موقف الدولة القومية القطرية، في العالم العربي والإسلامي من الحركة الإسلامية، رغم تعدده إلا أنه يبدو نابعا من توجه إستراتيجي محدد. وفي حالة الديمقراطية المقيدة، أو الاستبداد المرن، أو الاستبداد الشامل، تبدو خطة الدولة واحدة. ورغم التباين بين الحالات العربية والإسلامية، إلا أن الناتج المستهدف يبدو أيضا واحدا. وإستراتيجية الدولة مع الحركة تتبع طريقة العصا والجزرة، ولكن الغريب فيها أن العصا تتمثل في إقصاء الحركة الإسلامية، ولكن الجزرة تتمثل في احتوائها. وخلاصة القول: إن الدولة تعمل على الحد من دور الحركة الإسلامية وحصارها، بالقدر الذي يمنعها من القيام بدور قيادي في الدول العربية والإسلامية. فيصبح المعروض على الحركة الإسلامية، إما القبول بالاحتواء من قبل الدولة أو الدخول في معركة الإقصاء، ولا بديل آخر. لأن الدولة تحاول إعادة توصيف الحركة الإسلامية بالصورة التي تناسب طبيعة الدولة القطرية، وتجعلها قادرة على فرض هيمنتها على المجتمع. التحويل إلى طائفة تحاول الدولة وضع الحركة الإسلامية في خانة المذهب أو الطائفة، بحيث تكون تعبيرا عن تنوع داخل إطار الفكر الإسلامي. وبهذا تصبح كيانا اجتماعيا طائفيا، ليس بالمعنى السلبي، بل بالمعنى الطبيعي. فكلما كانت الحركة الإسلامية تعبر عن طائفة أو مذهب داخل الحالة الإسلامية، كلما أصبحت تمثل تكوينا دينيا بين تكوينات أخرى مماثلة له ومختلفة معه أيضا. وهنا يظهر الفرق بين الحركة التي تعمل في نطاق نشر فكرها الديني، والحركة التي تتجاوز ذلك إلى العمل في مجال الإصلاح الشامل، وتمتد إلى المجال السياسي. فالحركة التي تقتصر على الدعوة الدينية فقط، تصبح تيارا دينيا، أو فرقة بين الفرق والتيارات. ويتم التعامل معها باعتبارها مكونا من المكونات الاجتماعية في المجتمع. والدولة تحاول فرض وصايتها على المجتمع، على أساس أن فكرة الدولة القومية القطرية قائمة على أهمية إدارة الدولة للمجتمع. مما يجعل الدولة تحاول فرض سيطرتها على حركة التيارات الإسلامية الدعوية، رغم أنها تعمل في المجال الدعوي الديني، حتى تظل تحت هيمنة الدولة ومصالحها العليا. فعندما تجد الدولة المصرية مثلا، أن انتشار النقاب يمثل تهديدا لهويتها، ويعد خروجا من قبل المجتمع على ما تدعيه الدولة المدنية الحديثة لنفسها من صفات، نجد الدولة المصرية تتدخل في مسألة النقاب وتحاول فرض هيمنتها، رغم أن الدولة المصرية لا تجد مشكلة في نشر الفكر السلفي المؤيد للنقاب. لأن التيار السلفي يمارس العمل الدعوي، بصورة تمكن من اعتباره أحد المكونات الاجتماعية التي لا تؤثر في السياسة، فيصبح جزءا من تنوع المجتمع. وهنا تمارس الدولة عملية الاحتواء للتيار السلفي، فنجدها تعمل على الحد من انتشار مظهره العام الدال على حضوره الشعبي، بعملية حصار انتشار النقاب.
