عاجل/ بعد الضجة التي أثارتها فيديوات الأطفال في المهرجانات: مندوب حماية الطفولة يفجرها ويحسم..    اللجنة الجهوية للنظافة بولاية تونس توصي بضبط رزنامة وبرنامج عمل للقضاء على النقاط السوداء    عاجل : ثورة رقمية في زرع الأعضاء: تونس تتحرك لإنقاذ الأرواح ...تفاصيل    بطل العالم وفخر تونس أحمد الجوادي يعود بتتويج تاريخي وسط غياب رسمي وصمت حكومي    عاجل/ قرار قضائي بوضع رئيس سابق قيد الاقامة الجبرية..    زلزال بقوة 5.7 درجات يضرب هذه الدولة..#خبر_عاجل    زفيريف ينتفض ليُطيح بحامل اللقب بوبيرين من بطولة كندا المفتوحة للتنس    هام/ وزارة الدفاع تنتدب..    فنان الراب العالمي بلطي يروي قصص الجيل الجديد على ركح مهرجان الحمامات    تثمين الموقع الأثري بطينة: تعاون علمي تونسي فرنسي وجهود ترميم متقدمة    جامع الزيتونة ضمن سجلّ الألكسو للتراث المعماري والعمراني العربي    شنيا الحكاية؟ باحث أمريكي يحذّر من خطر زلزال يهدد تونس والبلدان اللي بجنبها    رد بالك من ماء البلاستيك! سخانة الصيف تطلق سموم خطيرة    موجة حرّ كبيرة في شرق المتوسط جاية بسبب القبة الحرارية...هل تونس معنية؟    بارفان ب5 د و على الطريق ؟ رد بالك تضر صحتك و هذا شنوا يستنى فيك    ارتفاع درجات الحرارة في تونس: نصائح طبية ضرورية لكبار السن خلال الصيف    ماء الكماين خطر....هيئة السلامة الصحية للمنتجات الغذائية تحذر و تنبه التوانسة    ديوكوفيتش يعلن انسحابه من بطولة سينسيناتي الأمريكية للتنس    وزير الشباب والرياضة يُكرّم الجمعيات الرياضية الصاعدة ويؤكد على دعمها وتحسين ظروف عملها    سوسة: سلاحف بحرية مهددة بالاندثار تخرج إلى شاطئ القنطاوي في مشهد نادر    الثلاثاء: البحر مضطرب بهذه السواحل    البحر مضطرب.. السباحة ممكنة لكن يلزم الحذر!    يهم التوانسة...درجات الحرارة هكا باش تكون اليوم وغدوة    حملات لوحدات الشرطة البلدية تسفر عن القيام ب 54 عملية حجز    بنزرت/ حجز 5,45 طن من مادة الدلاع وإعادة ضخها في المسالك القانونية..    قناة السويس ترد على طلب ترامب بشأن المرور المجاني للسفن الأمريكية    عاجل : واشنطن تُلزم بعض المسافرين بكفالة مالية ضخمة لدخول أراضيها    غزة: كندا تسقط مساعدات وتتهم دولة الاحتلال بانتهاك القانون الدولي    قيس سعيّد: التعليم الوطني هو السلاح الحقيقي للتحرّر    اكتشاف علاج واعد لأحد أخطر أنواع سرطان الدم    6 فوائد مذهلة للكمون ستجعلك تتناوله يوميا..    سلطات مالي تعلن تحرير 4 سائقي شاحنات مغاربة    تاريخ الخيانات السياسية (36) ..المعتزّ يقتل المستعين بعد الأمان    المدير الجهوي للتجارة بنابل ل«الشرق» استقرار في التزويد.. وجهود لضبط الأسعار    بلاغ رسمي للملعب التونسي    بنزرت الجنوبية: وفاة 4 أشخاص غرقا في يوم واحد    أخبار النادي الصفاقسي .. حصيلة ايجابية في الوديات.. وتحذير من الغرور    تونس: تجميع أكثر من 11,7 مليون قنطار من الحبوب إلى غاية نهاية جويلية 2025    شبهات التلاعب بالتوجيه الجامعي ..فرقة الجرائم المعلوماتية تلاحق الجناة    ليلة الاثنين: بحر مضطرب بالسواحل الشرقية والشمالية    المنستير: تظاهرة "فنون العرائس على شاطئ روسبينا" في دورتها الثانية بداية من 15 أوت 2025    النجم الساحلي يتعاقد مع الظهير الايسر ناجح الفرجاني    وزير السياحة: سنة 2026 ستكون سنة قرقنة    ماء في الكميونة يعني تسمم وأمراض خطيرة؟ رّد بالك تشرب منو!    التوجيه تحوّل لكابوس: شكون تلاعب بملفات التلامذة؟    أمطار وبَرَدْ دمّرت الموسم: الزيتون والفزدق والتفاح شنيا صار؟!    والد ضحية حفل محمد رمضان يكشف حقيقة "التعويض المالي"..    أحمد الجوادي قصة نجاح ملهمة تشق طريق المجد    سليانة: رفع إجمالي 275 مخالفة اقتصادية خلال شهر جويلية    "روبين بينيت" على ركح مهرجان الحمامات الدولي: موسيقى تتجاوز حدود الجغرافيا وتعانق الحرية    وزارة الأسرة تؤمن مواكبة 1200 طفل من فاقدي السند ومكفولي الوزارة عرض La Sur la route enchantée ضمن الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي    إصابة عضلية تبعد ميسي عن الملاعب ومدة غيابه غير محددة    جريمة مروعة تهز دمشق: مقتل فنانة مشهورة داخل منزلها الراقي    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    تاريخ الخيانات السياسية (35): المنتصر يقتل والده المتوكّل    اعلام من باجة...سيدي بوسعيد الباجي    ما ثماش كسوف اليوم : تفاصيل تكشفها الناسا متفوتهاش !    شائعات ''الكسوف الكلي'' اليوم.. الحقيقة اللي لازم تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض عجائب الثورة فى تونس
نشر في الحوار نت يوم 21 - 05 - 2015

من عجيب أمرهم فى تونس أنهم لايزالون بعد مضى أربع سنوات على الثورة يتصارعون بالكلمات وليس باللكمات، كما ان شبابها لايزالون يحلمون.
(1)
يوم 10 ماي الحالى كانت عناوين صحيفة «الصباح» كالتالى: الاحتقان يبلغ أقصاه فى «الغوار» اعتداءات على الأمنيين والصحفيين انسحاب الأمن كليا من المنطقة وتوجيه تعزيزات عسكرية. جريدة «الشروق» تحدثت فى عناوينها عن «حرق مركز الأمن ومواجهات بالرصاص والغاز» وفى اليوم التالى تحدثت عن «عصيان مدنى والحرس الحدودى والجيش يتدخلون». وفى حين ظلت صحف الصباح تتحدث عن انتفاضة الجنوب ضد الفقر والتهميش، فإن حوارات البرامج التليفزيونية المسائية كانت تحلل ما جرى وتحذر من تداعيات الغضب الشعبى الذى انفجر فى الجنوب المهمل. أما مواقع التواصل الاجتماعى فقد كان صوت الغضب فيها عاليا، لان الجنوبيين هم الذين كانوا يتحدثون بصورة مباشرة. ومن الشعارات التى رفعوها على لافتات ذاعت صورها عبارات من قبيل: شغل حرية كرامة وطنية، ثورتنا ليست إشاعة، التشغيل استحقاق يا عصابة السراق.
كان ذلك أول ما صادفته يوم وصلت إلى العاصمة التونسية. حاولت ان أفهم لانها كانت المرة الأولى التى سمعت فيها اسم مدينة «الفوار»، فقيل لى انها إحدى بلديات ولاية القبلى الجنوبية، وان عدد سكانها يبلغ نحو 20 ألف نسمة، ورغم انها مقر عدد من الشركات البترولية، إلا أن سكانها يشكون من الإهمال ومن تفشى البطالة، ومطالبهم تتركز فى كلمتين هما: الشغل والتنمية.
لم تكن هذه هى الأزمة الوحيدة التى طفت على السطح، لان أزمة أخرى ليست أقل حدة لاحت فى الأفق. إذ إن الإضرابات العمالية أدت إلى وقف إنتاج الفوسفات (يسمونه الفسفاط) الذى يعتبرونه نفط تونس، وقد توسعت فى إنتاجه حتى أصبحت الدولة الخامسة على مستوى العالم المنتجة له. وكان العمال قد قللوا من إنتاجه، وهبطوا به إلى نسبة 30٪ عن معدلاته العادية (8 ملايين طن سنويا فى المتوسط). ولكنهم فى بداية الشهر الحالى أوقفوا الإنتاج تماما، لأول مرة منذ بدأ إنتاجيته فى ثلاثينيات القرن الماضى.
