يجهل الكثير من التونسيين ما تعيشه الكثير من الدول الإفريقية من تجارب في الديمقراطية وما تمتلكه من ثروات وامكانيات. كما أن انتماء تونس الجغرافي والحضاري والاقتصادي مرتبط بشكل وثيق بالقارة السمراء وهو ما يفرض على تونس والمؤسسات الدستورية التونسية الالتفات الى افريقيا وقضاياها. النائبة جميلة الكسيكسي تتحدث للفجر في هذه المصافحة عن تجربتها في البرلمان الافريقي وملاحظاتها حول التجارب الديمقراطية في عدد من دول القارة السمراء. بداية لو تضعيننا في إطار عضويتك في البرلمان الإفريقي؟ أنا عضو في البرلمان الإفريقي بناء على كوني عضوا في برلمان تونس، ممثلة لحركة النهضة، وأنا عضو من بين خمسة أعضاء آخرين تم اختيارهم من قبل مجلس نواب الشعب بنظامه الداخلي واستنادا إلى شروط الاتحاد الإفريقي في قبول واختيار أعضائه التي من بينها أن تكون امرأة في الأعضاء المختارين من كل برلمان دولة، فكنت أنا من بين هؤلاء لتمثيل تونس. ما هي أهم شروط العضوية في الاتحاد الإفريقي؟ ومن هم بقية الأعضاء ؟ أولا البرلمان التونسي ككل البرلمانات الأخرى له أربعة مهام تقريبا، منها ثلاث مهام رئيسية تتجسد في الأنظمة البرلمانية، مهمة تشريعية وأخرى رقابيّة على الحكومة ومهمّة ثالثة دبلوماسية. إن حديثنا هنا سيكون عن المهمة الدبلوماسية للبرلمان التونسي الذي هو جزء من الحراك الدولي، وسط تشكّل اتحادات وبرلمانات دولية وأخرى إقليميّة وقاريّة، ومن ثم تكون تونس منخرطة في معظم المنظومات والهيئات الدولية التي لها علاقة بالعمل البرلمانين وفي هذا الإطار تكون تونس حاضرة في البرلمان الإفريقي بحكم خصوصيتها في الاتحاد الإفريقي. وتشارك كل دولة إفريقية بخمسة نواب كما ذكرت سالفا، يحددهم البرلمان المحلي لكل دولة، ومن برلمان تونس تم اختياري إلى جانب ممثل عن نداء تونس هو “ناصر جبيرة” وممثل عن الجبهة الشعبية هو “منجي الرحوي” وممثل عن آفاق تونس هو “كريم الهلالي” وممثل عن الديمقراطيين الاجتماعيين هو “فيصل التبيني”، وبهذا تكون التركيبة متنوعة وممثلة لكل الأطياف.
لو تعطينا لمحة عن البرلمان الإفريقي؟ هو برلمان يتبع الاتحاد الإفريقي، تمتد دورته ثلاث سنوات، تتجدد بعدها هياكله ورئيسه وأعضائه، وهو ممثل بقرابة 54 دولة إفريقية، ومقره “جوهانسبرغ” بجنوب إفريقيا. ويقوم البرلمان الإفريقي بدورتين في السنة تتخللها جلسات عامة، وتكون إحدى الدورتين من 02 إلى 13 ماي، والأخرى خلال شهر أكتوبر. ولهذا البرلمان صفة استشارية، ويقع استشارته في كل القضايا التي تهم الشأن الإفريقي، كما أنه يلعب دور المنسق بين مختلف البرلمانات لتوحيد السياسات الإفريقية في عدة مجالات، منها الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والمرأة وغيرها. ويقسّم هو الآخر إلى كتل بالاعتماد على الامتداد الجغرافي، إذ يحتوي على 5 كتل كبرى: هي الكتلة الشمالية وكتلة الوسط الغربي والوسط الشرقي والجنوب الغربي والجنوب الشرقي، وطبعا تونس توجد في كتلة الشمال التي تضم 5 دول هي تونس ومصر والجزائر وموريتانيا وليبيا وإقليم غرب الصحراء، في حين انسحبت المغرب من الاتحاد الإفريقي بسبب قضية الصحراء الغربية.
