مع عودة التحكيم الأجنبي.. تعيينات حكام الجولة 5 "بلاي أوف" الرابطة الاولى    استقالة متحدثة من الخارجية الأميركية احتجاجا على حرب غزة    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    ماذا في لقاء سعيد برئيسة اللجنة الوطنية الصلح الجزائي..؟    أخبار المال والأعمال    سليانة .. رئس الاتحاد الجهوي للفلاحة ...الثروة الغابية تقضي على البطالة وتجلب العملة الصعبة    وزير السّياحة: تشجيع الاستثمار و دفع نسق إحداث المشاريع الكبرى في المجال السّياحي    «الشروق» ترصد فاجعة قُبالة سواحل المنستير والمهدية انتشال 5 جُثث، إنقاذ 5 بحّارة والبحث عن مفقود    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    زيتونة.. لهذه الاسباب تم التحري مع الممثل القانوني لإذاعة ومقدمة برنامج    لدى لقائه فتحي النوري.. سعيد يؤكد ان معاملاتنا مع المؤسسات المالية العالمية لابد ان يتنزل في اختياراتنا الوطنية    اليابان تُجْهِزُ على حلم قطر في بلوغ أولمبياد باريس    سوسة.. دعوة المتضررين من عمليات "براكاجات" الى التوجه لإقليم الأمن للتعرّف على المعتدين    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    حركة النهضة تصدر بيان هام..    بالثقافة والفن والرياضة والجامعة...التطبيع... استعمار ناعم    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تراجع الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    وزارة التعليم العالي: تونس تحتل المرتبة الثانية عربيًّا من حيث عدد الباحثين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    وزير الشباب والرياضة يستقبل اعضاء فريق مولدية بوسالم    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    سفينة حربية يونانية تعترض سبيل طائرتين مسيرتين للحوثيين في البحر الأحمر..#خبر_عاجل    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها الأول على الملاعب الترابية منذ 2022    كاس رابطة ابطال افريقيا (اياب نصف النهائي- صان داونز -الترجي الرياضي) : الترجي على مرمى 90 دقيقة من النهائي    هام/ بشرى سارة للمواطنين..    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحج بين منافع أهدرناها ومعاسر فرضناها
نشر في الحوار نت يوم 27 - 08 - 2015

يتهيأ الحجاج من كل عام في مثل هذا الشهر الحرام ذي القعدة إلى شد الرحال إلى الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها إلا واحدة منها هي علينا محرمة بقرار دولي منذ 1948 إنفاذا لخطة مؤتمر بازل 1897 فرضخنا ثم طبعنا ثم تواصينا بتجريم المقاومة أصلا إلا قليلا ممن ظل يحبس أنين المقاومة في صدره وربما نتهيأ في أيام قابلات لخلع هذه الثالثة من الحديث النبوي أصلا لنريح ونستريح.
وبهذه المناسبة فإني أكتب هذه الكلمات.

1 لا ثواب لعبادة إلا بقدر تلبيتها لمقصدها.
من نكد الزمان اليوم أن يلقى مثل هذا بين الناس بل بين المنسوبين إلى العلم والمحسوبين على الفقه نفورا وما ذاك سوى لما آلت إليه عباداتنا من حركات تقليدية ورثناها عفوا من منافعها الدنيوية ولقد قيض سبحانه للقرن الخامس رجلا وضع مشروعه الإحيائي لمقاومة هذه البدعة : إفراغ العبادة من مضمونها المقاصدي الحي لتظل شكلانية وهو حجة الإسلام الغزالي 505 أحد الثلاثة الذين يفخر بهم تراثنا من بعد إبن رشد وإبن خلدون. فهل تقيض لعصرنا اليوم نظير له وقد آلت العبادة فينا إلى ما هو أشقى ربما.