وبهذا تحاول الدولة وضع بعض التيارات الإسلامية في إطار التيار الديني الدعوي، وتتجاهل مشروع هذه التيارات، وتعمل على عدم تحول مشروع تلك التيارات إلى فعل في المجال العام. وتظل تلك التيارات في إطار التنوع الاجتماعي الديني، الذي لا يمس الهوية السياسية للدولة، ولا يؤثر عليها. التحويل إلى قبيلة تحاول الدولة جعل الحركة الإسلامية مثلها مثل القبائل والعائلات الكبرى، أي تجعلها ممثلة لكتلة اجتماعية، ليس لها مشروع سياسي، ولكن لها تواجد مجتمعي منظم، أو يمكن تنظيمه والتحكم فيه. وتعمل الدولة على التعامل مع بعض التيارات الإسلامية، بوصفها كتلة اجتماعية لها رأس أو رمز محرك لها، ومن ثم يتم التوافق بين رمز هذه الكتلة والدولة لتمرير مصالح الدولة في مقابل تمرير مصالح الكتلة الاجتماعية. يحدث هذا مع الطرق الصوفية في العديد من البلدان، حيث يتم التعامل معها بوصفها كتل اجتماعية منظمة، ويتم التوافق بين قياداتها والدولة على تبادل المصالح، فتحصل الدولة على التأييد الذي تريده، مقابل السماح للطرق الصوفية بحرية الحركة والفعل في المجال الديني. وهنا تستفيد الدولة من وجود تلك الكتل المنظمة، حيث توظفها في تأييد النظام الحاكم، وتستفيد من تأثيرها على مساحة مؤثرة من الناس، وتستفيد كذلك من انتشارها وشعبيتها. وتحاول الدولة هنا، التوصل إلى تفاهمات مستقرة لفترات طويلة، ما دامت هذه الحركات لا تنشر فكرا أو مظاهرا تتحدى هوية الدولة. فتطمئن الدولة للحركة وتتركها تتحرك بحرية، وتقييم معها توافقا طويل المدى، حتى تصبح تلك الحركات بمثابة أعمدة داخل نظام الحكم، ومكون رئيس من المكونات المؤيدة للحكم. تبادل المصالح تحاول الدولة توظيف علاقتها ببعض الحركات الإسلامية، والتي تقبل تبادل المصالح بينها وبين الدولة. بحيث تسمح الدولة لتلك الحركات بالعمل، في مقابل أن تحصل على تأييد تلك الحركات للحاكم، أو منعها لأي محاولة للخروج على الحاكم. وكلما كان فكر الحركة مختلفا عن الفكر السائد لدى الدولة، كلما كان دور الحركة يقتصر على منع معارضة الدولة، مقابل السماح للحركة بمساحة تعمل من خلالها في نشر فكرها. وبهذا تحصل الحركة على مساحة لنشر فكرها، في مقابل أن تمتنع عن أي فعل في المجال السياسي، بل وتشجع الناس على البعد عن السياسة. فيتم احتواء الدور العام للحركة، في مقابل توسيع الدور الديني لها. والدولة من جانبها تحاول تأمين المجال العام من عمل الحركة الإسلامية، وتعرف في الوقت نفسه أنها لا تستطيع السيطرة على كل الحركات الإسلامية، لهذا تضطر للتوصل لمثل هذه التفاهمات، رغم ما فيها من تعارض مع مصالح الدولة المستقبلية. فنشر فكر يعارض الأسس التي قامت عليها الدولة يمثل تهديدا مستقبليا لها، ولكن الدولة تضطر إلى التفاهم مع بعض التيارات، حتى تحصل منها على ضمانات بعدم العمل في المجال السياسي، على أمل أن تتمكن الدولة من السيطرة على هذه التيارات مستقبلا. تبادل الشرعية تحاول الدولة الوصول إلى عملية تبادل شرعية بينها وبين الحركات الإسلامية أو بعضها، ولكنها تفشل في النهاية. فهي تريد مبادلة المشروعية القانونية وتراخيص العمل، بالحصول على دعم إسلامي من بعض الحركات الإسلامية. ولكن غالب الحركات