قصة فاخر بن محمد - الحلقة الثالثة – شهادات من رحلات المنفى الطاهر العبيدي * [email protected] ... بمجرد أن توقفت الحافلة يقول فاخر: حتى تزاحم المسافرون نحو باب الخروج لمغادرة هذا المطبخ الذي تعالى بخاره وتصاعد دخانه، وأشار لي عون الأمن المرافق لي بالانتظار حتى نزول آخر راكب، كي لا أحتكّ أو أختلط أو أتسلل بين الجموع، فيصعب عليه مراقبتي وحراستي، وفي الأثناء أعطاني جواز سفري، واحتفظ ببطاقة هويتي، وملفّا محشوّا بالأوراق، أو ربما منتفخا بتوصيف ذنوبي تجاه دولة الاستقلال.. كان بعض المسافرين مترددين ومتثاقلين في النزول للظفر بما يروي ظمأ فضولهم، لمعرفة بعض فصول قصة أسباب اعتقالي، وكانت نظراتهم تجتاحني في كل اتجاه، وتتصفح وجهي وثيابي وملامحي وكل ما يرمز لقضيتي، أو ما يمكن أن يستدلّ به على قصّتي، حتى حين يعودون لأهاليهم يعودون لنسج فصول هذه الحادثة، فتختلط فيها الإثارة بالتهويل، وتتشابك فيها الأقاويل بالتأويل، وتتباين من شخص لآخر، لتصبح في شكل حكاية من حكايات السمر الصيفي على ضفاف البيوت الجنوبية بعد الغروب، حين تخفت قليلا حرارة الشمس اللاذعة، لتترك مكانها لقمر نصف خجول، فتنساب الحكايات المتنوعة والمختلفة..نزل الركاب ولم يبق سواي ومرافقي وسائق الحافلة، الذي وقف في مكانه في نصف التفاتة، متجها إلى حيث أنا وحارسي، يتفحصّني هو الآخر، ولكن بنظرات ملؤها الشفقة والتأثر لحالي، وأظنه على عكس البعض فهم أني لست من شريحة اللصوص ولا من قطّاع الطرق، ولا من المجرمين أو المحتالين، ورفع عينيه للسماء في إشارة منه بأنه يحرّضني على الدعاء والاتكال على الله، وأن " الحق ساعة، والعدل إلى قيام الساعة "، وأن الباطل جولات، والحق جولة، وأحسست بتعاطفه معي من خلال قسمات وجهه وتأثره، حتى أني شعرت أو هكذا تصورت أنه يقول لي في صمت موجع ودون كلام ما قاله " كاريل " " جميل أن يموت الإنسان من أجل وطنه، ولكن الأجمل أن يحيا من أجل هذا الوطن".. نزل كل الركاب، وأمرني العون بالنزول وهو ورائي تحسّبا لأي طارئ، تمسحني عينيه من الخلف بكثير من الانتباه والمراقبة، وما أن وطأت قدماي الأرض حتى رميت " الصندال " الصيفي الخفيف من قدمي، وانطلقت كالسهم أعدو دون التفاتة، كما من يفرّ من الإعصار أو كالهارب من كثبان الرمال، مردّدا ومكرّرا الشهادتين، ومكثرا من الاستغفار لعلها تأتيني طلقة رصاص من الخلف، بإمضاء ذاك العون كي يبرهن عن كفاءته، ويبرّر تفانيه في خدمة دولة القانون والمؤسسات، ولكي يثبت لرؤسائه أنه قام بواجبه الوطني في حماية البلد من المواطنين الجحودين لنعمة الاستقلال، ظللت أجري مسافة كيلومترين تقريبا دون انقطاع تسطع ذهني مقولة "جيغفارا" أفضل أن أموت واقفا على أن أحيا راكعا ".. وفي كل خطوة أقول ربما تكون هذه الأخيرة وأسقط بعدها على الأرض مخضّبا في الدماء، وأتصوّر للحظات وأنا أجري كيف يعاد بي إلى أهلي جنازة، وتستحضرني تلك الأناشيد التي تثير النخوة والكرامة منها " أماه لا تبكي عليّ إن سقطت ممدّدا"، كما تستحضرني قوافل شهداء انتفاضة أطفال الحجارة الفلسطينية، أولئك الشباب والأطفال الذين يطلق عليهم الرصاص غيلة وهم واقفون، منتشرون في كل جغرافية الوطن الذبيح.. كنت أجري وكل هذه المشاهد تسطعني في العمق، حتى أني لم أعد أحس بساقي الحافتين وهي تغوص في الطريق المعبّد ،الذي بات تحت قدمي يقترب من خلطة العجين بفعل الحرارة المرتفعة.. وبينما أنا في هذه الحال إذ لمحت من بعيد شرطيين يحرسان إحدى البنوك، وحين اقتربت منهما حيث الطريق يمرّ حتما بجانبهما توقفت عن الجري، وتظاهرت بالمشي مسرعا، وكأني ذاهب لقضاء مصلحة إدارية، ولما حالت بيني وبينهما إحدى البنايات انطلقت من جديد أعدو ودون انقطاع، وقد سرى في داخلي بعض الاطمئنان بأني لم أعد في متناول ذاك العون الذي نزل ورائي في الحافلة، وأظنه ما زال تحت وقع صدمة المفاجئة من طريقة هروبي، حيث أعتقد أنه لم يكن يتصوّر أن أتركه محتضنا ملف الاتهام دون وجود المتهم...