يتفق أغلب الخبراء في الشأن الاقتصادي أن البلاد التونسية تعيش أزمة حقيقية ومعضلة تستفحل يوما بعد آخر وتكاد تستحوذ على نصف وربما أكثر من مقدرات الاقتصاد التونسي بحيث أصبح الاقتصاد الهامشي الخارج عن القانون والمتمثل في التهريب والمعاملات المالية المشبوهة والنشاطات الممنوعة وعالم الفساد الخفي والمتستر تحت جنح الظلام. وقد زادت فوضى ما بعد الثورة في وتيرة الاقتصاد الهامشي وتطوره بحيث أصبح اقتصادا قائم الذات له مساراته وآلياته ومسالكه وأساطيله ودولته بعد أن تغول وامتدت عروقه في كل مكان في ظل الانفلات وضعف الدولة وتخليها عن واجباتها الأكيدة ودورها في حماية الاقتصاد الوطني من هذه الآفة الفتاكة. كما أن مشكلة الفقر والبطالة والتهميش في المناطق الغربية والجنوبية للبلاد ويأس الشباب من السياسيين المتكالبين على الكراسي والمناصب والظهور الاعلامي وانعدام البرامج التنموية المشغلة لليد العاملة في تلك الربوع فاقم من ظاهرة التهريب الخطي فأصبح الشباب العاطل عن العمل والمهمش يغامر بالدخول في هذا العالم المحفوف بالمخاطر لكن ما باليد حيلة في غياب موارد رزق أخرى. والأخطر من ذلك أن تكونت عصابات للتمويل والحماية والنقل والتخزين والتوزيع كما دخل الارهاب على الخط كذلك وتشعبت الأمور تحت أنظار الحكومات النائمة في العسل في مكاتبها الوثيرة باحثة عن النفوذ والسلطة والمناصب والتوافقات. ولم تأخذ الحكومات المتعاقبة مأخذ الجد في وضع النقاط على الأحرف ولم تحرك ساكنا وتركت الأمور تسير نحو الكارثة لأن في ذلك اتقاء للزوابع والمشاكل التي ربما تمس من الرصيد الانتخابي بل اتبعت سياسة الهروب إلى الأمام وهي تعلم أن الانفجار قادم لا محالة. ونحن نعلم أنه لم تقم أي حكومة بعمل جدي لمقاومة الفساد الذي انتشر بعد الثورة كالنار في الهشيم ووقع تبييض الأموال من خلال اللعبة السياسية وتعدد الدكاكين الحزبية والاحتماء بالمناصب المتمتعة بالحصانة والتملق من أصحاب السلطة مما شجع في لي ذراع الدولة وتطويعها لخدمة المصالح الشخصية والحزبية الضيقة. وهكذا وجدت الحيتان الكبيرة المسرح خاليا من كل رقابة ومحاسبة والوضع الاجتماعي مناسبا في أماكن كانت فيها الدولة شبه غائبة بحيث انعدمت التنمية منذ عقود طويلة وتفشت فيها كل مظاهر العوز والتخلف والخصاصة فكان التهريب والأعمال الممنوعة وسيلة للشباب العاطل عن العمل والمهمش للحصول على لقمة العيش بحكم الضرورة الحياتية الملحة وهو في الحقيقة ضحية من ضحايا الدولة والمجتمع حتى يكون فريسة ولقمة صائغة لحيتان التهريب والفساد الكبيرة والتي تسكن أفخم النزل وتتلاعب بالأموال الطائلة. وبما أن الظاهرة أصبحت جد خطيرة بحيث أصبحت مورد رزق للكثير من العائلات وتداخلت مع النزعة الارهابية والجريمة المنظمة فلا بد للدولة أن تنظم قطاع التجارة البينية بالاتفاق مع الدول المجاورة وكذلك بالنسبة للاقتصاد الموازي والهامشي وتتابع النشاطات المشبوهة من خلال تحرك الأموال ووضع برنامج على مراحل لمقاومة الفساد بصفة حاسمة لأنه أصل الداء. فمن غير المعقول محاربة صغار المهربين والتجار المتجولين والمنتصبين عشوائيا رغم مخالفتهم ولا شك للقانون وهم في الحقيقة ضحية تنمية عرجاء وتوزيع غير عادل للثروة ويعملون في هذا القطاع بحكم الضرورة الحياتية وترك الحيتان الكبيرة تنعم بفسادها وتدير لعبة الاقتصاد الهامشي من خلف الستار دون محاسبة ومتابعة. فالخوف كل الخوف أن تجد هذه الحيتان الكبيرة مكانا آمنا وحماية هنا وهناك في دواليب السلطة والدولة مثلما كان في عهد بن علي فلا تطالها يد العدالة والمحاسبة وتبقى تصول وتجول وتتحكم في الاقتصاد الوطني وربما في المشهد السياسي برمته لعقود طويلة.