من أحسن ما قرأت بعد ظهور النتائج الأولية للانتخابات التونسية "محبة تونس موش كراسي" الذي يحاكي الشعار الرئيسي لحملة النهضة الانتخابية "محبة تونس موش كلام"! وفي اعتقادي أن المستائين من نتائج النهضة الانتخابية كان عليهم أن يتوقّعوا أقلّ من ذلك نظرا لعمليات التهرئة وما تعرضت له من رمي عن قوس واحدة من الداخل والخارج، من الأعداء، ومن الأصدقاء ورفاق الأمس، ومن إعلام المنظومة النوفمبرية القذرة! الإعلام بمقدوره أن يدمّر العمالقة ويصنع "عمالقة" وهميين! والإعلام الذي تصدّر المشهد في المرحلة الانتقالية، هو نفس الإعلام الذي كان يتحدث عن "الفلسفة والحكمة الثاقبة في فكر الرئيس بن عليّ" بنفس وجوهه الكالحة، فكيف نتحدّث عن ثورة مكتملة؟ ... أكاد أجزم أن "بن علي" ذاته لو أتيحت له الفرصة، سيكون له حظوظا تنافسية رغم كل جرائمه، فالعبيد وضعاف النفوس يحنّون إلى أسيادهم وجلاّديهم!... أبناء النهضة كانوا يطرقون الأبواب، يدعون الناس لانتخابهم، ثمّ يأتي آخرون يفتونهم بحرمة الانتخابات، ومخالفة شرع الله إن هم انتخبوا! وهؤلاء قلّوا أم كثروا وجبت تهنئتهم بالفوز! ... وانتظروا الفاتورة!
وأما "التجمّع" فقد وظّف "الماكينة" القديمة وأسلوبه في الترغيب والترهيب! مستفيدا مما بثه الإعلام المعادي من هلع في النفوس وما أحدثه "الإرهاب" من رعب على المستقبل! ... وقد تمكّن "التّجمعيون" ومن والاهم خلال السنوات الماضية من إخراج مشهد مسرحيّ مثّله جماعة من الحمقى وجماعة من "الكمبرس" ليجنوا ثماره في مثل هذا اليوم، وقد تمّ لهم ما أرادوا... إلى حين!
وما زاد من هول الصدمة أن أغلب الأحزاب غير المنتمية للمنظومة القديمة التي يمكن أن تتحالف فيما بينها أوتشكل جبهة، قد تلاشت وتكاد تنقرض، وذلك بسبب "الأنا" التي تضخمت لدي بعض زعامات تلك الأحزاب فشتتتها!
النهضة ساهمت في المرحلة الماضة بكل ما أوتيت من مشروعية انتخابية وحكمة في حفظ المسار ومواجهة الرياح العاتية التي كادت تهدم خيمة الوطن وتقتلع أوتاده، وناورت قدر المستطاع وسط محيط هادر ومتآمر على "الثورات" العربية وما أفرزته من قيادات غير مرحب بها محليّا ودوليا. وأشهدت النهضة العالم على ديمقراطيتها وحسن إدارتها للمرحلة الانتقالية، بعيدا عن الحقد والضغينة، وكل ما من شأنه أن يزيد من تعقيد الأمور ويتسبب في وأد التجربة الفتيّة، وبذلك وفّقت بأقدار كبيرة في حماية المسار من الانقلاب، وساهمت في بناء المؤسسات التي تقطع مع الاستبداد، وحمت البلاد من سيناريو الحرب الأهلية الذي لم يكن عنها ببعيد! ثم استماتت في ضبط مواعيد الانتخابات وجعلت مقابلا لذلك تنازلها عن السلطة، كي تردّ الأمانة لصاحبها فيقول كلمته ويختار من يمثله! ... وقد قال!
