لأن العرب أرهقهم التقلب في أعطاف الهزائم وغابت عن دنياهم النماذج الجيّدة والقدوات الحسنة في عالم السياسة والقيادة وسئموا حكم العجائز والمستبدين والفاشلين ، ولأن رجب طيب أردوغان يمثل نقيض هذه النقائص فقد احتلّ مكانة البطل عند الرأي العام العربي ، وهو بذكاء حادّ ومعرفة وافية بقيمة الكلمات والحركات les gestesيحسن تبليغ رسائله للعرب الذين يعرف غبنهم المستديم وتطلّعهم للزعيم الذي يتميز بالرجولة وليس بالذكورة وحدها. وقف بصلابة في وجه العدوّ الصهيوني رغم خطورة ذلك عليه كما لم يفعله واحد من حكام العرب . أعلن وكرّر في غير مناسبة اعتزازه بالانتماء الاسلامي ، كفرد وكدولة وشعب ، وافتخر بالحقبة العثمانية ، في حين يعُدّ الحكام العرب انتماءهم الحضاري منقصة بل جرما يتبرؤون منه ، ويتفاخرون هم بالتبعية للمنظومة الغربية عسى أن يرضى عنهم رموزها ، ولن يرضوا عنهم ، لأن العلاقة بين السادة والعبيد لا يحكمها الرضا بل الخضوع التام هنا والصلف هناك. أخرج الصلاة من دائرة الحظر ثم منم دائرة البروتوكول إلى رحاب الإقامة الشرعية كمسلم عادي وكقائد يفعل ما يقول ويكون في مستوى شعبه تديّنا وتواضعا ، في حين ما زال الحكام العرب يظهرون في الأعياد – ولا ندري إن كانوا قد توضؤوا أم لا – ثم لا يُرى أحدهم مؤديا للصلاة حتى في الجُمُعات . من آخر مآثره حضوره جنازة الملاكم محمد علي بأمريكا وسط غياب ملحوظ لأي زعيم عربي ، ويتذكر الرأي العام أن أردوغان غاب عن المظاهرة العالمية بباريس لتأييد فرنسا ضدّ " الإرهاب الاسلامي " ، تظاهرة حضرها بكلّ حماس وعطف أكثر من حاكم عربي جنبا إلى جنب مع ناتنياهو ، فيما تواروا كلما قُصفت غزة وأبيد المسلمون هنا وهناك . قبل كلّ هذا فإن أردوغان رئيس جاءت به انتخابات خاضعة للمقاييس الدولية في الشفافية والحرية مع وجود معارضة ديمقراطية فاعلة بخلاف ملوك وأمراء ورؤساء عرب يتقلّدون مناصبهم بموجب الحق الإلهي المزعوم أو عبر انقلابات دموية أو نتيجة تزوير واسع النطاق ، ثم لا يغادرون تلك المناصب ولو بلغوا من الكِبَر عتيا إلا إلى القبور أو بفعل انقلاب من تدبير رفاقهم ، بعد أن يكونوا قد نشروا مزيدا من الفساد بين شعوبهم و جلبوا لها أنواع الشرور وسلطوا عليها كلّ ما ينغّص الحياة بدءا بالتبعية للغرب وانتهاء بالتضييق على الدين ونشر الرذائل والفقر واليأس. لهذه الأسباب أدار العرب ظهورهم لحكامهم – باستثناء الأقلية العلمانية المتوحشة – ورأوا في الرئيس التركي رمزا يستحق التقدير والتبجيل ، فهو في نظرهم البطل الذي ينبعث منه الأمل من جهة وتتهدده الأخطار من جهة أخرى ، أخطار النظام العالمي الظالم ( ِفرية إبادة الأرمن التي دخلت حتى ألمانيا على خطها ، مثلا ) والتحرش من طرف الأنظمة العربية الاستبدادية ، فهو في نفس الوقت محمد الفاتح الذي هزم بيزنطا ، ومحمد مرسي الذي فضح العلمانية العربية المتحالفة مع العسكر والصهاينة ضدّ الحرية والديمقراطية ، إنه هازم أتاترك المتعجرف المتسلط على الأتراك ، وهو ناصر الاسلام الذي لا يحارب الحجاب بل ترتديه زوجته وبناته ، وهو لباس شرعي بخلاف حجاب التبرج الذي يشجع التغريبيون انتشاره نكاية في الدين والأخلاق ، كما أنه ملاذ الأحرار المضطهدين الفارين من حكم الجنرالات حيث يجدون في تركيا الأمن والحرية والنموّ الاقتصادي ، تلك القيم المفتقدة في بلاد العرب ، يكفيه فخرا أنّه فكّك المنظومة العلمانية المتطرفة المستبدّة التي أسسها أتاترك فقهرت الشعب بالقبضة الحديدية والانقلابات العسكرية وأقام على أنقاضها حياة ديمقراطية طبيعية. كلما زاد انتقاد الأنظمة الدكتاتورية لرجب طيب أردوغان وتضايقُها منه ازداد العرب شغفا به ، فهل سيصبح زعيما عربيا بامتياز ؟ هل يعيد التاريخ نفسه وينضوي العرب تحت لواء العثمانيين ؟ مهما كانت مثالب هؤلاء فإن فلسطين لم تَضِعْ في عهدهم . عبد العزيز كحيل