كيف يقع تحديد البعثة لمراقبة الانتخابات؟ يمثل الاتحاد الإفريقي مظلّة البرلمان الإفريقي، ومن خلال ذلك يقوم هذا البرلمان بلعب دور الملاحظ في الانتخابات التي تقع في الدول الإفريقية، إذ يقوم بتكليف وفد يرأسه مشرفا عاما يكون من الشخصيات المرموقة التي تقلدت مناصب عليا كرئيس دولة سابق أو رئيس وزراء أو زعيم وطني معروف، ويمكن أن أعطي مثالا، كإشراف السيد المنصف المرزوقي على انتخابات “جزر القمر”، وأيضا إشراف الرئيس الموريتاني السابق “كواندو تراوري” على الانتخابات الأخيرة في تشاد، أما في النيجر فأشرف عليها رئيس وزراء الكنغو السابق. وهذا المشرف يدير كل العملية ويسيّر الفريق المبعوث للمهمة، ويسبق الوفد بيومين أو أكثر، ويغادر بعدهم بيومين أو أكثر، لما له من دور تنسيقي. وإلى جانب رئيس الوفد نجد برلمانيين وسفراء معتمدين لدى الاتحاد الإفريقي، وسفراء دول، ورؤساء هيئات، ومنظمات انتخابية، ونشطاء مجتمع مدني. ما هي الاستعدادات التي تقومون بها قبل المهمة؟ شهدت إفريقيا هذه السنة عددا كبيرا من الدورات الانتخابية التي بلغت قرابة 8 أو 9 انتخابات، وهناك بقية ستكون في الأيام القادمة، منها إفريقيا الوسطى، وهذه الكثافة سمحت لأغلب الأعضاء بالمشاركة في المراقبة. أنا شخصيا أرى أنّ هذه التجربة جيدة ومهمة جدا ومفيدة، وبحكم تعودي على مثل هذه المهام من خلال نشاطي في المجتمع المدني وبحكم أنّي كنت من المكونين وأيضا من الملاحظين على المستوى الوطني، وتلقيت عديد الدورات التكوينية في الغرض، فإني لم أجد صعوبات كبيرة، وتأقلمت مع الدور بسرعة. هذه التجربة تكسبك أشياء جديدة وتمنحك فرصة كبيرة للتعرف على تلك الدول، يساعدك الدور أو المهمة في الكشف عن مكونات تلك الدولة وخصوصياتها وملامسة هياكلها ونظامها السياسي ومختلف مسؤوليها. ويعقد الاتحاد الإفريقي ندوات وملتقيات ولقاءات مع مكونات تلك الدولة ومع وسائل الإعلام، وينظم حصصا تكميلية في التكوين والتذكير بأبجديات المراقبة الانتخابية، ويستعد ليوم الانتخاب استعدادا كبيرا. كيف تتوزعون يوم الانتخابات ؟ إن دورنا كملاحظين يشرف عليه كما ذكرت الاتحاد الإفريقي، ويديره رئيس البعثة، ويقع تقسيمنا إلى مجموعات تتوزع بين المكاتب المختارة كعينات التي يقع اختيارها في الغالب حسب الكثافة السكانية، لأنه أمام كثافة المكاتب لا يمكن أن تغطّى جميعها، فمثلا في النيجر كان هناك أكثر من 19 ألف مكتب اقتراع. ويشترط في كل مجموعة أن يكون فيها رجل وامرأة في الغالب، إلى جانب أن يكون فيها شخصية مرموقة كسفير أو وزير سابق أو نائب برلماني. ويتوزع هؤلاءن ويعود كل منهم باستمارات في شكل تقرير يقع تجميعها بعد الانتهاء من الانتخابات، ويؤلّف منها تقرير تأليفي، يكون هو التقرير الرسمي للاتحاد الإفريقي، ويقع الإعلان عنه خلال ندوة صحفية للنقاش. لهذا التقرير قيمة كبيرة، ويعتبر أهم تقرير من بين التقارير التي تصدر، وكل المراقبين الدوليين والمنظمات ينتظرون بفارغ الصبر مخرجات هذا التقرير، و ما سيقوله، فمثلا في تجربة “التّشاد” تمت الانتخابات يوم 10، وتجمعنا يوم 12 بحكم تباعد المسافات بين المدن، وألّفنا تقريرا نهائيا أعلن عنه مساء ذلك اليوم. أودّ أن أشير إلى ملاحظة في تجربة “تشاد” لفتت انتباهي، وهي غياب شبه تام للمنظمات الدولية في دورها الرقابي في هذا البلد، على عكس تجربة “النيجر”؛ فقد كانت موجودة بكثافة، وقد كنت في نفس المكتب مع سفيرة أمريكا.