ورغم كل المآخذ والمخالفات القانونية الموثّقة خلال فترة الانتخابات، واعتماد المنظومة القديمة على أسلوبها الخسيس، فإن ذلك من وجهة نظري لا يؤثر كثيرا على النتيجة مادام الحق قد توفّر لكل مواطن في الخلوة بينه وبين الصندوق، إلاّ أن يثبت أن التزوير قد حدث بشكل مباشر! أي أنه تم التصويت بانتحال الشخصية كما أشار رياض بن فضل أحد قادة الجبهة الشعبية في أحد تصريحاته، أو أي أسلوب آخر من أساليب التزوير المباشر!
ولو لا الخشية من الانتكاس وعودة "المنظومة" لعادتها القديمة في المكر والقمع والاستبداد، لوجب تهنئة النهضة بسبب عدم تصدرها النتائج، وفرصتها في التخفف من أعباء الحكم والانتصاب أمام العموم للطعن والضرب دون امتلاك الدفاعات الضرورية! هي أيضا فرصة للتخفف من الشوائب ومن المتسلقين والمتملقين وجماعة "الصلاة مع عليّ أسلم والأكل مع معاوية أدسم"، هي فرصة لتصحيح المسار والإلتفات للبناء الداخلي ومراجعة الأولويات في التربية وبناء الأفراد، بناء يجعلهم يصمدون أمام الهزات والمحن. ومع توقعي بأن الحزب "التّجمعي" الفائز في الانتخابات هو حزب ليس له برنامج للحكم، فبرنامجه الوحيد الذي تأسس من أجله هو معاداة النهضة والعمل على إسقاطها! هذه "المشاريع قد تنجح في هدفها الأساسي ولكن حظوظ استمرارها ليست كبيرة لأنها تجمع شتات من اليمين واليسار والليبراليين ، وقد كانت الخلافات تعصف بهم من حين لآخر ولم يحافظ على تماسكهم إلا الهدف المذكور! وأما الآن وقد جاء دور تقاسم "الغنيمة" فما علينا إلا أن ننتظر ونراقب المشهد! من حيث المبدأ والديمقراطية التي قبل بها التونسيون لحل الخلافات بينهم، أقول "مبروك لمن فاز" وعليه أن يظهر الآن ما كان يزعمه من قطع مع الماضي ورفض للمحسوبية وتوزيع المناصب على المقربين، وتصفية الخصوم! وفي كل الأحوال من فاز لم يفز بأغلية ولن يكون في السنوات القادمة في تونس من يفوز بالأغلبية، وبالتالي كل فائز عليه أن يتواضع لمن هو "أصغر" منه ليتحالف معه! النهضة أعطت دروسا في الديمقراطية خلال وجودها في الحكم وتنازلت عنه لمصلحة تونس وتجنيبها الاحتراب الداخلي، وعليها الآن أن تعلّم خصومها كيف تكون المعارضة ديمقراطية وبنّاءة، وكيف تدعم الخير وتقاوم الشرّ، ولا تعارض من أجل المعارضة والمكر والكيد والنكاية في المخالفين وتدمير البيت على من فيه من أجل الإطاحة بالخصم! أما الحديث عن عودة الاستبداد بمفهومه "النونفمبري" فالأصل أن شعبنا ثار وأسقط أعتى الدكتاتوريات ولن يعجزه إسقاط أذنابها إن هم عادوا لأساليبهم القديمة! ما حصل يجب أن يكون درسا لكل "الثورجيين" والمزايدين، وما عليهم إلا أن يراجعوا حساباتهم وطرق سيرهم حتى لا تحل بهم وبتونس مزيدا من الكوارث في المحطات القادمة! وأما جماعة الحديث عن خيانة النهضة، ...ولو أنها صادقت على "قانون تحصين الثورة" وعلى "الشريعة مصدرا أساسيا من مصادر التشريع"! وجماعة "الديمقراطية كفر وحرام" وجماعة "محاسبة الفساد والجلادين والقناصة" وجماعة "أعمل كيف مرسي وإلا سيّب الكرسي" فليس لي عليهم من ردّ ... إلاّ أن أقول من لم يعلّمه "الكتاب" المنظور فلن تعلمه بعض السطور! ... وسلام! طه البعزاوي 27 أكتوبر 2014