يكفيك دليلا على ذلك أنه سبحانه أبى إلا أن يرهن كل عبادة بمقصدها الكلي فما إنفكت عن ذلك الصلاة ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) ولا الزكاة ( تطهرهم وتزكيهم بها) ولا الصيام ( لعلكم تتقون ) ولا الحج ( ليشهدوا منافع لهم ). فهل يتحامق بعد ذلك متحامق ينكر إرتهان العبادة بمقصدها المنصوص وهل يجادل دعي ليفك الإرتباط في الأجر والثواب غدا بين الأداء وبين أيلولته للغاية منه أو في المنفعة الدنيوية العاجلة بينهما؟
الدين والدنيا صنوان من مشكاة واحدة فما ينطبق على هذه ينسحب على ذاك. إذا كان هناك منا من يرضى أن يظل عاملا لساعات في يومه في أي حقل كان فلا يظفر في آخر اليوم بمكافأة مادية أو معنوية تجعل لكدحه ذاك معنى وقيمة .. إذا كان هناك منا من يرضى بذلك على مدار حياته فلا جناح علينا بل عليه وحده أن نؤدي عباداتنا منزوعة الدسم القيمي إذ هي لا تحقق لنا منافع عاجلة ولا يرجى منها تبعا لذلك ثواب من بعد الموت.
حتى الحقل العقدي التوحيدي الخالص معلل مقصد بجلب المنفعة إذ أننا نعبده وحده سبحانه لنعمه التي دعا قريشا إلى تأملها بما يدفعهم إلى عبادته :" فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ". لو كان هناك غيره بالأمس واليوم وغدا من يفعل ذلك ورب الكعبة الأعظم ما عبدته يوما ولا سجدت له ولا ركعت ولا بحمده سبحت.

2 النصوص وحدها لا تحقق المقصد منها ومثلها تنفيذها.
لنقصر الحديث على عبادة الحج أن ينداح الكلام إندياحا يتأبى من بعده عن اللجام والفطام. فمن طاف مثلا بالبيت العتيق ولم يدرك من قبل الطواف وفي أثنائه ومن بعده أن بطل عبادة الحج في القرآن الكريم هو إبراهيم عليه السلام وهو بطل قصة التوحيد الخالص كذلك فيه وأن إبراهيم هذا نفسه عليه السلام هو من يكون بطل المقاومة فيه كذلك ضد النمرودية بمثل ما كان موسى عليه السلام ضد الفرعونية وأنه هو نفسه كذلك عليه السلام أي إبراهيم بطل الذكاء الدعوي والحكمة في الحوار سواء عندما حطم الأصنام الصغيرة ليبقي على كبيرها درسا موجعا لخصومه أو عندما قدم حياة الإنسان الذي أراد النمرود قتله ليلجئه إلى قارعة طبيعية : من يأتي بالشمس من المشرق .. من طاف بالبيت العتيق ولم يدرك ذلك أو جزء منه على الأقل .. هل أدرك هذا من خلوص التوحيد الصافي شيئا؟ هل يجمع هذا الطائف الذي يتبع ملة إبراهيم عليه السلام بين المثلث الإبراهيمي الكفيل بجعل الإيمان منفعة في الدنيا أي نبذ كل طائفة شرك وشائبة وثنية مهما تك صغيرة حقيرة باطنة والتقوي في المقاومة بالذكاء والحكمة وليس بالحماقة والجهل والجمع بين التوحيد العقدي الديني وبين التوحيد السياسي ... ومن طاف بالبيت العتيق فلم يتدبر أن حركته الدائرية هي كذلك لأن الحركة الدائرية هي الحركة الهندسية الوحيدة التي لا تنتهي فلا ينتهي التوحيد نفسه ومن زعم يوما أنه بلغ سدرة المنتهى في التنزيه الإلهي وبأي مدرسة كلامية شاء فهو المغرور حقا وإنما نكلف من ذا بما تقوى عليه عقولنا ونتعبده سبحانه في غير ذلك بالظن سيما إذا غلب نبذا للوهدة التي وحل فيها الإسرائيليون أنفسهم وهم يبدؤون ويعيدون في شأن البقرة التي باء الفكاك منها بالكشف عن السفاح الذي نسجوا خيوط العنكبوت على سفاحته. ومن طاف بالبيت العتيق ثم إستند إليه يحت من ترابه وحجره وطينه ما به يمسح على جلده أو يرجع به إلى أهل بيته وقد عاينت هذا رأي العين والله .. من فعل ذلك لا ريب في إتيانه لعمل شركي من الصنف الأثيم المغلظ الممقوت والله وحده أعلم بما تحقق له من تنزيه يليق بمن قال عن نفسه سبحانه :" ليس كمثله شيء ".

