صوت العقل والحكمة يفترض من الناس الأسوياء أنهم عند نزول المصائب وحلول الكوارث يتناسون اختلافاتهم ومشاحناتهم ويتقاربون من بعض لمواجهة الأخطار سويا أو لمواساة بعضهم بعضا. هذا ما رأيناه من عديد شعوب العالم خاصة فيما يتعلق بموضوع الإرهاب ومواجهته، إلا تونس فبعض سياسييها ومن يزعمون أنهم "نخبتها" كلما حدثت مصيبة تراهم لا يتورعون عن توخّي كل الطرائق لربط مخالفيهم السياسيين بها وتحميلهم مسؤوليتها وتراهم يحشدون الحجج بأسلوب فيه كثير من السخف والاستخفاف بعقول الناس، وحالهم كالذي يكذب، ويعرف أنه يكذب، ويعرف أن مستمعه يعرف أنه يكذب! هذا ما رأيناه من كثير ممن تصدّروا الموائد الحوارية في إعلامنا "الوطني" عقب الجريمة الإرهابية التي استهدفت السياح في متحف باردوا وتسببت في إزهاق أرواح بريئة يعصمها الدين والقانون والشهامة والمروءة وعاداتنا وتقاليدنا العربية! كلما حدثت كارثة تستهدف أمن تونس وديمقراطيتها الوليدة رأينا هؤلاء "السماسرة" مثل التاجر المفلس الذي يوقظ زوجته في ساعة متأخرة من الليل ليسألها: "يا مرا انْسالوش حَدْ"؟ وطبعا هذا ال"حدْ" أو "الثور الأبيض" المطلوب رأسه عند هؤلاء المتدخلين في الإعلام والشأن العام هي "حركة النهضة" والإسلاميين عموما لأنهم في زعمهم نبت غريب عن تونس يجب اقتلاعه واجتثاثه، وكأن مرجعيات أصحاب هذه الإديولوجيات المنغلقة قد ولدوا في تونس وفيها نشأوا وترعرعوا! و"إعلامنا الوطني المحايد جدا" يستضيف النكرات المختصين في بث الفرقة والمستخفّين بإرادة الشعب! ... لا همّ لهم إلا خدمة من يمولهم ويدفع لهم بالدينار والدولار ليخرجوا من أفواههم "الخربة" كلاما يلقونه على عواهنه دون تقدير حقيقي لمآلاته! ... شخص "بغيض غير راشد" ليس له من اسمه نصيب، ذاك الذي فُتح له المجال ليبث سموم الحقد والكراهية وينشر الفتنة بين أبناء الشعب الواحد ويطالب بسحق فئة عريضة من التونسيين لأنها لا توافق هواه أو هوى من يؤجره! ويطالب دون حياء بتهجير مواطنين تونسيين لأنهم لم يوافقوا هواه أو هوى أسياده! زعم أن نائب رئيس مجلس النواب الأستاذ "مورو" المعروف بأنه أحد رموز الوسطية والاعتدال في تونس، والذي يصفه الغلاة بأنه صاحب "الإسلام لايت" إرهابي، وجبت محاسبته لأنه زار القرضاوي "الإرهابي" في قطر "الإرهابية"! ... وهو نفس الموقف الذي تبنّته أستاذة علم الاجتماع في ذات المائدة الحوارية، حيث كالت التّهم جزافا لمخالفيها دون حجة أو دليل، وكان يفترض أن تبقى في مجال تخصصها لتحلل ظاهرة الإرهاب إجتماعيا! ليعلم هؤلاء ومن على شاكلتهم أن الحملة على الشيخ القرضاوي قديمة وأن كثيرا من عرّابي "خطة تجفيف منابع التدين" قد شنوا عليه الحملة منذ أيام "بن علي" لأن مواقفه في مقاومة الظلم والتطرف العلماني لا مهادنة فيها! وليعلموا أن من سبق بتصنيف الشيخ القرضاوي إرهابيا هو الكيان الصهيوني ولوبياته في الخارج، ثم تبعهم في ذلك وكلاء الصهيونية في العالم العربي! كلام كثير لا يستحق الردّ، ولكن سيبقى الشيخ القرضاوي رمزا للوسطية والاعتدال ورمزا للثبات على الحق والمبدأ ومقاومة الظلم ومناصرة الشعوب الثائرة ضدّ جلاديها! يكذبون ولا يستحون، الشيخ القرضاوي منذ عشرات السنين ومنذ بداية انتشار الفكر "الجهادي" المتشدد وجماعات "التكفير والهجرة" وقف وقفة العلماء الربانيين رافضا للتشدد والتكفير مقاوما للظلم من جهة وللإرهاب بكل أشكاله وألوانه من جهة أخرى، ومهما كانت مبرراته ودوافعه ومحذّرا من مآلاته وعواقبه. وله يعود الفضل في حماية كثير من الشباب الإسلامي في العالم من الانجرار وراء دعوات الإرهاب والتكفير. مواقفه الرجل من الإرهاب الذي حصل بداية التسعينات من القرن الماضي في الجزائر مواقف ثابتة ومدوّنة، ولا يمكن أن يزايد عليه في هذا الباب أحد! و أتحدي متهميه بالإرهاب أن يأتوا بفقرة أو جملة أو كلمة من كتبه أو خطبه أو برامجه التلفزية في سياقها يدعو فيها إلى الإرهاب والعنف ضدّ الشعوب المسلمة أو حكامها! ... طبعا هذا التحدي ليس لجماعة "الفوتوشوب والمونتاج التحريفي"! ويكفي الشيخ القرضاوي صدقا في حمله للواء الوسطية والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة أنه منبوذ مبغوض من التّطرفين، التّطرف الديني والتّطرف العلماني وأن رأسه مطلوب من كليهما! وما قلته في القرضاوي ينطبق على جماعة الإخوان المسلمين، فهي جماعة سلمية تقاوم الإرهاب ولا تحمل السلاح إلا على الغزاة والمحتلين! ... فكلمة "سلميتنا أقوى من الرصاص" ، سيحفظها التاريخ بفخر في الرصيد السلمي للجماعة، وهي كلمة مرشدها العام محمد بديع المحكوم عليه بالإعدام من قضاء السيسي الإرهابي! ليست مشكلة أن تخالف الجماعة وتعارض نهجها يمينا أو يسارا، أو أن تنقدها وإنما المشكلة في الكذب عليها وعلى رموزها ومشائخها واتهامهم بما لم يفعلوا! كثير ممن يزعمون أنهم "نخبة" قد أصيبوا بالعمى والحول فالسيسي المجرم الذي أحرق الآلاف من المتظاهرين السلميين وداسهم بالدبابات، بطل ورمز سلام عندهم، وتجربته رائدة ويجب أن تستورد كما ورد على لسان أحد الصحافيين المغرورين، وأما ضحايا السيسي فمجرمون وإرهابيون قتلة وإن كانوا هم القتلى! دعواتهم ليست جديدة وحقدهم خبرناه وعرفناه، ومواقفهم المحاربة لكل معتزّ بدينه وهويته قديمة ولا علاقة لها بما ظهر حديثا من إرهاب، بل هم والإرهاب سواء، فذاك يقتل بالتكفير، وهؤلاء بالقهر والظلم والتحريض على الأبرياء والمسالمين! إرهاب بعضه من بعض، وبعضه يصنع بعض في علاقة جدلية تكاملية يذكّي كل منهما الآخر! وليت الذين جرّموا التكفير في الدستور قد جرموا بنفس القدر اتهام الناس بالإرهاب! إذا استمرت الموائد الحوارية في التلفزة التونسية على هذا المنوال فتوقعوا قريبا أن نرى من يدعو لعودة "بن عليّ" وأجهزته القهرية جهارا نهارا، بعد أن رأينا من يبكي على حل ّ جهاز "أمن الدولة" ويقول بأنه كان الأداة الفاعلة في مقاومة الإرهاب! وهل الإرهاب في أغلب وجوهه وأسبابه إلا هزّة من الهزات الارتدادية ضدّ جهاز أمن الدولة الذي لم يكن يوما أمنا للدولة بقدر ما كان أمنا للأنظمة المستبدة! وهمسة الختام أشفق على الذين بلعوا الطعم واعتبروا أن العلاقة بالشيخ القرضاوي تهمة يتبرؤون منها! سيهزم الإرهاب ولكن بعد أن تجفف منابعه من المستثمرين فيه والممولين له! والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون! طه البعزاوي 19 مارس 2015