقال بكر بن العلاء القشيري المالكي: « إن بعد سنة مائتين قد استقر الأمر وليس لأحد أن يختار[30]» ، وفي هذا البحث المعياري خروج عن الطابع العملي الواقعي لهذا العلم كما تحدد مع الشافعي. ذلك ان البحث في توسيع الشريعة لم يكن هو السبب المباشر لنشاة اصول الفقه في مرحلته الشافعية، فالسبب كان هو تحديد المفاهيم الشرعية انطلاقا من الادلة القائمة. كان اهتمام الشافعي في الرسالة هو في البحث عن الصلاة والزكاة والصوم والسرقة لتتحدد صيغها بطريقة جلية وواضحة رغم تنوع البيان وتشابكه. ولم يهتم في الرسالة بوقائع جديدة اللهم الا كلامه عن الخضروات كالثفاء والاسبيوش والكسبرة و حب العصفر، وهي أشياء بسيطة قاد إليها الاستطراد و التوسع . وعندما جاء الجويني صرح في اكثر من مرة في كتابه البرهان عن عطالة الشريعة، وان الاحكام فيها عزيزة الوجود مما يبرر الدعوة للقياس وللعلة للتمكن من زيادتها. يقول الجويني « وأيضا فإن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد و النصوص لا تفي بالعشر من معشار الشريعة»[31] اصيب البحث في المقاصد بهلع توسيع الشريعة وتمطيطها ايضا، لقد اصبح الهدف من المقاصد هو الالحاق ايضا. فكل ما هو صالح فهو من الشريعة وكل ما هو شر فهو ليس منها. يقول ابن تيمية: في هذا المعني « فإن الشريعة مبناها و أساسها على الحكم والمصالح العباد في المعاش و الميعاد وهي عدل كلها و مصالح كلها و حكمة كلها، فكل مسالة خرجت عن العدل الى الجور وعن الرحمة الى ضدها وعن المصلحة الى المفسدة وعن الحكمة الى العبث فليست من الشريعة وان ادخلت فيها بالتاويل[32]». ادي ذلك الى ادخال مسائل في الشريعة هي من اختصاصات علوم اخرى، ومن ادخلها في الشريعة ضعف امره، كما يقول الغزالي لمن اقحم الدين في مسائل الرياضيات و العلوم الطبيعية. مثال ذلك ما يتحدث عنه الدكتورجمال الدين عطية من امور يزعم انها من المقاصد فيقول عن حفظ النفس: « ويكون حفظ النفس بتوفير الأمن لتوقي الاعتداء عليها وتحريم قتل الغير و الاعتداء عليه و الانتحار و انزال عقوبة القصاص على المعتدي عمدا و الدية على المعتدي خطأ وتوفير كفاية النفس مما يحتاجه الجسد من طعام وشراب و لباس و مسكن ووقاية من الأمراض السارية والمخاطر التي تؤدي بالنفس كالحريق و الغرق و التسمم من حوادث السيارات و الآلات والكهرباء و الاشعاعات بأنواعها المختلفة وعلاج ما يصيبه من أمراض و حوادث وهذه كلها من الوسائل التي لا يتم حفظ النفس الا بها فتاخذ حكم المقصد الضروري»[33]
3 3 من سلبيات المقاصد هو ندرة وضحالة النتائج العملية وثمرتها، مما لا يتناسب مع ما بذل فيها من الجهد. ذلك ان المقاصد الشرعية مثل أصول الفقه في مرحلته الكلامية تبذل فيهما الجهود لتبرير المسالة والدفاع عنها، باعتبار أن لها حجية ووجود شرعيين، وعندما تطالب بنتيجة عملية بعد ذلك لم تجد شيئا. يقول الطاهر بن عاشور عن هذه الحالة في اصول الفقه: « ومن وراء ذلك خبايا في بعض مسائل اصول الفقه أو في مغمور أبوابها المهجورة عن الدراسة أو المملولة ترسب في أواخر كتب الأصول لا يصل إليها المؤلفون الا عن سآمة و لا المتعلمون إلا الذين رزقوا الصبر على الإدامة فبقيت ضئيلة ومنسية وهي ان تعد في علم المقاصد حرية وهذه هي مباحث المناسبة والاخالة» [34] هذه الندرة او حالة العقم ارجعها الطاهر بن عاشور الى ان اصول الفقه هو تبرير للواقع الفقهي الذي وجد قبل، فيقول: « وبعبارة اخرى تمكن تلك القواعد المتضلع فيها من تأييد فروع انتزعها الفقهاء قبل ابتكار علم الاصول، لتكون تلك الفروع بواسطة تلك القواعد مقبولة في نفوس المزاولين لها من مقلدي المذاهب. [35] اذن عندما يهتم الاصوليون بالقياس فذلك من اجل تبريره وبيان شرعيته لتبرير اقيسة ماضية او ما الى ذلك، لكن المتكلم الاصولي لا يستنتج خلال ذلك اقيسة معتبرة. هذه الحالة موجودة في فقه المقاصد اذ أغلب المتكلمين فيها يقفون على مستوى التبرير بها و التنويه باهميتها و تتبع ظهورها العزيز في كتب الاصول، قبل ان تكتسب قفزة نوعية مع الشاطبي، وفي احسن الاحوال تأخذ المقاصد الشرعية مثل اصول الفقه دور تبرير الفروع الفقهية وهو ما نلاحظه كثيرا عند الشاطبي فعندما يقرر مقصدا يستدل عليه بفروع فقهية، لكن الثمرة والنتيجة الحقيقيتين فهما شبه معدومتين، رغم ما اشار اليه الريسوني بان الاهتمام بهذه المقاصد حديثا صار عمره قرنا او يزيد او ينقص، لكننا لم نجد حزمة من الاحكام يقال عنها إنها تخلصت عن طريق المقاصد. فالمقاصد اذن مثل القواعد الاصولية يجاهد المجاهدون من اجل تبرير وجودها وشرعيتها وعندما توافقهم تحصل بعد ذلك على لا شيء. وهذا مثل ما ذكره الغزالي عن الشيعة يجادلون الناس في الحاجة الى المعلم حتي اذا ساعدهم الشخص على ذلك و طالبهم بعلمه والاستفادة منه احالوه إلى غائب. [36]
نظرية المقاصد عند الشافعي
توضح في الملاحظات السابقة ان علم المقاصد الشرعية لا يختلف عن علم اصول الفقه الا اختلافا شكليا، و القاسم المشترك هو ندرة النتائج و ضحالة الثمرات، وقد عاب الشاطبى الاهتمام بالمسائل التي لا تثمر و لا تساعد على الاستثمار، وبناء على ذلك فلا بد من مخالفتها من اجل كشف اشياء جديدة و بناء جديد، فالنتائج من جنس مقدماتها والمقاصد كما عبر عنها سابقا لا تنتج عند من ينطلق منها الا ما انتجت سابقا، فلا بد من الاختلاف معها من اجل نتائج مغايرة لها. إلا أنني مع ذلك لا أقطع مع المقاصد نهائيا فالأمر يتعلق بالتفصيل وببعض المقاصد دون بعض.[37]
كان منهج الشافعي في الرسالة هو منهج البحث العلمي كما وصلت إليه الأبيستمولوجيا الراهنة، سواء تعلق الأمر بالموضوع او بالمنهج، أو بالنتائج. ويتمثل الموضوع عنده في الواقع المعطي من أجل استخلاص المعرفة منه والاقتصار على ذلك. ففي البحث الشرعي يتعلق أالأمر بشيئ واحد وهو مشاهدة الواقع متمثلا في النصوص واستخلاص النتائج منهأ، والكتاب والسنة هما موضوع البحث الشرعي، يقول الشافعي: « والقياس ما طلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم من الكتاب و السنة لأنهما علم الحق المفترض طلبه»[38]، اما المنهج فيقوم على المعرفة العلمية وما تتطلب من الموضوعية و الالتزام بالدليل. يقول الشافعي: « ليس لأحد أبدا أن يقول في شيء حل ولا حرم إلا من جهة العلم، وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس»[39] ويقول ايضا « فالواجب على العالمين أن لا يقولوا الا من حيث علموا وقد تكلم في العلم من لو امسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الامساك أولى به و أقرب من السلامة له»[40] وفيما يتعلق بالموضوعية يقول « لأن اصل ما نبني نحن وانتم عليه ان الاحاديث اذا اختلفت لم نذهب الى واحد منها دون غيره الا بسبب ... أن يكون احد الحديثين اشبه بكتاب الله، فاذا اشبه كتاب الله كانت فيه النتيجة» واذا كانت هناك مسامحة للعقل والاجتهاد فذلك بشروط تجعل الاجتهاد والقياس في معني النص أيضا، و يمثلان المنهج في نفس الوقت.