أضف إلى ما سبق أن السياحة فى تونس التى تمثل موردا أساسيا لها تراجعت بعد الثورة، ثم أصيبت بانتكاسة بعد الهجوم الإرهابى على متحف «باردو» خلال شهر مارس الماضى الذى أسفر عن قتل 22 شخصا بينهم 18 سائحا، حينئذ ستدرك لماذا أصبح الاقتصاد يحتل رأس قائمة هموم تونس الجديدة.
(2)
إذ تبدو الأزمة عنوانا للشارع العادى، فإن المرء لا يكاد يرفع البصر عنها حتى يكتشف أنها عنوان للشارع السياسى أيضا. وفى حين يعبر الشارع العادى عن أزمته من خلال المظاهرات أو الصدامات التى تحدث بين الحين والآخر، فإن أزمة الشارع السياسى تحولت إلى خبز يومى يطل على الفضاء التونسى صباح مساء. صحيح ان الهاجس الأمنى وعمليات المجموعات الإرهابية تلوح فى الأفق طول الوقت، كما ان الانفلات الحاصل فى الجارة ليبيا تحول إلى عنصر ضاغط على الاقتصاد والأمن لا يمكن تجاهله، خصوصا بعدما وصل عدد الليبيين النازحين إلى مايزيد على مليون ونصف المليون شخص (كل سكان تونس بحدود 12 مليون نسمة)، إلا أن هذين الموضوعين (الإرهاب والليبيين النازحين) ليسا من عناوين الصراع، وان ظلا جزءا من الأزمة.
لا يستغرب الصراع السياسى فى بلد محدود السكان دخل كل أهله فى السياسة بعد ثورة 2011، وبعد ان كان عدد أحزابه سبعة والسلطة فيه محتكرة قبل الثورة، فقد صار عدد الأحزاب 120، وصارت فرصة تداول السلطة مفتوحة على مصارعها بعد الثورة. وإذ يحسب للثورة انها استنفرت الجميع وأدخلتهم إلى حلبة السياسة، فإن الظاهرة الأهم ان صراع المتنافسين رغم شراسته ظل مدنيا وسلميا طول الوقت. أعنى ان القوى المدنية هى التى تنافست فى ساحاته، فى حين ظلت المؤسسة العسكرية والأمنية بعيدة عنه، فلم تنتصر لطرف ضد آخر، وإنما مضت تؤدى دورها فى الحفاظ على القانون والنظام العام. ولان الأمر كذلك فإن أدوات الصراع ظلت فى الحدود الآمنة. ذلك انها احتفظت بطابع الاشتباك والحوار بالكلمات وليس باللكمات، على حد تعبير الرئيس السابق الدكتور المنصف المرزوقى، ورغم ما تخللته من خشونة وتجاذبات وكيد، فلم تسقط فيه نقطة دم ولم تظهر فيه آيات القمع والقهر وذلك انجاز كبير لاريب. وإذا كان قد تم اغتيال اثنين من النشطاء السياسيين إضافة إلى بعض الجنود فى المناطق الحدودية، فقد عد ذلك استثناء ينسب إلى الجماعات الإرهابية الخارجة على القانون وليس إلى القوى السياسية المعترف بشرعيتها.
هذه المعانى التى يختزنها الوافد إلى تونس، ويحسد عليها التوانسة فى سره، تكاد تتوه وتطمس حين يجد المرء نفسه واقفا وسط أنواء الشارع السياسى، ومستدرجا إلى الدخول فى التفاصيل التى تشكل طنينا يصم الآذان وتملأ أصداؤه الأفق.
(3)
الصراع الحاصل تدور رحاه فى ثلاثة فضاءات. الأول يتمثل فى الشارع الذى تحركه النقابات بالدرجة الأولى، الثانى مجلس النواب الذى تمثل فيه الأحزاب ويتمتع فيه بحضور قوى حزبا نداء تونس (86 مقعدا) وحركة النهضة (69 مقعدا). الفضاء الثالث الأكبر والأخطر تمثله وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة. لذلك فإنها تعد مرآة عاكسة لموضوعات الصراع ولاطرافه. وهذه مسألة مهمة تحتاج إلى تحرير.