ومثله من طاف بالبيت العتيق يحطم الضعفة من النساء والشيوخ لا يبالي أن يرفسهم بقدميه ظامئا إلى الحجر الأسود. ألا يذكر هذا بإحدى أعظم القالات في التدين الراشدي لصاحبها الفاروق الأكبر عليه الرضوان :" إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيته عليه السلام يقبلك ما قبلتك ". الله سبحانه لا يثيب هذا على مثل ذاك بل ربما يعرضه للعقوبة لأنه صرم ميزان الإسلام فقدم نفسه وأخر الناس بل لأنه كبر حجرا وصغر إنسانا.
ومثله الساعي والسعي ركن مركون بين جبلي الصفا والمروة. فمن سعى مستمتعا بظل ظليل وارف غافلا عن سبب سعيه وعما لاقته هاجر العظيمة وكبدها الحرى توشك أن تفقأ لفرط الخوف على فلذتها إسماعيل وهو كزغب حواصل الطير ولفرط اللظى الهاجر وهو يبطش بها ويحيل الأرض من تحت قدميها سعيرا مستطيرا... من سعى كذلك أنى له بتذوق حلاوة سعيه وطعم حجه؟ مثله مثل من يرقب الإضحى ليأكل لحما طريا ويدخر مثله قديدا غافلا عن أن المذبوح الأصلي شاب في مقتبل العمر يجهز عليه أبوه بمديته لرؤيا رآها وقد بلغ معه السعي وليس له في الدنيا الموارة سواه. ثم نتبجح مع أنفسنا والناس أننا ضحينا بكبش أقرن ألين مليح. هذا فارق الزمان فهمناه وهذا فارق الأرض علمناه ولكن أنى لنا أن نقبل فارق العقل بين سلف وبين خلف؟

3 الحج الرمزية.
ذاك ما وعاه قلبي متدبرا في عبادة الحج. قال عليه السلام :" الحج عرفة " ليعتصر لنا ذؤابة المشهد في كلمة رسالتها أن مقصد المقاصد في الحج هي القيم التي تجتمع في الوقوف بعرفة وربما لنا إلى هذا عودة. الحج الرمزية معناها أن أكثر مناسك الحج نأتيها لنستذكر رموزا سالفة في التاريخ هو تاريخ إبراهيم وأهله فحسب . الحج الرمزية معناها أن من فاته أن يعيد ترتيب عقله على أساس أن أكثر مناسك الحج أعمال رمزية لا تقصد لذاتها ولكن يقصد ما توحي به .. من فاته ذلك فاته الحج وكفى. أعمال الجسم والحركات والقولات لا عبرة بها أبدا البتة عندما تتخلف المقاصد. حتى القبلة نفسها لا عبرة بمستقبلها إذا إنصرمت أولويات الإسلام فيك وفي عملك :" ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر ... ". وآيات أخرى في البقرة نفسها تؤكد معنى القيمة المطلوبة وتؤخر الشكلانية المظهرية الصورية التي يحرص عليها الأطفال دوما. رمزية الطواف أن تعبد إلها واحدا بمثل ما تطوف بكعبة واحدة لا كعبة سواها إذ أرانا سبحانه مآل من حاول هدمها لبناء كعبة أخرى ( أبرهة ). رمزية الطواف أن تظل في حركة دائرية لا تنتهي إذ هو كل يوم في شأن سبحانه والكون كله سابح في فلك سابح يجري لأجل مسمى وحركته دائرية كذلك حتى المعراج كان لولبيا لأن الحركة الدائرية في إتجاه الأعلى لا تكون إلا لولبية وذلك هو المعراج لغة كمن يرقى في