الاجتهاد عند الشافعي هو مثل النص ايضا قبل ان يكون رد فرع الى اصل، فهو الملاحظة التجريبية و تتبع الوقائع المحسوسة كطلب المثل في جزاء الصيد و التوجه الى القبلة. ففي هذه الحالة نستند إلى علامات ومعطيات واقعية تقوم مقام النص وهي في قوة النصوص في الوضوح و اليقين. فعندما نغيب عن البيت فقد نصب الله لنا علامات نهتدي الى البيت حتى نكون مثل من يشاهده وجها لوجه. قال الشافعي « و كانت العلامات جبال وليل ونهار فيها أرواح مختلفة المهاب و شمس و قمر و نجوم معروفة المطالع و المغارب و المواضع من الفلك»[41] ولما كان الاستحسان لا يلبي شرط العلمية فقد رفضه لما يؤدي من تعدد الحقيقة، و بالتالي انعدام اليقين. يقول الشافعي « و لا يجوز لأحد أن يقول بالاستحسان ولو جاز تعدي القياس و تعطيله إلى الاستحسان جاز لأهل العقول من غير أهل العلم أن يقولوا فيمل ليس فيه خبر بما يحضرهم من الاستحسان، وإنما الاستحسان تلذذ» و يقول أيضا « من استحسن فقد شرع»[42]
و هكذا حدد الشافعي المنهج في البحث الشرعي في ملاحظة الواقع الشرعي متمثلا في النصوص و الادلة من اجل معرفة معانيها ومقاصدها. ذلك ان العقل عندما يتجاوز الواقع المعطي فانه يدخل في المتاهات ويحسب صاحبه انه على جادة الطريق وهو بعيد عنها. وهذا هو ما توصل إليه أغلب الفاعلين الأساسيين في هذا العلم، و إليه ينتهي طلقهم. فعند ابن حزم يتمثل دور العقل في الدليل وملاحظة الواقع الطبيعي او الشرعي كما هما يقول ابن حزم: « وقد بينا أن حقيقة العقل إنما هي تمييز الأشياء المدركة بالحواس وبالفهم، ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية، على ما هي عليه فقط [43]» وهو ما يعنيه الغزالي والشاطبي وغيرهما بتحقيق المناط قال الغزالي « ولا أعلم في الأمة من يخالفه» وقال الشاطبي« بأنه ضرورة في كل شريعة بل ولدى كل إنسان»[44].
كان البحث الشرعي عند الشافعي يتوخي العلمية لأن هدفه هو استخلاص المعرفة من واقع قائم يتمثل في البيان الذي هو اصول وفروع بعضها منصوص عليه في الكتاب، وبعضها منصوص عليه في السنة وبعضها يدركه العقل بالقياس. أما النتيجة المتوخاة من جراء ذلك المنهج فهي تحديد المفاهيم وصيغها. وإذا كانت هذه المفاهيم قد تحددت في السابق يكون البحث من أجل الدفاع عنها بدفع الاعتراضات التي تعترضها في خيال من لا يعرف العربية .
في جميع الحالات تكون اشكالية البحث الشرعي قاصرة و مقتصرة على معرفة الواقع المعطى أي ان العقل مرتبط بنصوص هي المرجعية والمقياس، وهي التي توجه العقل حتى لا يضل او ينسي، و هي ايضا هي محك ما يتوصل اليه من نتائج، فكل ما كانت النتائج تتماهي مع الواقع وتفسره اكثر، كلما كانت يقينية والعكس صحيح.
هذا يعني بعبارة اخري ان هدف الشافعي كان لابد ان يتمحور حول المقاصد الشرعية لأن البحث في النصوص يتلازم و البحث في المقاصد أيضا. والاهتمام بها قديم قدم النصوص ذاته، فحيث ما كانت هناك نصوص كانت هناك معاني، وحيث كان البحث في نصوص كان هناك بحث في المعاني، ثم ياتي الاختلاف بعد ذلك لأن استخراج هذه المقاصد سيختلف باختلاف العقول بحسب تفاوتها في الفطنة والذكاء. فيكون النص واحدا لكن فهمه يختلف. يقول الغزالي في هذا المعنى معلقا على الحديث نضر الله إمرأ سمع مقالتي فوعاها و أداها كما سمعها ، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقع إلى من أفقه منه. قال: « فقوله عليه السلام أفقه منه أشعر بكونه فقيها في نفسه وبين أن المعاني يتفاوت دركها من الألفاظ بتفاوت الناس في مراتب الفقه مع الاشتراك في أصل الفقه»[45] ويقول الشاطبي في تفاوت الفهم حول نصوص الشريعة ونصوص القرآن خاصة: «والتفاوت في إدراكه حاصل إذ ليس الطارئ الإسلام كالقديم العهد و لاالمبتدئ فيه كالمنتهي يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات»
اذا كان البحث في مقاصد الشريعة هو هدف الشافعي والمطلب الذي يوقظه من النوم، حيث وردت كلمة القصد ومعانيه مثل المعنى و المراد في اكثر من مرة، فهذا يعني أن الشافعي هو أول المقاصديين. ذلك أنه أول من بحث بصورة صريحة عن ما يراد من الألفاظ و ما يقصد منها يقول الشافعي: « فإنما خاطب الله العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر، ويستغني بأول هذا منه عن آخره، وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه، وعاما ظاهرا يراد به الخاص وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره».[46] لقد بحث الشافعي في دلالات الالفاظ العربية وقسم هذه الدلالات الى العام و الخاص و الظاهر و المؤول و المجمل و المبين، ومنذ ذلك الوقت سينظر إلى هذه القواعد علي أنها خصائص وصفات أو قل قوانين لتفسير الخطاب الشرعي وهي نفسها قوانين اللغة العربية ولذلك سميت بمبحث اللغات و بدلالات الألفاظ و بالقواعد الأصولية وبعوارض الألفاظ ومثلت الجانب العملي المثمر من أصول الفقه يقول الغزالي: « اعلم أن هذا القطب هو عمدة علم الأصول، لأن ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الأحكام من أصولها، واجتنائها من أغصانها، إذ نفس الأحكام ليست ترتبط باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها،[47]
إلا أن العام والخاص سيمثل أم الباب في هذه القواعد كما شكلت كان ام الباب في أفعال النسخ اما الأفعال الناسخة الأخرى مثل كان واصبح فهي تحويرات وبدائل شبه مطابقة لأم الباب ( كان ) كذلك فإن المطلق والمقيد والمجمل والمبين والظاهر و المؤول هي وجوه محورة للعام والخاص، ومن يقول بخلاف ذلك فهو لم يوف الصناعة حقها، ولم يرتفع عن براثن التقليد إالى يفاع الاجتهاد و التجديد، لذلك فإذا عرفنا العام والخاص و المبدأ العقلي الذي يستند إليه فقد عرفنا أصول الفقه دفعة واحدة.[48] لقد شكل هذا المفهوم السحري قانونا سحريا استعمله الشافعي لتوطيد المفاهيم وصياغة قوانينها .
وكتاب الرسالة والأم هما كتاب العام والخاص. لذلك قال الإمام أحمد ابن حنبل: «لم نعرف العموم والخصوص حتى ورد الشافعي».[49] و قال أبو ثور « لما قدم علينا الشافعي دخل علينا أن الله قد يذكر العام ويريد به الخاص، ويذكر الخاص ويريد به العام، فكان يقول: العام وكنا لا نعرف هذه الأشياء»[50]
أما أمثلة العام من اللغة فمنها قوله تعالي: “ يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” قال الشافعي: «فكل نفس خوطبت بهذا في زمان الرسول صلي الله عليه وسلم وقبله مخلوقة من ذكر وأنثي، وكلها شعوبا وقبائل[51]”، وقال عز وجل “ وما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها”[52]. قال الشافعي: «فهذا عام لا خاص فيه، فكل شيئ من سماء وأرض، وذي روح وشجر وغير ذلك، فالله خلقه، وكل دابة فعلي الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها». فهذه أدلة علي العام وحده.