الإسلامية يجد مشكلة في تأييد الأسس التي قامت عليها الدولة وأيضا يجد مشكلة في اعتبار الدولة القائمة ونظامها السياسي إسلاميا، أي يقوم على المرجعية الإسلامية. لهذا تلجأ الدولة عادة لبعض الرموز الإسلامية، كما تلجأ إلى المؤسسة الإسلامية الرسمية، والتي تسيطر عليها الدولة، حتى تحصل على شرعية إسلامية. السيطرة على الفضاء الإسلامي تدرك الدولة في البلاد العربية والإسلامية، أن المجال الإسلامي لا يمكن السيطرة عليه، وتحاول كل الدول أن تعطي لنفسها شرعية إسلامية ما، كما تحاول السيطرة على المجال الإسلامي، ولكن المجال الإسلامي محكوم بقواعد الشريعة الإسلامية، ولا يمكن السيطرة عليه، أو تحديد اتجاهاته في قالب معين. حبيب:يصعب السيطرة على الفكرة الإسلامية وهنا تظهر المشكلة الأساسية، فالدولة تقدر على احتواء الحركات الإسلامية، بسبب قوتها المادية، ولكنها لا تقدر على احتواء المجال الإسلامي، لأنه مجال معنوي أساسا. ولا يمكن السيطرة على الفكرة الإسلامية من قبل الدولة، أو أي مؤسسة أخرى. لهذا تحاول الدولة احتواء الحركة الإسلامية، حتى تحتوي الحركة والفعل داخل المجال الإسلامي، وتعوض عدم قدرتها على السيطرة على المجال الإسلامي وتوظيفه لصالح فكرة الدولة القومية القطرية. الإقصاء السياسي تظهر مشكلة الدولة مع الحركات الإسلامية التي تقوم بدور في المجال السياسي، فهذه الحركات تفعل الفكرة الإسلامية داخل المجال السياسي، والمجال العام. وبهذا تتحرك الفكرة الإسلامية لتقييم الحالة السياسية، وتقييم الدولة نفسها، وترى مدى شرعية الدولة ومدى شرعية النظام السياسي. فتحريك الفكرة الإسلامية في المجال العام، يعني تعرض شرعية الدولة للامتحان، وهو امتحان تحكمه قواعد شرعية محددة، وتؤيده جماهير واسعة. مما يجعل فكرة الدولة القومية القطرية توضع على معيار القيمة السياسية الإسلامية، لتحدد مدى شرعية فكرة الدولة القومية القطرية. وهنا نجد الدولة أمام حالة تمثل تهديدا لها، خاصة وأن الدولة القومية القطرية المقامة في البلاد العربية والإسلامية، تمثل نموذجا تم فرضه بقوة النخب الحاكمة، وليست نتاجا لاختيار جماهيري. فتحاول الدولة احتواء الحركة السياسية الإسلامية داخل نطاق التعددية السياسية، بوصفها جزءا من النظام السياسي الحاكم، أو تحاول إقصاء دورها السياسي كاملا. فلا بديل أمام الدولة، إلا أن تكون الحركة الإسلامية جزءا من نظام الدولة القومية القطرية، أو تكون خارج اللعبة السياسية. ولكن قبول الحركة الإسلامية للعمل من خلال نموذج الدولة القومية القطرية، لا يمثل سببا كافيا للسماح لها بالعمل الحر. لأن الدولة تدرك تعارض الشرعية بين شرعية الدولة القومية القطرية، والتي تقوم على سند العرق والجنس، وشرعية الدولة الحضارية الإسلامية المستندة على سند القيم والمبادئ. ولذا لا نجد دولة تسمح للحركة الإسلامية بالتنافس الحر والنزيه على السلطة، بل تسمح لها فقط بالعمل تحت جدران الاحتواء والحصار، حتى يكون عملها في حدود مرسومة بدقة