السماء وبه عرج وهو عرج متعمد مقصود كفيل بوطء الطبقات الجوية الكثيفة والبعيدة. رمزية السعي أن تمنح نفسك فرصة الحياة مع هاجر العظيمة وهي إمرأة وأنت لا يسرك أن تكون كذلك لولا أنك غافل عن القصة بالجملة والكلية. رمزية السعي أن تستذكر أن الماء الذي يتوفر لك في كل شوط من أشواط السعي مرتين على الأقل أو ثلاثا كان فقيد هاجر العظيمة ومنشودها وأن ماء زمزم الذي تتفيأ أنت اليوم ظلاله إنما إنبجس من تحت قدميها لعلك تفيء إلى الإطمئنان من بعد كل كرب لا يفرجه سواه سبحانه. رمزية السعي هي أن الأم التي ربما آثرت نفسك بالحج عليها لم تكن سوى هاجر العظيمة التي إنفطر فؤادها حزنا على فلذة كبدها الذي يتهدده الظمأ الغادر في واد غير ذي زرع. رمزية السعي هي أن الزوج التي يغدو بعلها في سبيل الله لا تندب حظها بل تقول مع القائلات العظيمات : عهدته أكالا ولم أعرفه رزاقا فإن ذهب الآكال فقد بقي الرزاق سبحانه. رمزية الإحرام هي تحقيق قوله عليه السلام :" الناس سواسية كأسنان المشط ". كلمات المساواة والحرية تظنها أنت غريبة عنا وهي منا وإلينا وبذا تغدو مقهورا من المقهورين الذين سخرهم الغرب الفلسفي لخدمة مشروعه من وراء حدوده. رمزية الإحرام هي إستحضار البعث في المحشر المهيب إذ لا تفاصل بين الناس إلا بسعيهم السالف. رمزية الإحرام هي نبذ الدنيا من حيث أنها شاغلة عن الآخرة وليس من حيث أنها القنطرة الوحيدة إليها والبون بين الأمرين في الفهم شاسع شاسع لمن طلب علما وثابر عليه. رمزية الرمي المتجدد يوما من بعد يوم في يوم النحر والأيام المعدودات أيام التشريق هي أن الشيطان العدو الأعظم الذي أمرنا بأن نتخذه عدوا ليس هو ذاك الذي ترميه بالحصيات وهل هناك من أحمق في الأرض يقول بذاك.؟ طبعا لا. الشيطان الذي نرميه بعشرات الحصيات الصغيرة ليس هو كائن مادي يتلقى رمينا أو يضيره ذلك. الشيطان الذي نرميه عمل رمزي يغرس فينا رمي الشيطان من بعد عودتنا إلى أهلنا. ذاك نرميه بالحصيات الصغيرات ولكن شياطين الإنس والجن نرميهم بالإيمان الصحيح العميق المتجدد الممتلئ يقينا ورسوخا وثباتا وأملا وتوكلا. من أكثر الشياطين اليوم تصريما لحياتنا : شياطين الإنس أم شياطين الجن؟ أم أن منا من لا يؤمن أصلا بوجود شياطين الإنس المذكورين في الذكر الحكيم نفسه؟ أن نرمي هذا بالحجارة لنصالح ذاك بالمال وبدنية الدين ومهانة الحياة وذلة العمل. رمزية الرمي المتكرر هي أن الذي رماه أول مرة إبراهيم عليه السلام إنما كان يرميه بعقيدته وهو يجر ولده الوحيد إسماعيل ليذبحه بنفسه بمدية في يمينه. فهل قذفنا بالحجارة شياطين إنس وجن يصدوننا عن المقاومة لإستعادة قدسنا السليبة وحريتنا الطريدة وحقوق أخرى كثيرة؟

4 ما هي منافع الحج المشهودة مما أهدرنا.