أما أمثلة العام الذي يدخله الخاص، فمن أمثلته قول الله عز وجل : (يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) قال الشافعي فمخرج اللفظ عام على الناس كلهم، وبين عند أهل العلم بلسان العرب منهم، أنه إنما يراد بهذا اللفظ العام المخرج بعض الناس دون بعض. ومن أمثلته قوله تعالى : “الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم” قال الشافعي: «فإذ كان من مع رسول الله ناسا غير من جمع لهم من الناس، وكان المخبرون لهم ناسا غير من جمع لهم، وغير من معه ممن جمع عليه معه، وكان الجامعين لهم ناسا. فالدلالة بينة مما وصفت من أنه إنما جمع لهم بعض الناس دون بعض»[53].
أما امثلة العام من الأحكام فيقول الشافعي: وقال الله تعالى : “يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق” قال الشافعي : « فقصد جل ثناؤه قصد القدمين بالغسل كما قصد الوجه واليدين، فكان ظاهر هذه الآية أنه لا يجزئ في القدمين إلا ما يجزئ في الوجه من الغسل والرأس من المسح، وكان يحتمل أن يكون أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعض المتوضئين دون بعض. فلما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين دلت سنة رسول الله على إنه إنما أريد بغسل القدمين بعض المتوضئين دون بعض»[54].
وقال الله تبارك وتعالى: “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءا بما كسبا نكالا من الله” قال الشافعي: وسن رسول الله أن لا قطع في ثمر ولا كثر وأن لا يقطع من بلغت سرقته ربع دينافصاعدا.[55].
تمثلت طريقة الشافعي في بناء المفاهيم علي القول بأن الأدلة منها ما هو عام و منها ما هو خاص وأن العام يحمل على الخاص، و يحول إليه وبهذه الحوالة توطدت المفاهيم الشرعية و قوانينها. اما ما يبرر هذا الانتقال فهو اننا نقول في العربية قال الناس والمقصود هو بعض الناس، كذالك يامر الله بالصلاة وهو يعني بهذا اللفظ البعض دون البعض، كما ان الذي قال من الناس هو البعض دون البعض. بهذه الطريقة راح الشافعي ينتقل من أدلة إلى أخرى ظانا أنه يعتمد على مبدإ صلب لكن صلابته هي مصدر هشاشته.
لقد انطلق الشافعي في دراسة الأدلة من البحث في مقاصد الأدلة ومعانيها، لكنه اعتمد على مفهوم بسيط للمقاصد، وهو النظر فى مقاصد الألفاظ في الحالة الإفرادية ولم ينظر إلى الحالة التركيبية، بمعني انه تناول الألفاظ حسب معانيها اللغوية الأولانية، ولم يتعامل معها كألفاظ تتحور معانيها وتتبدل اثناء الاستعمال. فعندما يتحور اللفظ عن معناه اللفظي أثناء الاستعمال فهذا دليل كاف عند الشافعي على ظنية الدليل الحامل له والشك في دلالته وحقيقته، ويجب البحث عن المعني الحقيقي لا من خلال سياق التركيب، و من داخل العبارة وإنما يبحث عن المعنى من الخارج، فقول الله عزوجل: " فاغسلوا وجوهكم" يتناول المجانين والمرضي و بالتالى لا بد من اخراجهم عن مقتضي اللفظ وهو ان المرضي لا يتناولهم هذا الخطاب بدليل قوله تعالي: " وإن كنتم مرضي أو على سفر أو جاء أحدكم من الغائط فتيمموا صعيدا طيبا".
رغم الصرامة العلمية التي نجدها عند الشافعي لكنه وقع في أخطاء أبيستمولوجية ربما كانت بسبب هذه الصرامة ذاتها. هذه الأخطاء كما شكلت عائقا امام تطور المعرفة الأصولية مثلت أيضا ما يعانيه الفقه من القصارة والعطالة، ومنعت أي محاولة للنهوض بهما، رغم المحاولات التي أدت فى بعض الأحيان إلى الدعوة الى عصف القرائح والأفكار حسب عبارة الدكتور علي جمعة من أجل الإتيان بشيئ جديد وهو ما لم يتحقق رغم ذلك.
اول مظاهر القصور في منهجية الرسالة هو الموقف البدائي من مفهوم المقاصد. لقد حاول الشافعي ان يؤسس المعرفة العلمية على مبدإ صلب، وعلى حقيقة واضحة تقوم مقام القانون، ووجد ان اقرب شيء لاستخلاص هذا المبدا هو اللغة العربية التي نزل بها القرآن. فكانت اللغة العربية هي الأساس في الفهم. فالله إنما خاطب العرب بلسانها وفي هذا اللسان العام و الخاص، لكن مقاصد العام والخاص اكتسبا عنده نظرة بدائية بالقياس الي اللغة العربية ذاتها متمثلة فيما يفهمه اهلها منها، وبعبارة أخرى فإن ما فهم الشافعي من العام و الخاص[56] هو أسلوب اقل علمية من فهم العرب أنفسهم لهما، ذلك أن أي عربي غير مختل عقليا إذا خاطبته قائلا جاء الناس، فإنه لا يفهم منها ما فهمه الشافعي بانه يتناول كل الناس، وانما يفهم منه تلقائيا أن الامر يتعلق ببعض الناس لا كلهم.
ثانيا ان منهجية الشافعي ادت الى تكريس النظرة السلبية الى الأدلة الشرعية. فتقسيم الأدلة إلى ناسخ ومنسوخ وعام وخاص ومجمل ومبين يحمل في طياته نقدا لها و تشكيكا في مصداقيتها. وبهذا نجد التعامل معها هو دائما سلبي فينظر الى الدليل بالاضافة الي ما يعارضه أو الى ما يضع حدا لمصداقيته، ويكون الاهتمام الأكبر هو في البحث عما يفيد من ان هذا الكلام ليس مطلقا ولو كان ذلك يتم في الغالب بالرجوع الى الفرضيات البعيدة والامور النادرة. ففي قوله تعالي "يوصيكم الله في اولادكم" يهتم الشافعي بالكافر و المرتد و القاتل، و أنهم لا يدخلون في الميراث. وفي قوله تعالى: "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه"[57] يتناول الآية ليقول بان هناك شيئا آخر محرما لم تتناوله الآية هو تحريم كل ذي ناب من السباع. وفي قوله تعالى: "وأحل لكم ما وراء ذلكم" يذكر الشافعي بأن هناك ما هو حرام مما لم تذكره الآية وهو ما جاء في الحديث من تحريم الجمع بين المرأة و عمتها أو خالتها. وفي قوله تعالى: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها" يؤكد الشافعي ان الخضروات و الفواكه مثل الثفاء والأسبيوش و الكسبرة مما يستثني من هذه الآية، فلا تجب فيها الزكاة. وعلي كل حال يتناول الشافعي الأدلة اما ليضيف اليها كاضافة الخالة والعمة في أية التحريم او لينقص و ليستثني منها كاستثناء القاتل من الميراث. إذن صارت الأدلة مشكوكا فيها، و صارت ظنية، وهذا هو ما يقوله الأصوليون بأن وجود القطع في الأدلة قليل و متعذر. يقول عبد الوهاب خلاف «إن استقراء النصوص الشرعية التي وردت فيها ألفاظ العموم دل على أنه ما من عام إلا و خصص، وعلى أن العام الذي بقي على عمومه نادر جدا ، وما استفيد بقاؤه على عمومه إلا من قرينة صاحبته»[58]
ثالثا ان منهجية الشافعي كرست التدافع بين النصوص لذلك نراه يتحدث عن الاختلاف في الحديث ويفرد له بابا من الرسالة .
رابعا كان من نتائج اهمال معاني الأدلة الاهتمام بالأشكال بدل المضامين. فالترجيح بين الأدلة ليس بحسب ما يلائم الواقع من الأدلة، أو يلائم مقاصد الشريعة، بل اصبح الأسلوب الأمثل في هذا الترجيح هو المظاهر الشكلية. مثل ما يتصف به الراوي من الحفظ فأبو هريرة أحفظ من روى الحديث في عصره فترجح روايته لهذا السبب، او ما يتصف به وسط الراوي الاجتماعي فمن الرواة المعروف بعلم الحديث وبطلبه و سماعه من الأب و العم وذي الرحم والصدق وطول مجالسة اهل التنازع فيه ومن كان هكذا كان مقدما في الحفظ [59] ومثل ما يتصف به الدليل من كثرة الرواة او التقدم في السن فيقدم الشيخ علي الصغير والأقدم في الصحبة على غيره، ومن هذه الجهة قدم حديث عثمان ابن عفان وعبادة بن الصامت على حديث أسامة في الربا لأنهما اسن، وفي هذه الحالات فإن الترجيح يقوم على الأشكال لا المضامين وعلى الألفاظ لا المعاني. و من مظاهر هذه الشكلانية الاهتمام بالطرق الشكلية لرواية الحديث، حيث يلزم المحدث برواية الألفاظ كما هي بدل الاكتفاء بمعاني الحديث[60] فالحديث يكون صحيحا ليس لسبب وجاهة معناه وإنما لسبب أن فلانا معينا رواه، لذلك قيل لشعبة بن الحجاج: « مالك لا تروي عن عبد الملك بن أبي سليمان وهو حسن الحديث؟ فقال من حسنها فررت[61]»
ورغم ذلك فقد لجأ الشافعي الي المعاني اثناء تعامله مع أدلة معينة، وأمكنه في هذه الحالة من الوقوف علي تكامل الأدلة بدل تدافعها. ففي التشهد اورد عدة روايات ترجع الى عدد من الصحابة مع اختلاف يزيد وينقص. ومنهم رواية ابن مسعود وعمر بن الخطاب و ابن عباس وأبو موسى الاشعري وعائشة رضي الله عنها فعلق قائلا: الأمر في هذا بين.. كل كلام أريد به تعظيم الله وهذا يعني ان لكل رواية اهميتها وجدارتها قال الشافعي: « ما في التشهد إلا تعظيم الله و إني لأرجو أن يكون كل هذا فيه واسعا»[62] و في تناوله للحوم الضحايا حيث جاء الحديث في النهي عن ادخارها، كما جاء الحديث في جواز الادخار، رجع الشافعي الى المعني الشرعي فلاحظ تكامل الحديثين و الترابط بين الطرفين، فقال « فهذه الأحاديث تجمع معاني فإذا دفت الدافة ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا و إذا لم تدف دافة فالرخصة ثابتة بالأكل والتزود و الادخار و الصدقة»[63]
وفي صلاة الخوف يهتم الشافعي بالنظر في المعاني أيضا. فقد روي صيغة لها عن خوات بن جبير وصيغة عن أبي عياش الزرقي، وصيغة قريبة منها عن جابر، وثالثة عن ابن عمر، وصيغ أخرى لا يعتد بها. وقد تبني صيغة خوات بن جبير ليس لأنه متقدم في الصحبة فحسب، و إنما لأنه يلبي المعاني الشرعية من صلاة الخوف. قال الشافعي: «فلما فرق الله بين الصلاة في الخوف وفى الأمن حياطة لأهل دينه أن ينال منهم عدوهم غرة فتعقبنا حديث خوات بن جبير و الحديث الذي يخالفه، فوجدنا حديث خوات بن جبير أولى بالحزم و الحذر منه فيه و أحرى ان تتكافأ الطائفتان» وحديث بن عمر مردود لأنه لا يكافئ بين الطائفتين، ولا يحقق الأمن لأن فيه انهم يقضون جميعا في نفس الصلاة. اما حديث أبو عياش وحديث جابر فهما مقبولين في حالتهما و ظرفيتهما يقول الشافعي: «أما حديث أبي عياش و جابر في صلاة الخوف فكذلك أقول إذا كان مثل السبب الذي صلى له تلك الصلاة فإذا كانت الحال بقلة العدو و بعده و أن لا حائل دونه يستره كما وصفت أمرت بصلاة الخوف هكذا».
خامسا وأخيرا وليس آخرا نلاحظ ان الشافعي تعامل مع النصوص باعتبار ان فهمها معروف بصفة قبلية، لذلك لا يطرح الشافعي الأدلة باعتبارها تطرح صعوبات في الفهم. ان موقفه من العام والخاص يتيح له المعرفة القبلية إلى حد الامتلاء، فالقول بأن الدليل عام يعنى أنه قد عرفت جزئيات الدليل الى درجة الزيادة على الكفاية، و صار المطلوب هو إخراج بعض الأفراد وهو ما يعنيه الأصوليون بالتخصيص. وعليه فإن الأدلة لا تطرح صعوبات في الفهم تتطلب التفكير و المعاناة والبحث، وانما المطلوب هو تصنيف الدليل حسب خانتي العموم والخصوص، ويكفي هذا القدر من المعرفة و المطلوب بعد ذلك هو أن الدليل اذا كان عاما بجب البحث في الدليل المخصص. واذا كان خاصا فهو المطلوب لأن الخاص بين.
نظرية المقاصد عند الشاطبي أوالمسألة الثالثة
رغم الدراسات الحثيثة والمتواصلة عن الشاطبي كمؤسس فوق العادة لعلم المقاصد، فإن المقاصد المذكورة التي تواطأ الناس علي وصف الشاطبي بالتجديد فيها ليست هي المقصودة في هذا الكلام، إن هذا يعني أن الاستكشاف الحقيقي للشاطبي إنما بدأت ملامحه من الآن، حيث محاولة ابراز الجانب العلمي من المقاصد عنده، و الذي يؤدي إلى ثمرات عملية ملموسة وواقعية. اما كلام الشاطبي في المقاصد حيث قسمها إلى قصد الشارع في وضع الشريعة حيث قسمه إلى ثلاثة أقسام أحدها أن تكون ضرورية و الثاني أن تكون حاجية والثالث أن تكون تحسينية، و القسم الثاني هو في قصد الشارع إلي وضع الشريعى للإفهام، والقسم الثالث في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها و القسم الرابع في قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة. أقول هذه الأقسام من المقاصد التي شكلت كتاب المقاصد في الموافقات ليس لها في نظرنا اية أهمية، بقدر ما تمثل انحطاط الفكر الأصولي في قضايا عمومية تبلورت انطلاقا من النزعة المنطقية الفلسفية التي انطلقت مع الجويني والغزالي في القرنين الرابع والخامس. ومع ذلك لابد من الاعتراف بأن الشاطبي قدم فتحا لا يضاهى في المقاصد أيضا و يا للمفارقة لكنها المقاصد الشرعية في هذا الدليل الجزيئ أو ذلك، أي المقاصد عندما تكون نظرية تحاول ان تقدم تفسيرا للأدلة الشرعية التي يمثل البحث فيها بيت القصيد والإشكالية الحقيقية في البحث. أي أننا هنا نقدم الشاطبي كند للشافعي باعتبار أن كلاهما وضع قاعدة لفهم النصوص والتعامل معها. و سنلاحظ أن الشاطبي أخذ نفس الخطوات التي سلكها سلفه إنما مع الفارق.
وقد بسط الشاطبي هذا الموقف الطريف في المسألة الثالثة من الباب المتعلق بالعموم والخصوص. ومن الغريب أنه رغم طرافة هذا البحث، ورغم الجهود التي بذلها غيري في دراسة الموافقات، وتصفحها صفحة صفحة، فإنه لم يكشف عن امتياز هذا الباب ولم يفرد بالاهتمام ولم تقع عليه الإشارة بالقلم والبنان، رغم أن الشاطبي يكشف فيه عن وجهه الحقيقي من المقاصد، ويتساءل فيه عن ما إذا كان ما أصله في الموضوع يجعل علم الأصول كله باطلا؟ كما أنه يتحدث عن نتائج واعدة لهذا البحث هي عبارة عن فقه كثير وعلم جميل، حسب تعبيره.