ذلك ان الباحث حين يتابع أداء الإعلام التونسى لا يستطيع أن يتجاهل انه بات يمثل القوة الضاربة التى يجرى الرهان عليها فى محاولات حسم الصراع. مع ملاحظة ان ذلك الصراع تشارك فيه أطراف عدة، فعناصر النظام القديم لاتزال حاضرة، ممثلة على الأقل فى عناصر حزب التجمع الدستورى الذى جرى حله بحكم القضاء بعد الثورة، باعتباره ينتمى إلى النظام السابق. وهذه العناصر لديها رصيدها من الخبرة والامكانيات المادية. التى جعلته يمثل الطرف الأساسى والفاعل فى حزب نداء تونس الذى جرى تشكيله بقيادة السيد قايد السبسى وفاز بأغلبية الأصوات فى الانتخابات التشريعية التى تمت فى شهر نوفمبر الماضى. والتجمعيون هؤلاء يحملون إرث وتطلعات النظام السابق الذى لايزال يسعى لاسترداد مواقعه. ولان تشكيلة نداء تونس ضمت إلى جانب هؤلاء بعض قوى اليسار إضافة إلى شخصيات وطنية مستقلة. فقد كان لكل طرف هدفه من الانخراط فى التحالف، وان التقى الجميع على عاملين، أولهما مخاصمة حركة النهضة ومحاولة اقصائها بعد فوزها بالأغلبية فى أول انتخابات بعد الثورة (عام 2011).
الأمر الثانى هو شخصية القايد السبسى الذى طرح صيغة جامعة لإقامة الحزب جذبت تلك العناصر. ولان حركة النهضة احتلت المركز الثانى فى عدد المقاعد التى فازت بها فى الانتخابات الأخيرة (69 مقعدا) فلم يكن بمقدور حزب نداء تونس ان يحكم دون التوصل إلى تفاهم مع قيادة النهضة، وهذا ما حدث. ورغم انه أدى إلى تأييد مجلس النواب للحكومة، إلا أنه أحدث شرخا قويا داخل حزب نداء تونس، خصوصا من جانب الطرف اليسارى الذى كانت مراهنته على إقصاء النهضة من المشهد السياسى برمته، وليس إسقاط حكومته فقط.
إزاء ذلك، فإذا كان الشارع العادى مشغولا بالتنمية وتفاقم البطالة وتردى الخدمات العامة، فإن المعركة الأساسية للشارع السياسى ظلت تدور حول العلاقة مع حركة النهضة، التى تحالف فيها اليسار مع غلاة العلمانيين وأركان النظام السابق. وانحاز ممثلو اليسار إلى فكرة المخاصمة والإقصاء الكلى، فى حين رفض الآخرون مبدأ المشاركة أو التفاهم معها اقتناعا بعدم امكانية أو جدوى الاقصاء.
اللافت للنظر فى هذا الصدد ان الأطراف الخارجية تدخلت فى ذلك الصراع من أبواب مختلفة وهو ما كشفت عنه الممارسة خلال السنتين الأخيرتين بوجه أخص. وفيما فهمت من المطلعين على كواليس اللعبة السياسية فإن دول الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة شجعت وأيدت مشاركة حركة النهضة فى السلطة، ولم تحبذ انفرادها بتولى السلطة. وكانت ألمانيا أكثر الدول التى عبرت عن ذلك الاتجاه. أما فرنسا فكانت أقلها حماسا للمشاركة فى السلطة، وبدت أكثر ميلا لاقصائها من المشهد السياسى وان لم تعلن ذلك صراحة.
