ثورات العمّال في هذا الكون يردّ عليها الأعراف بثورات صناعية، قليل من ينتبه إلى هذا.. ثورة عمّال الحرير في "ليون" سنة 1831 وثورة الورشات الوطنية في باريس وغيرها من الثّورات العمّالية في فرنسا أشهرها التي وقعت في سنتي 1934 و 1948، وأخواتها الّتي سواء زامنتها أو سبقتها أو تلتها بسنوات في باقي دول العالم مثل ثورة سكك الحديد في أمريكا سنة 1877، و ثورات العمل بروسيا وألمانيا وأوروبا الشرقية التي تراوحت بين 1905 و 1919 يتّضح أنّ الرّدّ عليها كان بثورات صناعية يكون ثوابها لصالح أرباب العمل.. إذا تتبّعنا كيف أرّخ مفكّرو أواخر القرن الثّامن عشر وأوائل القرن التّاسع عشر وما كتبه مثلا باتريك جيديس, في كتابه تطور المدن (Cities in Evolution) وغيره ممن دوّنوا الثّورتين الصناعيتين، نفهم هذا التّململ في جسم التّاريخ الممتدّ.. ويقول خبراء اليوم نحن على أبواب ثورة صناعية ثالثة.. أو ما يمكن تسميته بثورة "الرّوبوت"، فهل في هذه سنرى أرباب العمل عندما يأتون يزورون مصانعهم سيصافحون روبوات عوض عمال..؟ ربّما ستكون ثورة تردّ على كلّ عامل لا يزال يتمسّك بتلابيب عمله، تسوّل له نفسه باقتطاع اشتراك في نقابة عمّالية تتبنّى همومه.. قد لا يبقى وقتها حلّ أمام عمّال مفرغين روحيا إلاّ الإنتحار على أبواب المصانع وفي أروقة الشّركات مثل ما فعل كثير من موظّفي "فرانس تيليكوم" في فرنسا منذ سنوات.. أكتب هذه المقالة بتاريخ 1 مايو 2015 و هذا يوم العمل، يحتفل به العالم أجمع، في وقت يصل عدد العاطلين عن الشّغل في الأرض حسب المنظمة الدّولية للعمل إلى أكثر 200 مليون شخص قادر ومحتاج للعمل، وأنا شخصيا أشكّك في مصداقية الإحصائية، وأقدّر أنّهم اكثر من ذلك... لكن إذا احتفل العالم بيوم العمل، فمن المفروض أن يحتفل ويفرح بعدّة قيم وإنجازات مربوطة بالعمل، ويقف في هذا اليوم وقفة يقيّم فيها إنجازات الإنسانية في مجال توفير سبل السّعي في الأرض، أو ما نسمّيه معاصرا العمل أو الشّغل لكلّ من يحتاجه.. لكن الحقيقة احتفال العالم المتحظّر هذا، بيوم الشّغل هذا، يأتي بروتوكولا فارغا وديكورا يخفي وراءه الكارثة، وقبل أن أبيّن كيف ذلك من وجهة نظري.. أقول: أنا أتوقّع أن يأتي يوم ويكون الّذي يحتفل بيوم العمل هي الآلة ومعها العرف..!! سأفسّر أكثر رغم أنّ الأمر قد توضّح إلى حدّ ما.. نطلق مصطلح العمل على الحركة الصّحيحة الشّرعية الّتي يقوم بها الإنسان فوق الأرض ليحقّق أسباب عيشه.. ويُعتَقد أنّ العمل هو سبب بقاء الكون وسبب بقاء الإنسان فيه، لذلك، كلّ من يربك حركة العمل ويعطّلها هو يربك تواصل وجود الكون والحياة.. لكن نعلم أنّ الأعراف وأرباب العمل هم الّذين يتحكّمون في وجود الشّغل وهم بالتّالي الّذين يربكونه في غالب الأحيان.. الأعراف في غالب الأحيان هم الّذين يكوّنون الدّول الّتي تقود هذا العالم، وهم الّذين يتحكّمون في حركة المال، والمشاريع.. والأعراف وأرباب العمل همّهم في غالب الأحيان الرّبح والتّسابق في اكتساب الثّروة ومن وراء الثّروة السّلطة الّتي بدورها تقوم بتأمين الثّروة وتنميتها.. والتّكالب على الرّبح يجعل الأعراف يفكّرون في شتّى السّبل للإنتاج بأقل التّكاليف، وفي عصر التكنولوجيا هذا لجأ الأعراف إلى التّعمّق في ابتكار الآلة واختراعها وتوضيفها مكان العامل ليس لزيادة الإنتاج فحسب بل للإستغناء عن اليد العاملة الّتي تكلّفهم جزءا مهمّا من ربحهم.. وهنا تغيب القيم والأخلاق.. فالعَرف الّذي يأتي بآلة لتعوّض مائة عامل مثلا، هو فرح جدّا بما استغنى عنه من عمّال أكثر من فرحه بزيادة وسرعة الإنتاج الّذي تحدثه الآلة، لذلك هو يعرّض الكون للقلاقل مثل إمكانية تململ أو ثورة لأولائك العمّال الّذين فجأة عوّضتهم الآلة الّتي لا تطالب بمرتّب ولا تريد ضمانا اجتماعيا ولا مِنَحا.. لذلك، هنا سؤال يطرح نفسه على العرف الّذي جاء مثلا بآلة تقوم بعمل كان يقوم به عشرة عمّال، وتلك الآلة ضاعفت له الإنتاج مقارنة مع ما كان ينتجه العمّال، السّؤال هو لماذا لا يحتفظ ذلك العرف بعمّاله العشرة، فيحيطون بالآلة ويعتنون بها ويراقبون سير عملها لتتولّى هي الزّيادة والإسراع والإتقان في الإنتاج فيقلّ إجهادهم وتتحسّن حالتهم بتحسّن المنتوج ووفرته..؟؟ أرباب العمل لا يريدون ذلك، أرباب العمل جشعون، همّهم التّخلّص من أكبر عدد من العمّال، أرباب العمل لا خلق لهم، أرباب العمل يخرّبون الكون، فمن ذا الّذي سيمنعهم... وإلى تدوينة أخرى إن شاء الله