إذا كان الشافعي قد وضع العام والخاص لمعرفة الأدلة الشرعية وشكل ذلك المفهوم المدخل لأصول الفقه، فإن الشاطبي أخذ الاتجاه نفسه. ونذكر بأن الشافعي قد انطلق من الدلالة الإفرادية للعموم مما يفتح الباب على مصراعية للتخصيص. وقد انشغل الأصوليون اللاحقون في البحث في المسائل الثانوية لهذا الاستكشاف، فبحثوا في صيغ العموم وحصرها[64] في كلام فلسفي لا يخلو في اكثره ان يكون كلاما من أجل الكلام، ومعظمه خلاف لفظي لا وراء وراءه. وعندما تناول الشاطبي هذا المفهوم قرر منذ البداية أنه يتناول هذه القاعدة بأسلوب جديد هو اسلوب الشافعي، فجعل الدلالة الاستعمالية هي التي تحدد معني الألفاظ على ما خلاف ما قرر سلفه بأن العموم هو الدلالة اللغوية فالعموم عند الشاطبي هو العموم المعنوي بينما عند الشافعي هو العموم اللفظي[65]. يقول الشاطبي: « ولا بد من مقدمة تبين المقصود من العموم والخصوص ههنا، والمراد العموم المعنوي. فإذا قلنا في وجوب الصلاة أو غيرها من الواجبات وفي تحريم الظلم وغيره أنه عام، فإنا معني ذلك أنك ذلك ثابت على الإطلاق و العموم» [66] ولكن مع اتفاق الاثنين في ضرب البحث عن صيغ العموم بعرض الحائط. ذلك ان البحث العلمي يتطلب الانطلاق من مسلمة يكون اثباتها في علم آخر. ومثلما لا نجد عند الشافعي كلاما في صيغ العموم، يقول الشاطبي أيضا «لا كلام في أن للعموم صيغا وضعية، و النظر في هذا مخصوص بأهل العربية. و إنما ينظر هنا في أمر آخر، و إن كان مطالب أهل العربية ولكنه أكيد التقرير ههنا، وذلك أن للعموم الذي تدل عليه الصيغ بحسب الوضع نظرين: أحدهما باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق، و إلى هذا النظر قصد الأصوليون، ولذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل و الحس وسائر المخصصات المنفصلة، و الثاني بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها، وإم كان أصل الوضع على خلاف ذلك، وهذا الاعتبار استعمالي والأول قياسي والقاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي إذا عارضه الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي[67]».
بعد هذا الكلام بطلق الشاطبي ما يمثل البيان رقم 1 الذي أطلقه الشافعي سلفه من قبل. وهذا البيان هو بمثابة المبدأ والارتكاز لفهم الأدلة والأحكام. وهو بمثابة التلخيص للإستراتيجية المتبعة، و قانون عام يعتمد عليه لإنتاج المعرفة من النصوص سواء كانت دينية أو غير دينية. كان بيان الشافعي قد مر سابقا وفيه التاكيد على ان العرب لا تخاطب بصيغة واحدة والألفاظ عندها ليست جامدة والذي استفتحه بالعبارة الشهيرة «فإنما خاطب الله العرب... » ويكرر الشاطبي ما هو قريب من هذا الكلام أيضا، فقال: « وبيان ذلك هنا أن العرب تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه مما يدل عليه معني الكلام خاصة دون ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي، كما أنها أيضا تطلقها و تقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع، و كل ذلك مما يدل عليه مقتضي الحال. فإن المتكلم قد يأتي بلفظ عموم مما يشمل بحسب الوضع نفسه وغيره، وهو لا يريد نفسه و لا يريد أنه داخل في مقتضى العموم. و كذلك قد يقصد بالعموم صنفا مما يصلح اللفظ له في أصل الوضع دون غيره من الأصناف، كما أنه فد يقصد ذكر البعض في لفظ العموم ومراده من ذكر البعض الجميع». لا شك في وجود التقارب بين البيانين فمع الشافعي أن العرب تحدث بالشيء عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر، ويستغني بأول هذا منه عن آخره، وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص[68] كذلك الأمر عند الشاطبي فالعرب تطلق الفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه ( الخاص ),,, كما تطلقها بحسب الوضع الافرادي ( العام )، وكما يري الشافعي أن معرفة ذلك يكون من خلال الكلام، فقال وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره.. فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره، كذلك الأمر عند الشاطبي، فإن معرفة الكلام تكون من خلال السياق أيضا أو الاستعمال. فقال: « فالحاصل أن العموم إنما يعتبر الاستعمال ووجوه الاستعمال كثيرة لاكن ضابطها هو مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان». اذن ما يتحدث عنه الشاطبي بمقتضيات الأحوال هو ما تحدث عنه الشافعي بسياق الكلام وملابساته. وبالتالي فإن البيانين متداخلين إلا أن ما بفصل بينهما هو الالتزام بالمبدإ. فالشافعي رغم إقراره بأن معاني الألفاظ تتبدل بتبدل السياق لكنه التزم صيغة واحدة وهي أن الألفاظ لها معنى واحدا ووحيدا، وهو دلالتها اللغوية الثابتة ، أي اللفظ منظورا إليه في صيعته الإفرادية. أما الشاطبي فقد التزم بالمبدإ ونظر إلى الألفاظ على أن معانيها تتبدل مما يعنى أن لكل استعمال للفظ يحمل معنى جديدا واستكشافا مهما.
لقد انطلق الأصوليون من الدلالة الإفرادية للألفاظ باعتبارها هي مفتاح الفهم للأدلة الشرعية. ومستندهم في ذلك هو المنطق و التاريخ. على مستوى المنطق فإن اللفظ العام أما ان تبقي دلالته ( حالة التركيب و الاستعمال) على ما كانت عليه حالة الإفراد أو لا، فإن كان الأول فهو مقتضى وضع اللفظ فلا إشكال، و إن كان الثاني فهو تخصيص للفظ العام، وكل تخصيص لا بد له من مخصص عقلي أو نقلي. وهو ما يقوم به العلماء من تخصيص الأدلة، وذكر الغزالي أنه سيؤلف فيه كتابا بعد شفاء الغليل فيقول: «وساضيف اليه ان ساعدني التوفيق كتابا على مذاقه في طرق التخصيص و التاويل»[69]. اما التاريخ فهو أن العرب «حملت اللفظ على عمومه في كثير من أدلة الشريعة، مع أن معنى الكلام يقتضى على ما تقرر خلاف ما فهموا، و إذا كان فهمهم في سياق الاستعمال معتبرا في التعميم حتى يأتي دليل التخصيص دل على أن الاستعمال لم يؤثر في دلالة اللفظ حالة الإفراد عندهم بحيث صار كوضع ثان، بل هو باق على أصل وضعه ثم التخصيص آت من وراء ذلك بدليل متصل أو منفصل. ومثال ذلك أنه لما نزل قوله تعالى ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) الآية شق ذلك عليهم، وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال عليه السلام: إنه ليس بذاك، الا تسمع إلى قول عثمان إن الشرك لظلم عظيم و في رواية فنزلت (أن الشرك لظلم عظيم) ومثل ذلك أنه لما نزلت (إنكم وما تعبدون من دون الله في حصب جهنم أنتم لها واردون ) قال بعض الكفار فقد عبدت الملائكة و عبد المسيح، فنزل (إن الذين سبقت لهم من الحسنى أولئك عنها مبعدون) إلى أشياء كثير ة سياقها يقتضي بحسب المقصد الشرعى عموما أخص من عموم اللفظ، وقد فهموا فيها مقتضى اللفظ، وبادرت أفهامهم فيه وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، ولولا أن الاعتبار عندهم ما وضع له اللفظ في الأصل لم يقع منهم فهمه».
إذن تمثلت حجج المدافعين عن العموم اللفظي في مسألتين: الأولي أن هذا الألفاظ نزلت بلسان العرب فيجب إجراؤها على هذا اللسان المرجعية، وإذا خرجت هذه الألفاظ عن تلك المرجعية فقد خرج الوضع من أيدينا، و أصبح المطلوب منا هو المعنى الجديد الذي يعثر عليه بالعقل والحس وإن كان بالنص فهو أولى وأولى، اما الحجة الثانية فهي أن العرب، وبما فيهم الصحابة رضي الله عنهم، فهمت الألفاظ القرآنية بحسب المعاني الإفرادية للفظ. فحملوا لفظ الظلم على كل ظلم في العالم صغيرا و كبيرا، وفهموا من كلمة إنكم وما تعبدون كل شيء عبده الإنسان.