وفى حين كانت رسائل تلك الدول سياسية بالدرجة الأولى، فإن دولة الإمارات العربية ألقت بثقل مادى وتمويلى كبير لإقصاء النهضة. وبشهادة العاملين فى المجال الإعلامى فإنها ضخَت ملايين الدولارات لشراء تأييد بعض القنوات التليفزيونية والصحف والشخصيات العامة، كما انها قدمت إغراءات مماثلة لرجال الأعمال النافذين الذين أصبحوا يؤدون أدوارا سياسية من خلال ملكية وسائل الإعلام، فضلا عن بعض النوادى الرياضية. ويمتلئ الشارع السياسى بحكايات حول الدور التمويلى للإمارات الذى استهدف إقصاء الإسلام السياسى. هم يستشهدون مثلا بإحدى القنوات كانت على وشك الإفلاس ثم تلقت تمويلا مكنها فجأة من امتلاك 4 قنوات. يتحدثون أيضا عن عرض تفصيلى قدمه مبعوث خليجى على رئيس إحدى القنوات حدد فيه المبالغ المقترحة مقابل كل انجاز يتحقق، ليس فقط فى الساحة التونسية ولكن أيضا فى تغطية الصراع الحاصل فى ليبيا. وثمة لغط حول مبالغ إماراتية دفعت لتغطية نفقات تعليم بنات أحد قادة اليسار البارزين فى فرنسا، ذلك غير الاغداق متعدد الصور الذى قدم إلى حزب نداء تونس للحفاظ على تماسكه والحيلولة ضد انفراطه.
(4)
يعود المرء من تونس وفى جعبته الكثير من التفاصيل المتعلقة بالصراعات الحاصلة هناك، بدءا بتصفية حسابات وأوضاع النظام القديم، وانتهاء بمحاولة القفز فوق الألغام والأشواك التى تعترض طريق إقامة النظام الجديد. ومرورا بمظاهر غضب وقلق شباب الثورة الذين أزعجهم فوز نداء تونس. وأقلقهم تفاهم حركة النهضة مع الرئيس السبسى. وتخوفهم من حملات الإرهابيين التى تفاجئهم من صحارى الشرق وجبال الغرب. كما أنهم يتوجسون من زحف الثورة المضادة التى تحاول حصار ثورتهم وإجهاضها.
لأول وهلة تبدو صورة التجربة التونسية من الخارج أفضل منها فى الداخل. وهو ما لاحظته حين تحدثت إلى بعض الشباب الذين قلت لهم ان الثورة التونسية هى الوحيدة التى نجت من إعصار الثورة المضادة بحيث لم تفقد وهجها وحلمها إلى الان. بعكس تجارب أخرى انطفأ فيها الوهج وتحول الحلم إلى كابوس. لكن استغراقهم فى التفاصيل وتعلقهم بالحلم جعلهم يتعجلون الثمار ولا يرون فى الكوب إلا نصفه الفارغ وفى التجربة إلا ما شابها من قصور وتعثر أو اخفاق.
نصيحتى التى كررتها لهم فى كل مناسبة كانت دعوة ملحة لقراءة خبرة الثورات الشعبية على مر التاريخ، التى مرت جميعها بأكثر وأفدح مما مروا به، وكان الثمن الذى دفعته للانتقال إلى الديمقراطية باهظا وصل إلى الحروب الأهلية فى بعض الأحيان. ورغم تحفظاتى على انتقاداتهم إلا أننى لم أخف اعجابا بهم، على الأقل لأنهم لايزالون يأملون ويحلمون.
- See more at: http://www.achahed.com/%d9%81%d9%87%d9%85%d9%8a-%d9%87%d9%88%d9%8a%d8%af%d9%8a-%d9%8a%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%a8%d8%b9%d8%b6-%d8%b9%d8%ac%d8%a7%d8%a6%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d9%81%d9%89-%d8%aa%d9%88%d9%86.html#sthash.wBHdC9pg.dpuf
من عجيب أمرهم فى تونس أنهم لايزالون بعد مضى أربع سنوات على الثورة يتصارعون بالكلمات وليس باللكمات، كما ان شبابها لايزالون يحلمون.
(1)
يوم 10 ماي الحالى كانت عناوين صحيفة «الصباح» كالتالى: الاحتقان يبلغ أقصاه فى «الغوار» اعتداءات على الأمنيين والصحفيين انسحاب الأمن كليا من المنطقة وتوجيه تعزيزات عسكرية. جريدة «الشروق» تحدثت فى عناوينها عن «حرق مركز الأمن ومواجهات بالرصاص والغاز» وفى اليوم التالى تحدثت عن «عصيان مدنى والحرس الحدودى والجيش يتدخلون». وفى حين ظلت صحف الصباح تتحدث عن انتفاضة الجنوب ضد الفقر والتهميش، فإن حوارات البرامج التليفزيونية المسائية كانت تحلل ما جرى وتحذر من تداعيات الغضب الشعبى الذى انفجر فى الجنوب المهمل. أما مواقع التواصل الاجتماعى فقد كان صوت الغضب فيها عاليا، لان الجنوبيين هم الذين كانوا يتحدثون بصورة مباشرة. ومن الشعارات التى رفعوها على لافتات ذاعت صورها عبارات من قبيل: شغل حرية كرامة وطنية، ثورتنا ليست إشاعة، التشغيل استحقاق يا عصابة السراق.