حصرت مقاصد الحج في قوله سبحانه :" ليشهدوا منافع لهم ويذكروا إسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ...". سماها منافع والمنافع هي المقاصد والمصالح والغايات والأسرار ولكن التعبير عنها بالمنفعة وبصيغة التنكير والجمع يحيلنا إلى أن المنافع منها هو دنيوي إن لم تكن دنيوية كلها وأنها كثيرة مما يجعلها تنسبط اليوم وغدا وأنها بصيغة التنكير لكثرتها وأن تعيينها محل إجتهاد منا فهو معيش لمن ألقى السمع. من المنافع وبحسب السياق هنا وفي غيره ذكر الله سبحانه سيما من بعد تفرغ الحاج لذلك في الأيام المعدودات الثلاثة لمن تعجل أو أقام. الذكر هنا نفسه وبحسب السياق المحكم هو شكره سبحانه على بهيمة الأنعام سيما أنها محل أضحية منا في يوم النحر بل حتى في الأيام الثلاثة التي تليه. والشكر نفسه هنا وبحسب السياق المحكم يتمثل في إطعام " القانع والمعتر " و" البائس الفقير ". هي منفعة الإطعام إذن أي منفعة الحرص على حاجات المحتاجين إطعاما للجائع وإرواء للظامئ وتأمينا للخائف وإكساء للعاري وتعليما للجاهل وتوحيدا لصف يوشك أن يندلق كما تندلق أقتاب بطن موقوذ وغير ذلك من الحاجات التي لا قيام للأمة إلا بها مما عده الأصوليون ضرورات عظمى ضارة أو كليات كبرى مكللة. المنفعة هي إذن أي مقصد الحج الأعظم منفعة دنيوية مادية ولك أن تعود إلى السياق القرآني نفسه لعلي أسرعت الخطى هنا خشية الإنسياب. الحج إذن ليس لتلبية شوق بك عارم وكثيرا ما يكون شوقا كاذبا يلبس به الشيطان عليك وما أذكى هذا المخلوق العجيب لو علمنا ولا لنهلك من معين لا يتوفر سوى هناك على جلالة قدر ذلك منسكا منسكا ولكن الحج مقصده الأعظم ليس هو سوى : الحدب منا جميعا على وحدة الصف الإسلامي والذي لا يكون سوى بقضاء حاجة المحتاج قدر الإمكان تحاضا وتواصيا وليس حسنى يأتيها من إشتعل به الرأس شيبا شعورا منه أنه أدلف إلى قبر مظلم ويتنكبها الموسر المقتحم لمعركة الحياة بعقل يهودي مادي غربي كالح أسود. ذلك هو الحج وذاك هو مقصده الأعظم وما من ثواب سوى لمن فقه ذلك قبل حجه وفي حجه ومن بعد حجه ولمن عمل بذاك قدر الإمكان ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ومن وسعها المكلفة به التحاض على الخير والتواصي بالمرحمة.

5 وأعسار فرضناها.