يري الشاطبي حول الحجة الأولي أن خروج اللفظ عن دلالته الوضعية الأولى لا يعني أنه لم يعد حقيقة، بل هو وضع جديد وحقيقة جديدة للفظ، وهو ما عرف في اللغة العربية من أن للفظ العربي أصالتين: أصالة قياسية وأصالة استعمالية، «فللاستعمال هنا أصالة أخرى غير ما للفظ في أصل الوضع، وهي التي وقع الكلام فيها، وقام الدليل عليها في مسألتنا، فالعام إذن في الاستعمال لم يدخله تخصيص بحال». وهذا ما يقال أيضا في حال الاستعمال الشرعي للألفاظ فإذا لم تتطابق مع معانيها الأولى في اللغة العربية، فذلك يعني أنها صار لها وضع جديد هو الوضع الشرعي، وهو المقصد في الاستعمال الشرعي الذي «تقرر في سور القرآن بحسب تقرير قواعد الشريعة، وذلك أن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق الوضع الاستعمالي العربي كنسبة الوضع في الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري».
أما فيما يتعلق بالحجة الثانية وهي ان العرب والصحابة حملوا الألفاظ على الدلالة الأولانية مما يثبت صحتها، فإن الشاطبي يري أن فهم القرآن لا يتوقف على معرفة العربية، ولا يكفي أن يكون الإنسان أحد الصحابة أو عربيا لكي يكون فهمه صحيحا، و يبنى عليه، فهم متفاوتون في فهم الألفاظ ومقاصدها، لذلك فلا غرو أن يخطئ بعض الصحابة في الفهم ثم سيتحسن فهمه لاحقا، يقول الشاطبي عن التفاوت في فهم القرآن: «فالتفاوت في إدراكه حاصل، إذ ليس الطارئ للإسلام من العرب في فهمه كالقديم العهد، و لا المشتغل بتفهمه و تحصيله كمن ليس في تلك الدرجة، و لا المبتدئ فيه كالمنتهي ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) فلا مانع من توقف الصحابة في بعض ما يشكل أمره، و يغمض وجه المقصد الشرعي فيه، حتى إذا تبحر في إدراك معاني الشريعة باعه و اتسع في ميدانها نظره، زال عنه ما توقف فيه من الإشكال، و اتضح له القصد الشرعي على الكمال، فإذا تقرر وجه الاستعمال فما ذكر مما توقف فيه بعضهم راجع إلى هذا القبيل» فإذا كان فهم الصحابة قد يخطئ عندما حملوا الظلم في الآية على ماهو ليس بظلم، فبالأحري ان يخطئ العرب ايضا في فهم القرآن لغلبة الهوى على معارضته ولو بدون وجه حق، وحب الاعتراض عليه و إن كان على سبيل الشغب ، لذلك فاعتراض ابن الزبعري كان لتشدده وغلبة الهوى عليه مما منعه من إدراك المقصود، ولو تأمل قليلا لعلم أن ما لما لا يعقل فكيف تشمل الملائكة والمسيح؟ إذن فلا يجوز أن نبني معرفتنا على الخطإ الذي وقع فيه غيرنا، فتخصيص الآيتين والاعتراض على فهمهما ليس بالضرورة انطلاقا من موقف علمي، وإنما نشأ عن سوء فهم وليس عن فهم أصيل حتى يعتمد عليه. إن الخطأ الذي وقع فيه الأصوليون و الشافعي قبلهم هو أنهم بنوا رأيهم في فهم الشريعة على مجرد الوهم، إذ ما من لفظ شرعي يبقى عند الاستعمال على حالته الإفرادية، و ظنوا أنهم يستندون على موقف صلب وهو قابلية العمومات كلها للتخصيص، وكانت صلابة الموقف هي مصدر هشاشته.
يقرر الشاطبي ان العموم هو العموم الاستعمالي، أي انه يفهم حسب مقصود المتكلم لا حسب المعاني القبلية للألفاظ، «وهو موافق لقاعدة العرب وعليه يحمل كلام الشارع بلا بد». لذلك فإن ألفاظ العموم بحسب الاستعمال الشرعي إنما تعم بحسب مقصد الشارع فيها، وإذا صح ذلك فليس في الآيتين السابقتين أي تخصيص لأن المقصود منهما جاء فيهما، مما يدل عليه سياق الآيات وقوانين اللغة العربية وملابسات االواقع. ففي الآية إنكم وما تعبدون فالكلام موجه إلي العرب وكانوا يعبدون الأصنام فلا تعلق لها بالملائكة والمسيح، وما لما لا يعقل، وفي الآية الأخرى فإن سياق الآية يدل على ان الظلم هو الكفر لأنها في سياق قصة إبراهيم وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام، وما أبعد الصحابة من عبادتها حتى يوجه الخطاب إليهم، وواقع الصحابة ليس مناسبا للتعبير عنه بالظلم، وإذا كان الصحابة قد حملوا مواضع أخرى الألفاظ على العموم الإفرادي دون مقاصد الكلام فذلك مصيرا منهم الى فهم آخر للدين يتوخي مقصودا شرعيا وليس وقوفا عند الملاحظة الامبريقية وحسب.
إذن العمومات الشرعية قواعد صادقة العموم وهو ما تقرر في أول الباب من أن العموم هو العموم المعنوي الذي يعني الثبوت و الإطلاق، فهل التخصيص الذي يجعل العموم ظني باطل وهل كلام الأصوليين كله باطلا؟ عندما قالوا بأن لا عام ألا وهو مخصوص؟
ما يرى الشاطبي أنه هو الحقيقة هو أن العمومات صادقة بكل وجه، والتخصيص باطل باطل، وإذا كان لابد من القول به فهو بيان لجهة العموم، على اعتبار أن الألفاظ الشرعية تكتسب في كل استعمال شرعي معنى جديدا مما يوجب متابعتها بصورة دائمة و يومية، لمعرفة كيف وقعت تلك الألفاظ في الشريعة، والكلام هنا للشاطبي.
يقول الشاطبي حول التخصيص وما يجب أن يكون عليه: «إذا تقرر ما تقدم فالتخصيص إما بالمنفصل أو بالمتصل، كالاستثناء والصفة والغاية وبدل البعض و أشباه ذلك، فليس في الحقيقة بإخراج لشيء، بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد، وهو ينظر إلى قول سيبويه زيد الأحمر عند من لا يعرفه كزيد وحده عند من يعرفه. و بيان ذلك أن زيدا الأحمر هو الإسم المعرف به مدلول زيد بالنسبة إلى قصد المتكلم، كما كان الموصول مع صلته هو الإسم لا أحدهما، وهكذا إذا قلت الرجل الخياط فعرفه السامع فهو مرادف لزيد، فاذا المجموع هو الدال، ويظهر ذلك في الاستثناء اذا قلت عشرة الا ثلاثة، فانه مرادف لقولك سبعة، فكأنه وضع آخر عرض حالة التركيب، و اذا كان كذلك فلا تخصيص في محصول الحكم لا لفظا و لا قصدا. و لا يصح ان يقال انه مجاز لحصول الفرق عند اهل العربية بين قولك ما رأيت أسدا يفترس الأبطال وقولك ما رايت وجلا شجاعا، وان الاول حقيقة والثاني مجاز، و الرجوع في هذا اليهم لا إلى ما يصوره العقل في مناحي الكلام، واما التخصيص بالمنفصل فإنه كذلك أيضا راجع الى بيان المقصود في عموم الصيغ حسبما تقدم في رأس المسألة لا أنه على حقيقة التخصيص الذي يذكره الأصوليون»
التخصيص عند الأصوليين إخراج لبعض المعاني التي يتوهم دخولها في اللفظ وهي غير داخلة، أي ان التخصيص هو عبارة عن عملية عدمية تخرج ما هو غير داخل، لأنه لو كان داخلا لكانت الكارثة، أي يكون التخصيص نسخا فيتسع نطاق النسخ حتي لتعتبر الشريعة كلها نسخا، لأن اغلب الأدلة جاء في صيغ عمومية[70]، اما عند الشاطبي فهو بيان لاستعمال اللفظ ومقصود المتكلم منه. لذلك كيف نفرق بين هذين المفهومين للتخصيص؟ إن الفرق بينهما ضئيل جدا لشدة اتساعه جدا. يقول الشاطبي: «فالجواب أن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن ما ذكر هنا راجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي، و ما ذكره الأصوليون يرجع الى بيان خروج الصيغة من وضعها من العموم الى الخصوص، فنحن بينا انه بيان لوضع اللفظ، وهم قالوا بأنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه، و بينهما فرق، فالتفسير الواقع هنا نظير بيان الذي سيق اللفظ المشترك ليبين المراد منه، و الذي للأصوليين نظير البيان الذي سيق عقيب الحقيقة ليبين ان المراد المجاز كقولك رايت اسدا يفترس الأبطال.