كان ذلك أول ما صادفته يوم وصلت إلى العاصمة التونسية. حاولت ان أفهم لانها كانت المرة الأولى التى سمعت فيها اسم مدينة «الفوار»، فقيل لى انها إحدى بلديات ولاية القبلى الجنوبية، وان عدد سكانها يبلغ نحو 20 ألف نسمة، ورغم انها مقر عدد من الشركات البترولية، إلا أن سكانها يشكون من الإهمال ومن تفشى البطالة، ومطالبهم تتركز فى كلمتين هما: الشغل والتنمية.
لم تكن هذه هى الأزمة الوحيدة التى طفت على السطح، لان أزمة أخرى ليست أقل حدة لاحت فى الأفق. إذ إن الإضرابات العمالية أدت إلى وقف إنتاج الفوسفات (يسمونه الفسفاط) الذى يعتبرونه نفط تونس، وقد توسعت فى إنتاجه حتى أصبحت الدولة الخامسة على مستوى العالم المنتجة له. وكان العمال قد قللوا من إنتاجه، وهبطوا به إلى نسبة 30٪ عن معدلاته العادية (8 ملايين طن سنويا فى المتوسط). ولكنهم فى بداية الشهر الحالى أوقفوا الإنتاج تماما، لأول مرة منذ بدأ إنتاجيته فى ثلاثينيات القرن الماضى.
أضف إلى ما سبق أن السياحة فى تونس التى تمثل موردا أساسيا لها تراجعت بعد الثورة، ثم أصيبت بانتكاسة بعد الهجوم الإرهابى على متحف «باردو» خلال شهر مارس الماضى الذى أسفر عن قتل 22 شخصا بينهم 18 سائحا، حينئذ ستدرك لماذا أصبح الاقتصاد يحتل رأس قائمة هموم تونس الجديدة.
(2)
إذ تبدو الأزمة عنوانا للشارع العادى، فإن المرء لا يكاد يرفع البصر عنها حتى يكتشف أنها عنوان للشارع السياسى أيضا. وفى حين يعبر الشارع العادى عن أزمته من خلال المظاهرات أو الصدامات التى تحدث بين الحين والآخر، فإن أزمة الشارع السياسى تحولت إلى خبز يومى يطل على الفضاء التونسى صباح مساء. صحيح ان الهاجس الأمنى وعمليات المجموعات الإرهابية تلوح فى الأفق طول الوقت، كما ان الانفلات الحاصل فى الجارة ليبيا تحول إلى عنصر ضاغط على الاقتصاد والأمن لا يمكن تجاهله، خصوصا بعدما وصل عدد الليبيين النازحين إلى مايزيد على مليون ونصف المليون شخص (كل سكان تونس بحدود 12 مليون نسمة)، إلا أن هذين الموضوعين (الإرهاب والليبيين النازحين) ليسا من عناوين الصراع، وان ظلا جزءا من الأزمة.
لا يستغرب الصراع السياسى فى بلد محدود السكان دخل كل أهله فى السياسة بعد ثورة 2011، وبعد ان كان عدد أحزابه سبعة والسلطة فيه محتكرة قبل الثورة، فقد صار عدد الأحزاب 120، وصارت فرصة تداول السلطة مفتوحة على مصارعها بعد الثورة. وإذ يحسب للثورة انها استنفرت الجميع وأدخلتهم إلى حلبة السياسة، فإن الظاهرة الأهم ان صراع المتنافسين رغم شراسته ظل مدنيا وسلميا طول الوقت. أعنى ان القوى المدنية هى التى تنافست فى ساحاته، فى حين ظلت المؤسسة العسكرية والأمنية بعيدة عنه، فلم تنتصر لطرف ضد آخر، وإنما مضت تؤدى دورها فى الحفاظ على القانون والنظام العام. ولان الأمر كذلك فإن أدوات الصراع ظلت فى الحدود الآمنة. ذلك انها احتفظت بطابع الاشتباك والحوار بالكلمات وليس باللكمات، على حد تعبير الرئيس السابق الدكتور المنصف المرزوقى، ورغم ما تخللته من خشونة وتجاذبات وكيد، فلم تسقط فيه نقطة دم ولم تظهر فيه آيات القمع والقهر وذلك انجاز كبير لاريب. وإذا كان قد تم اغتيال اثنين من النشطاء السياسيين إضافة إلى بعض الجنود فى المناطق الحدودية، فقد عد ذلك استثناء ينسب إلى الجماعات الإرهابية الخارجة على القانون وليس إلى القوى السياسية المعترف بشرعيتها.