مما أعده حكمة ما جعله الشيخ الدكتور سلمان العودة عنوانا لكتاب له في الحج :" إفعل ولا حرج ". أعجبني العنوان إختيارا ذكيا فقيها بسبب أن أكثر قوله عليه السلام في الحجة الوحيدة التي حجها وأم بها الناس من بعد حجة أبي بكر بالناس :" إفعل ولا حرج". لم يجد عليه السلام جوابا أكفى لعشرات بل ربما مئات الأسئلة يومها من هذا الجواب الكافي :" إفعل ولا حرج ". وبذا تحقق وبمواضع أخرى أن الحج عنوانه اليسر مثله مثل الصيام الذي ترسخ فيه ذلك في البقرة نفسها مرات ومرات حتى إن التالي لذلك الذي لا يستوقفه ذاك هو تال بعينيه لا علاقة لفؤاده بتلاوة كتاب ولا بتدبر ذكر. لا حرج على من قدم وعلى من أخر وعلى من فعل كذا ولم يفعل كذا وغير ذلك مما يجد لنا نحن اليوم .. لا حرج على كل ذلك مادامت النية صافية معقودة ورمزها الإحرام ومادام الأصل الراسخ ( الحج عرفة ) باق ومادام مقصد الحج معلوم نتمثله قدر المستطاع وما دام الإنسان هناك محل تعارف لا محل جدال يبطل الحج أو رفث أو فسوق لا يكادان يجبران. لا حرج على ذلك مادامت الأركان الأربعة المعلومة محل حرمة قدر الإمكان : الإحرام وعرفة وطواف الإفاضة والسعي. من حصل ذلك فقد تم حجه ولا عليه فيما بقي إذ ما بقي ولعل ما بقي هو الرمي ولو متعجلا ولا سواه أبدا يجبر بأي نسك من إطعام يدعم المقصد الأسنى من الحج أو صوم يطهر النفس أو غير ذلك. ناهيك أن النيابة فيه لأدنى مشقة مباحة مشروعة. ( إفعل ولا حرج ) التعليم النبوي العظيم أبدلناها اليوم بأعسار فرضناها من مثل عليك دم بل دماء وعليك صيام بل صيامات وربما بطل حجك وعليك إعادة وكأنه بين الحاج وبين مكة المكرمة رمية بحجر إذ حتى من يكون له الظهر تخصمه الكثرة مما يقتضي القرعة بين الناس أو الأولوية بالتسجيل أو غير ذلك من الأجراءات العادلة في الجملة. من تلك الأعسار التي فرضناها على أنفسنا لنحرم أنفسنا ويبوء المفتون المتهافتون بإثم الناس إفتاء الناس بأفضلية حج على حج إذ لا يتأثم كثير منهم من تقديم الإفراد أو القران على التمتع إمعانا في التعسير على الناس وهو مشرب مسيحي قوامه أن أحب العمل إلى الله أكثره عناء ومشقة وهو الإتجاه المضاد للإتجاه الإسلامي بالتمام والكمال ورب العزة الأعظم. الحمقى من أولئك يحاولون إستنباط ذلك من فرض الهدي على التمتع وفاته أن ذلك يخدم المقصد الأسنى من الحج وليس هو ضريبة على التمتع بل هو إتاحة لحج يخدم غرضه بنفسه. ومن تلك الأعسار كذلك إشتراط المحرمية للمرأة في زمن تراجعت فيه السلطات السعودية نفسها في مثل هذا أمام الحاجات وفي زمن أصبحت فيه المرأة آمنة مطمئنة لا تخاف ذئبا على غنمها كما قال هو نفسه عليه السلام إذ أن تشريع المحرمة مقصده الخوف عليها لا الخوف منها وشتان بين عقلين هذا مشرق ينهل من فقه محمد عليه السلام وذاك مغرب يكرع من حماقة الحمقى. ومعاسر تتعلق بالمخيط ولم يكن المخيط يوما ممنوعا إنما الممنوع هو المحيط خدمة لمقصد الإحرام أي التجرد من الدنيا والتشبه بالإنسان الأول أو بإستحضار يوم الحشر المهيب ولما كان المحيط من عادته أن يكون مخيطا وإلا ما أحاط بالبدن ترك الناس المحيط وإنكفؤوا حول المخيط وجمدوا هناك غافلين عن العلة ومقصدها بل عدوا ذلك إلى الأخفاف فهل شعرتم بوطأة تخلفكم لتنشؤوا لنا مصانع تنتج ملابس الحج فلا هي محيطة ولا هي مخيطة حتى في النعال؟ وأعسار أخرى كثيرة ربما يبصرها الحاج هناك أكثر من غيره ولكن يضيق عنها المجال هنا خشية الإندياح فحسب.
ذلك بعض ما تيسر ولعله سبحانه يأذن بإخراج كراس في الحج قد متنه وشذبت زوائده في حج قابل.
والله أعلم
الهادي بريك مدنين تونس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.