إن من لم يقرأ هذه الجمل لا يتصور ان العقل العربي الإسلامي بلغ هذه المرحلة من العقلانية و النضج. ذلك ان الشاطبي يثير الآن اشكاليات دقيقة في الابيستمولوجية الراهنة، وفيما تكشفه العلوم يوما بعد من نسبية الحقيقة وتنوعها، ذلك ان البيان عنده هو بيان وعند الأصوليين هو البيان وبينهما ما بين السماء و الأرض.
لقد تساءل الشاطبي عندما كان يسترجع أنفاسه بعد هذا التفكير الطويل والملاحظات الجبارة، تساءل عما اذا كان هذا الموقف يؤدي الى بطلان اصول الفقه، وبالتالي بطلان المنظومة الفقهية الناجمة عنه، ام ان الامر يتعلق ببحث في العبارة فقط، وبالتالي فهو خلاف شكلي. وعما اضا مان البحث مثمر وتنبني عليه احكام؟ حول الاختلاف مع الأصوليين يري الشاطبي ان بحثه لا يبطل ولو سلم باجماع الاصوليين على خلافه، ويقول ايضا انهم في مجال التعامل مع الألفاظ في سياقها التركيبي تركوا الدلالة الافرادية وبحثوا في المقاصد، كل حسب ما يؤدي إليه اجتهاده، اما فيما يتعلق بنتائج النظرية فلها نتائج من أولها اعادة الاعتبار الى العمومات الشرعية باعتبارها صادقة في نفسها بدل القول بظنيتها وهو موقف خطير في الدين وتهمة من إحدى الكبر ويشكك الشاطبي في نسبة العبارة انه ما من عموم الا وهو مخصوص الى بن عباس وعليه فالكلام هنا من شانه ان يؤدي الى فقه كثير وعلم جميل حسب ما يقول.ما هي إيجبيات هذه النظرية: هذا يتطلب مقالة جديدة، فالكلام هنا كان على مستوى النظرية، وبالتالي فلا بد من التطبيق في مقالة قادمة ان شاء الله يتواصل


.




[1] الدكتور سالم يفوت، حفريات المعرفة العربية الاسلامية. دار الطليعة 1995 بيروت لبنان.ص: 71

[2] سمي الشاطبي علم اصول الفقه في كتابه الموافقات بعلم الشريعة. يقول مثلا في المقدمة الثالثة عشرة من المقدمات استصدر بها الكتاب والتي يحتاج اليها قبل النظر في الكتاب: يقول: ومثاله في علم الشريعة الذي نحن في تاصيل اصوله. أبو إسحاق إبراهيم بن موسي الشاطبي: الموافقات في أصول الأحكام دار الفكر للطباعة والنشر بدون تاريخ 1/63
[3] آينشتاين، النسبية العامة ص13
[4] الشاطبي الموافقات ص 2/32
[5] الدكتور أحمد الريسوني: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، تقديم جابر العلواني، الطبعة الرابعة، 1416 ه 1995 م المعهد العالي للفكر الاسلامي ، هيرندن ، فيرجينيا ، الولايات المتحدة الأمريكية ص 20
[6] د . جمال الدين عطية نحو تفعيل مقاصد الشريعة ، المعهد العالي للفكر الاسلامي و دار الفكر للطباعة والتوزيع و النشر. دمشق، بيروت، اعادة 1424 / 2003، ص 8
[7] الشاطبي الموافقات ص 32 / 33 ، 3/4
[8] الريسوني نظرية المقاصد عند الشاطبي ص 18
[9] يرجع الدكتور أحمد الريسوني دليل المقاصد إلى: 1 النظر العقلي المنطقي الذي يري ان شريعة الله لا يمكن الا ان تكون شريعة حكمة وعدل...2 استقراء مقاصد الشريعة فإن تصفح أحكام الشريعة و نصوصها في مختلف مناحيها و مجالاتها أدرك الكثير من حكمها. أحمد الريسوني نظرية المقاصد عند الشاطبي ص: 30 ولكن هذا لا يشفي غليل من يريد الدليل من النص على أن الضروريات خمسة مثلا، فان الصلاة واجبة بالشرع في ادلة كثيرة لكن ذلك لا يؤدي الى وجوب الصلاة الخمس فقد وجبت عن طريق النص عليها.
[10] الاجماع غير مجمع عليه فقد قال أحمد بن حنبل : وما يدعي فيه الرجل الاجماع هو الكذب، من ادعى الاجماع فهو كذاب، لعل الناس قد اختلفوا ما يدريه و إن لم ينته إليه ، فليقل لا أعلم الناس اختلفوا. عبد الوهاب خلاف علم أصول الفقه مكتبة الدعوة الاسلامية الطبعة الثامنة. ص 46 ورفض النظام والظاهرية و الشيعة القياس كل حسب منظوره الخاص، انظر الإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي المستصفى في علم أصول الفقه دار الكتب العلمية. ص 2/260 و 2/272.
[11] الجويني: البرهان 2/923 943
[12] د. أحمد الريسوني المقاصد عند الشاطبي ص 19/20
[13] د .جمال الدين عطية تفعيل المقاصد ص 138
[14] جمال الدين عطية : نحو تفعيل المقاصد الشرعية ص 98
[15] الغزالي المستصفى في اصول الفقه ص 1/265 و جمال الدين عطية نحو تفعيل المقاصد الشرعية ص 28
[16] جمال الدين عطية نحو تفعيل المقاصد ص 29
[17] يقول الشيخ مصطفى عبد الرزاق ان المتكلمين منذ القرن الرابع وضعوا ايديهم على علم اصول الفقه وغلبت طريقتهم فيه على طريقة الفقهاء فنفذت اليه آثار الفلسفة و المنطق و اتصل بها اتصالا وثيقا. أحمد الريسوني نظرية المقاصد عند الشاطبي ص 47
[18] ابن خلدون : المقدمة ص: 379
[19] الدكتور محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي مركز دراسات الوحدة العربية، ط: العاشرة، 2009 م بيروت، لبنان. ص 126
[20] أحمد الريسوني نظرية المقاصد عند الشاطبي ص 41
[21] المرجع السابق ص 403
[22] مع هذا العالم اتخذ هذا العلم منعرجا جديدا بعد المنعرج الاول مع الشافعي، وذلك بادخاله المنطق. او كما يحلو للبعض دمجه لعلم الكلام في الاصول. يقول د . أحمد الريسوني عن ذلك: ويبدو لي أنه ( يعني الجويني ) يمثل المنعطف الثاني في مسيرة علم اصول الفقه وإلى مرحلة التمازج مع علم الكلام، وهو تفاعل كانت له فوائده و أضراره د. أحمد الريسوني نظرية المقاصد ص 95
[23] الغزالي شفاء الغليل في بيان الشبه و المخيل ومسالك التعليل ، تحقيق : د. محمد الكبيسي مطبعة الإرشاد الطبعة الأولى 1390 ه 1971 م بغداد، ص 20
[24] د . محمد عابد الجابري بنية العقل العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية. الطبعة التاسعة 2009 م بيروت، لبنان. ص 393
[25] يقول ابن حزم في هذا السياق ان التعليل ظهر في القرن الرابع ويقصد به حمى التعليل التي سادت في هذا العصر.