هذه المعانى التى يختزنها الوافد إلى تونس، ويحسد عليها التوانسة فى سره، تكاد تتوه وتطمس حين يجد المرء نفسه واقفا وسط أنواء الشارع السياسى، ومستدرجا إلى الدخول فى التفاصيل التى تشكل طنينا يصم الآذان وتملأ أصداؤه الأفق.
(3)
الصراع الحاصل تدور رحاه فى ثلاثة فضاءات. الأول يتمثل فى الشارع الذى تحركه النقابات بالدرجة الأولى، الثانى مجلس النواب الذى تمثل فيه الأحزاب ويتمتع فيه بحضور قوى حزبا نداء تونس (86 مقعدا) وحركة النهضة (69 مقعدا). الفضاء الثالث الأكبر والأخطر تمثله وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة. لذلك فإنها تعد مرآة عاكسة لموضوعات الصراع ولاطرافه. وهذه مسألة مهمة تحتاج إلى تحرير.
ذلك ان الباحث حين يتابع أداء الإعلام التونسى لا يستطيع أن يتجاهل انه بات يمثل القوة الضاربة التى يجرى الرهان عليها فى محاولات حسم الصراع. مع ملاحظة ان ذلك الصراع تشارك فيه أطراف عدة، فعناصر النظام القديم لاتزال حاضرة، ممثلة على الأقل فى عناصر حزب التجمع الدستورى الذى جرى حله بحكم القضاء بعد الثورة، باعتباره ينتمى إلى النظام السابق. وهذه العناصر لديها رصيدها من الخبرة والامكانيات المادية. التى جعلته يمثل الطرف الأساسى والفاعل فى حزب نداء تونس الذى جرى تشكيله بقيادة السيد قايد السبسى وفاز بأغلبية الأصوات فى الانتخابات التشريعية التى تمت فى شهر نوفمبر الماضى. والتجمعيون هؤلاء يحملون إرث وتطلعات النظام السابق الذى لايزال يسعى لاسترداد مواقعه. ولان تشكيلة نداء تونس ضمت إلى جانب هؤلاء بعض قوى اليسار إضافة إلى شخصيات وطنية مستقلة. فقد كان لكل طرف هدفه من الانخراط فى التحالف، وان التقى الجميع على عاملين، أولهما مخاصمة حركة النهضة ومحاولة اقصائها بعد فوزها بالأغلبية فى أول انتخابات بعد الثورة (عام 2011).
الأمر الثانى هو شخصية القايد السبسى الذى طرح صيغة جامعة لإقامة الحزب جذبت تلك العناصر. ولان حركة النهضة احتلت المركز الثانى فى عدد المقاعد التى فازت بها فى الانتخابات الأخيرة (69 مقعدا) فلم يكن بمقدور حزب نداء تونس ان يحكم دون التوصل إلى تفاهم مع قيادة النهضة، وهذا ما حدث. ورغم انه أدى إلى تأييد مجلس النواب للحكومة، إلا أنه أحدث شرخا قويا داخل حزب نداء تونس، خصوصا من جانب الطرف اليسارى الذى كانت مراهنته على إقصاء النهضة من المشهد السياسى برمته، وليس إسقاط حكومته فقط.
إزاء ذلك، فإذا كان الشارع العادى مشغولا بالتنمية وتفاقم البطالة وتردى الخدمات العامة، فإن المعركة الأساسية للشارع السياسى ظلت تدور حول العلاقة مع حركة النهضة، التى تحالف فيها اليسار مع غلاة العلمانيين وأركان النظام السابق. وانحاز ممثلو اليسار إلى فكرة المخاصمة والإقصاء الكلى، فى حين رفض الآخرون مبدأ المشاركة أو التفاهم معها اقتناعا بعدم امكانية أو جدوى الاقصاء.