كانت الساعة تشير إلى حوالي الساعة الثانية بعد الزوال والطريق تقريبا شبه خالية من المارة والسيارات، والمدينة اختبأت في البيوت للقيلولة، لمحاولة اجتناب شمس تموز المدججة بالانقباض والاختناق، واتقاء لتلك الحرارة المحملقة والمتوترة والمستعرة.. وأنا في هذه الحال أجري لا أدري إلى أين؟ وفجأة تذكرت أحد البيوت التي أعرف أهلها منذ سنوات فقصدتها.. طرقت الباب فخرجت لي إمرأة وقد ذهلت من حالتي، حيث كان العرق يتصبّب من أقصى شعر رأسي إلى أسفل أصابع قدماي، ألهث من العطش وأكاد أقع من التعب، ورأيتها قد غرست عينيها إلى الأرض، حتى ساورني الشك لعل هناك عون أمن مختبئا في عتبة البيت في انتظاري، فنظرت إلى حيث تنظر فاكتشفت أن رجلاي مخضبتان باللون الأسود بفعل " زفت " الطريق، حتى أن أظافري لم يعد يظهر منها سوى بعض اللمعان، ثم نطقت بعد هذا الذهول لتسأل بصوت متدليا بين الشك واليقين فاخر هل أنت فاخر؟ فأجبت نعم أنا فاخر.. وفي داخلي أضفت نعم أنا فاخر.. أنا المسئول عن ضياع القدس.. أنا فاخر المسئول عن الهوان العربي.. أنا فاخر سبب الهزائم المتراكمة.. أنا فاخر المسئول عن سياسات الإقصاء والاستثناء.. أنا فاخر المسئول عن ثقافة الرداءة والانحدار.. أنا فاخر المسئول عن واقع القحط الفكرى والانحطاط القيمي.. أنا فاخر سبب التفتت السياسي والجغرافي العربي...ابتلعت كل هذه التعريفات المشروخة والمعتملة في الوجدان حين خرج زوجها، وبمجرد أن رآني عانقني ورحّب بي، وتصوّروا المشهد ضيفا في مثل حالي مغبرّ الوجه، تنتشر في عيونه أمواج الإرهاق يتصبّب عرقا، وأكثر من هذا حافي القدمين، وأكثر من ذلك كله أنه يزور هذه العائلة بعد سنوات وفي مثل هذه الحال، فأي ضيف هذا؟ دعاني الزوج للجلوس وكان كريما، ولم يتجرأ أحد من العائلة على سؤالي لماذا أنا في هذه الحال؟ ومن فعل بي هذا؟ وكيف؟ وأين؟ خصوصا وأنهم يعرفوني من عائلة ميسورة الحال، وأوضاع أهلي المادية بخير، ولا يمكن أن ابن تلك العائلة يكون ضيفا حافيا، وعلى هذه الحال من التعب والفزع.. لاحظت تلك الأسئلة المتوثبة دون النطق.. فاختصرت الطريق قبل الجلوس لأروي لهم قصتي بالتفصيل، ثم سألت هل تقبلون المجازفة لأبيت عندكم هذه الليلة ومن الغد ابحث لي عن مخرج، وطبعا كنت أدرك حجم المخاطرة التي سأسببها لهذه العائلة لو اكتشف أمري، فسوف يدفعون ثمنا باهظا أقله التستر على فارّ من العدالة، والتواطىء مع أحد مخرّبي الوطن، والقانون هنا لا يحمي " الطيبين العفويين " كما كل القوانين العربية المتشابهة والمستنسخة من بعضها، فكل مشاريع الوحدة العربية فشلت وتفشل وهي في طور التأسيس، عدا اتحاد وزارات الداخلية العرب..بعد أن رويت لهم حكايتي انقطعت عن الكلام المباح في انتظار الجواب، هل يسمحون لي بالبقاء والاختباء عندهم هذه الليلة أم يكون الاعتذار... البقية في الحلقات القادمة... ملاحظة هامة هذه الشهادات تنطلق من تحقيقات ميدانية حيث أحداثها وتواريخها وإبطالها حقيقيون، ولكل منهم مغامرات مثيرة مع الترحال والتخفي والسجن..طبعا مع الانتباه والتحفظ على بعض الجزئيات، اتقاء للثأر أو التتبعات ضد الذين ساعدوا أو تعاونوا في تهريب هؤلاء.. حاولت أن لا أجعل من هذا العمل شهادات سردية جافة، بل حرصت وأنا أسجّل هذه القصص أن انتبه والتقط وأتعايش مع مشاعر وأحاسيس الرواة في كل ثناياها وتشعباتها، مستخدما بعض تقنيات العمل الأدبي والصحفي، قصد التوغل قدر الإمكان فيها وتصويرها واستنطاقها، وترجمة حالات القلق التي أرصدها وأنا أسجل مرويات هذه التغريبة التونسية.