وغير قابلة للتجاوز. ولهذا تنقلب الدولة دائما على تفاهماتها مع الحركة الإسلامية، وليس العكس. فالدولة القومية القطرية لا تطمئن لعمل الحركة الإسلامية، والتي تنادي بوحدة الأمة وتقدم مشروعا عابرا للقوميات، وهي دولة قومية حصرا. لهذا يصبح الإقصاء السياسي هو المحصلة النهائية أو الخاتمة، لكل علاقة بين حركة إسلامية تعمل في مجال الإصلاح السياسي، والدولة القومية القطرية. فالدول تجرب احتواء الحركة الإسلامية، ولكنها لا تستطيع الاستمرار في التجربة، ولا تستطيع المغامرة بترك الحركة الإسلامية تمارس العمل السياسي بحرية لمدة طويلة. فتتحول فترات التفاهم وربما التحالف أو المشاركة، إلى مرحلة المواجهة المباشرة. ونجد مختلف الدول تتحول إلى مرحلة إقصاء الحركة الإسلامية عن المجال السياسي، في محاولة لحصارها في المجال الاجتماعي، وتحويلها إلى كتلة اجتماعية، سواء كانت كتلة متوافقة مع الدولة أو كتلة متمردة على الدولة. الإسلامية مكون للقومية إستراتيجية الدولة القومية القطرية تجاه الحركة الإسلامية، تحاول تحويل المشروع الحضاري الإسلامي، إلى مكون من مكونات الهوية القومية للمجتمع الذي تحكمه. فهي تحاصر فكرة المشروع الحضاري الإسلامي للنهضة، بوصفه بديلا لمشروع الدولة القومية القطرية، وتحاول منع هذا المشروع من الحركة في المجتمع، ومن التمتع بالتأييد. ولكن الدولة القومية لا تستطيع مواجهة الدين نفسه، وهي تعرف أن المجتمعات العربية والإسلامية متدينة. والدولة القومية القطرية تحد هوية المجتمع في هويته العرقية، وتصبح الدولة المصرية دولة العرق المصري. ولكن الدين حاضر في المجتمع المصري، لذا تحاول الدولة جعله جزءا من تعريف الهوية المصرية، فتصبح الإسلامية مكون من مكونات المصرية. في حين أن الحركة الإسلامية تعتبر القومية والوطنية، مكون من مكونات الانتماء الإسلامي. وبهذا تعكس الدول دوائر الانتماء، وتجعل الدائرة الصغرى هي الدائرة الأخيرة، وتجعل الإسلامية جزء من القومية. ولهذا تحاول الدولة أن تحتكر الفكرة الإسلامية بلا منافس، كجزء من احتكارها تمثيل القومية القطرية. كما تحاول جعل الفضاء الإسلامي جزءا من الفضاء الاجتماعي الذي تهيمن عليه الدولة القويمة القطرية، بوصفها الوصي على المجتمع والقائم على إدارته. لذا تقوم الدولة القومية القطرية بلعبة الاحتواء والإقصاء، وتحاول تكييف الحركة الإسلامية بين الخيارات التي تسمح بها الدولة فقط، حتى تقع الحركة الإسلامية تحت السيطرة المباشرة للدولة. فإذا فشلت الدولة في السيطرة على حركة إسلامية، جعلتها حركة متمردة على الدولة واتجهت مباشرة للحرب الأمنية عليها. والدولة بهذا تتصرف وكأن عمل الحركة الإسلامية يمثل تهديدا مباشرا لها، فتلجأ للحصار المستمر للحركة الإسلامية. فالدولة القومية القطرية تحاول الحفاظ على طابعها وأساس تكونها، والحفاظ على المصالح القومية القطرية. لذا تحاول الدولة حصار الحركة الإسلامية داخل الإطار القومي القطري، أو تحاربها بوصفها حركة خارجة عن الشرعية.