اللافت للنظر فى هذا الصدد ان الأطراف الخارجية تدخلت فى ذلك الصراع من أبواب مختلفة وهو ما كشفت عنه الممارسة خلال السنتين الأخيرتين بوجه أخص. وفيما فهمت من المطلعين على كواليس اللعبة السياسية فإن دول الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة شجعت وأيدت مشاركة حركة النهضة فى السلطة، ولم تحبذ انفرادها بتولى السلطة. وكانت ألمانيا أكثر الدول التى عبرت عن ذلك الاتجاه. أما فرنسا فكانت أقلها حماسا للمشاركة فى السلطة، وبدت أكثر ميلا لاقصائها من المشهد السياسى وان لم تعلن ذلك صراحة.
وفى حين كانت رسائل تلك الدول سياسية بالدرجة الأولى، فإن دولة الإمارات العربية ألقت بثقل مادى وتمويلى كبير لإقصاء النهضة. وبشهادة العاملين فى المجال الإعلامى فإنها ضخَت ملايين الدولارات لشراء تأييد بعض القنوات التليفزيونية والصحف والشخصيات العامة، كما انها قدمت إغراءات مماثلة لرجال الأعمال النافذين الذين أصبحوا يؤدون أدوارا سياسية من خلال ملكية وسائل الإعلام، فضلا عن بعض النوادى الرياضية. ويمتلئ الشارع السياسى بحكايات حول الدور التمويلى للإمارات الذى استهدف إقصاء الإسلام السياسى. هم يستشهدون مثلا بإحدى القنوات كانت على وشك الإفلاس ثم تلقت تمويلا مكنها فجأة من امتلاك 4 قنوات. يتحدثون أيضا عن عرض تفصيلى قدمه مبعوث خليجى على رئيس إحدى القنوات حدد فيه المبالغ المقترحة مقابل كل انجاز يتحقق، ليس فقط فى الساحة التونسية ولكن أيضا فى تغطية الصراع الحاصل فى ليبيا. وثمة لغط حول مبالغ إماراتية دفعت لتغطية نفقات تعليم بنات أحد قادة اليسار البارزين فى فرنسا، ذلك غير الاغداق متعدد الصور الذى قدم إلى حزب نداء تونس للحفاظ على تماسكه والحيلولة ضد انفراطه.
(4)
يعود المرء من تونس وفى جعبته الكثير من التفاصيل المتعلقة بالصراعات الحاصلة هناك، بدءا بتصفية حسابات وأوضاع النظام القديم، وانتهاء بمحاولة القفز فوق الألغام والأشواك التى تعترض طريق إقامة النظام الجديد. ومرورا بمظاهر غضب وقلق شباب الثورة الذين أزعجهم فوز نداء تونس. وأقلقهم تفاهم حركة النهضة مع الرئيس السبسى. وتخوفهم من حملات الإرهابيين التى تفاجئهم من صحارى الشرق وجبال الغرب. كما أنهم يتوجسون من زحف الثورة المضادة التى تحاول حصار ثورتهم وإجهاضها.
لأول وهلة تبدو صورة التجربة التونسية من الخارج أفضل منها فى الداخل. وهو ما لاحظته حين تحدثت إلى بعض الشباب الذين قلت لهم ان الثورة التونسية هى الوحيدة التى نجت من إعصار الثورة المضادة بحيث لم تفقد وهجها وحلمها إلى الان. بعكس تجارب أخرى انطفأ فيها الوهج وتحول الحلم إلى كابوس. لكن استغراقهم فى التفاصيل وتعلقهم بالحلم جعلهم يتعجلون الثمار ولا يرون فى الكوب إلا نصفه الفارغ وفى التجربة إلا ما شابها من قصور وتعثر أو اخفاق.
نصيحتى التى كررتها لهم فى كل مناسبة كانت دعوة ملحة لقراءة خبرة الثورات الشعبية على مر التاريخ، التى مرت جميعها بأكثر وأفدح مما مروا به، وكان الثمن الذى دفعته للانتقال إلى الديمقراطية باهظا وصل إلى الحروب الأهلية فى بعض الأحيان. ورغم تحفظاتى على انتقاداتهم إلا أننى لم أخف اعجابا بهم، على الأقل لأنهم لايزالون يأملون ويحلمون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.