[26] ابن حزم، ، الإحكام ص 7/1026
[27] الغزالي شفاء الغليل ص 21
[28] الجويني: البرهان ص 2/ 752
[29] الشاطبي: الموافقات ص 22
[30] ابن حزم، الإحكام ص:552
[31] الجويني البرهان 2/775
[32] د . جمال الدين عطية تفعيل المقاصد ص: 20
[33] جمال الدين عطية: تفعيل المقاصد 142/143
[34] محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق و دراسة محمد طاهر الميساوي، دار النفائس للنشر و التوزيع، الأردن، الطبعة الثانية 1421 ه 2001 م. ص 167/168
[35] المرجع السابق ص 168
[36] الغزالي المنقذ من الضلال ص 44
[37] يري أ. د / علي جمعه أن هناك مناهج ثلاثة مرفوضة في التجديد. وهي القبول المطلق، و الرفض المطلق، و الانتقاء العشوائي. اما المنهج السليم فهو البناء الواعي للتراث وذلك بنفض الغبار عنه و تكميله و استيعابه استيعابا منهجيا، أما تجاوزه بغير استيعاب فهذا يعتبر انهيارا . أ. د . علي جمعة: مفتي الديار المصرية سابقا، عن مقال بعنوان تجديد أصول الفقه المؤتمر العام الواحد والعشرون للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ص 10
[38] هذا هو موقف الاصوليين واليه ينتهي طلقهم. فالبحث الشرعي يعني الانطلاق من النصوص من اجل معرفة معانيها. يقول الغزالي واضعا للقواعد الاصولية أي العقل في الشريعة حدودا يتوقف عندها: لأن ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الأحكام من أصولها، واجتنائها من أغصانها، إذ نفس الأحكام ليست ترتبط باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها، والأصول الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، لا مدخل لاختيار العباد في تأسيسها وتأصيلها. وهذا موقف الشاطبي ايضا فقد حدد منهج البحث الشرعي في وجود مقدمتين احداهما نقلية و الثانية عقلية. مثل قول الشارع ان الخمر حرام فدور العقل هو البحث في هذا الخمر بشم رائحته وغير ذلك من وجوه النظر المعتبرة، فاذا تحقق منه سحب عليه المقدمة النقلية فيقول هذا خمر حرام الاستعمال. ولا بد من اخذ المقدمة الاولى مسلمة، و الا لم يصح استدلال البتة. الشاطبي: الموافقات ص 3/23، 24.
[39] الشافعي محمد بن إدريس: الرسالة تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية، ص 31
[40] السافعي: الرسالة، ص 41
[41] الشافعي: الرسالة ص 23/24
[42] عبد الحليم الجندي: الشافعي ناصر السنة وواضع الاصول، دار المعارف الطبعة الرابعة. ص 243
[43] ابن حزم ، الإحكام ص :29
[44] الشاطبي الموافقات ص 42
[45] الغزالي شفاء الغليل ص 78
[46] الرسالة للشافعي، ص51-52.

1 ويقول ابن رشد متابعا الغزالي في هذا الموقف: فأما أجزاء هذه الصناعة بحسب ما قسمت إليه في هذا الكتاب فأربعة أجزاء: فالجزء الأول يتضمن النظر في الأحكام, والثاني في أصول الأحكام، والثالث في الأدلة المستعملة في استنباط حكم حكم عن أصل أصل, وكيف استعمالها. و الرابع يتضمن النظر في شروط المجتهد وهو الفقيه. وأنت تعلم مما تقدم من قولنا في غرض هذه الصناعة، وفي أي جنس من أجناس العلوم هي داخلة، أن النظر الخاص بها إنما هو في الجزء الثالث من هذا الكتاب، لأن الأجزاء الأخرى من جنس المعرفة التي غايتها العمل, ولذلك لقّبوا هذه الصناعة باسم بعض ما جعلوه جزءا منها, فدعوها بأصول الفقه. والنظر الصناعي يقتضي أن يفرد القول في هذا الجزء الثالث إذ هو مباين بالجنس لتلك الأجزاء الأخرى. ابن رشد الضروري في أصول الفقه، ص 36
[48] اشار الكثير إلي أهمية هذا الموضوع في الكتابات الأصولية، ومنهم الجابري الذي لاحظ اهمية هذا المبحث، و شغله مساحات كبيرة كما في المستصفى للغزالي، وقد الفت فيه كتب بصفة خاصة ومن أهمها كتاب القرافي بعنوان العقد المنظوم في الخصوص والعموم وكتب و مقالات كثيرة أخرى.
[49] الزركشي البحر المحيط ص
[50] د. عبد الحميد الجندي الإمام الشافعي ناصر السنة ص 541
[51] الشافعي الرسالة ص 54
[52] هود6
[53] الشافعي الرسالة ص 59
[54] المرجع السابق ص 66
[55] المرجع السالق 67
[56] في الحقيقة ان العام والخاص عند الشافعي يجدان مكانهما داخل المنطق الارسطي الذي كان قد ترجم مع ابن المقفع ( ت 130 ) الذي ترجم كتاب إيساغوجي و أنالوتيكا فاستلهمهما الشافعي ( ت 204 )من هذا المنطق. فاللفظ المفرد اذا دخل عليه الالف و اللام لا للتعريف يفيد الكل أي القضية الكلية. هذه الكلية التي قال عنها ارسطو نفسه انها سهل الحصول عليها، لكنه بنفس الدرجة سهل نقضها. كذلك يقال في ظنية العموم فهو يخصص بالدليل الظني مع غير الأحناف. الا ان الشافعي لايعترف بانه غرف من المنطق وهو ما يتناقض مع الواقع، عن بن المقفع و المنطق راجع الدكتور سامي النشار مناهج البحث عند مفكري الإسلام ص 264
[57] الانعام 155
[58] عبد الوهاب خلاف علم أصول الفقه ص 184
[59] الشافعي الرسالة ص 280/281
[60] هذا الشرط خاص بالمحدثين الموالي لأنه يشك فهمهم للغة العربية.
[61] صبحي صالح، مصطلح الحديث ص 68-69
[62] المرجع السابق ص 275
[63] المرجع السابق ص 239
[64] كانت هذه الصيغ خمسة فقط وهي: 1 ألفاظ الجموع، 2 من وما اذا وردا للشرط والجزاء، 3 ألفاظ النفي مثل ما في الدار احد، 4 الاسم المفرد اذا دخل عليه الألف واللام لا للتعريف، 5 الألفاظ المؤكدة مثل كل وجميع، الغزالي ، المستصفى 2/36 اما القرافي فقد بلغت عند مائتان و خمسون صيغة، شهاب الدين احمد بن ادريس القرافي العقد المنظوم في الخصوص و العموم ط، الأولى، 1999 دار الكتبي ص 351
[65] يصر الاصوليون على ان العموم من عوارض الألفاظ حتى يلتئم لهم التخصيص. يقول عبد الوهاب خلاف: ومن هذا يؤخذ أن العموم من صفات الألفاظ. عبد الوهاب خلاف علم اصول الفقه ص، 182 وهذا ما جعل البحث في المعاني يغيب، مما كانت له آثار كارثية على المعرفة. يقول الجابري وقد اختار البيانيون منذ الشافعي إلى أبي الحسين البصري، ومنذ الجاحظ إلى السكاكي اختاروا النظر إليه ( النص) من المنظور الأول: اللفظ أولا و المعنى ثانيا أو ثالثا.. فكان لهذا عدة نتائج على العقل البياني ونتاجه المعرفي. الجابري بنية العقل العربي ص 104
[66] الشاطبي، الموافقات: ص 4/149
[67] الشاطبي الموافقات ص 153 / 165
[68] الشافعي ، الرسالة ص:51-52
[69] الغزالي شفاء الغليل ص 15
[70] الفرق بين التخصيص والنسخ شكلي جدا، فهما وجهين لعملة واحدة. فالمراد بالتخصيص هو اخراج الأفراد المتوهمين وفي النسخ هو اخراج للأفراد الداخلين تحت الحكم بالتأكيد، فوقع استبدالهم، وهذا يصح في التخصيص بالمتصل اما بالمنفصل فلا يصح خصوصا عند الحنفية الذين يرون بان العام قبل التخصيص قطعي الدلالة. وقال خلاف في هذا المعني ومن هذا ينتج أن التخصيص في اصطلاح الاصوليين لا بد ان يكون بدليل مقارن، لتشريع العام لأنه بهذه المقارنة يتبين ان المراد من العام بعض افراده ، وأما إذا كان متأخرا عنه فهو نسخ جزئي له. عبد الوهاب خلاف علم اصول الفقه ص 186/187


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.