ما هي أهمّ ملاحظاتك على تلك التجارب الانتخابية ؟ لقد كانت لي تجربتان: الأولى في النيجر من 15 إلى 26 فيفري في انتخابات تشريعية ورئاسية، والثانية في التشاد من 01 إلى 10 أفريل، وهما تجربتان جميلتان ومهمتان جدا، خرجت من خلالهما بعدّة انطباعات على الجوّ العام بدول إفريقيا، وعلى الجو الانتخابي هناك. أولا من حيث التنظيم أشير إلى أن معظم الدول الإفريقية التي زرتها توجد فيها إدارة انتخابية مستقلة تشرف على الانتخابات، مثل الهيئة المستقلة للانتخابات عندنا، مع بعض الاختلاف، فهذه الهيئات كما لاحظت ممثلة من الأحزاب وليس من مستقلّين، فكل حزب له تمثيله في هذه الهيئة، إلى جانب أنها تحتوي على بعض نشطاء المجتمع المدني. أما من ناحية إدارة العملية الانتخابية، فما نلاحظه هو سوء التنظيم الذي تعود أسبابه إلى نقص التجربة ونقص التكوين للأعضاء المشرفين، وطبعا يبقى السبب الأكبر هو النقص الفادح في الإمكانيات المادية بسبب فقر هذه الدول. فما كنت شاهدة عليه هو أن المكاتب الانتخابية تفتقر إلى المواد الانتخابية ولوازم العمل في أغلب الأحيان، إلى جانب النقص في العنصر البشري والانضباط، فمثلا تجد من خمسة أعوان ثلاثة فقط حاضرين بالمكتب. أما في النيجر، فكان الوضع أقل حدّة مقارنة بما رأيته في تشاد، فاغ كانت بالنيجر مدارس تقام فيها الانتخابات، مع توفر كثير من المستلزمات، فإن ذلك لم يكن متوفرا إطلاقا في عديد المكاتب بتشاد. أذكر أني في النيجر لاحظت نقصا كبيرا في الخلوات، فقد كانت تعدّ بطرق بدائية جدا، كأن يضعوا طاولتين تغطيان بقطعة قماش، في حين أن الأمر بالتشاد كان أعقد؛ فأنا أول مرة أرى مكاتب اقتراع في الهواء الطلق وتحت الأشجار، وتكون الخلوة عبارة عن غطاء بلاستيكي يعلق في تلك الشجرة، وتلك هي إمكانياتهم، كما أنهم ينتخبون أمام منزل رئيس الوحدة الانتخابية، وفي بعض الأجزاء من المدارس التي يخصص جزؤها الآخر لإقامة الرحّل والوافدين من الأرياف. وأشير إلى وجود كثافة كبيرة في مكاتب الاقتراع، فحيثما تحركت، تجد مكتبا، وهي قريبة من بعضها، والغاية هي تقريب المكاتب من المواطن. كما لفت انتباهي وجود “أدوات إضاءة” من ضمن الأدوات الانتخابية؛ لأنه لا يوجد نور كهربائي في عديد المكاتب، فبمجرد أن ينزل الظلام لا ترى إلا أضواء الهواتف الجوالة وأدوات الإضاءة التي تقع عليها عملية الفرز. وأذكر أن إحدى الدول تخلّت عن تنظيم الانتخابات لانعدام الصناديق، فتدخلت بوركينافاسو وأقرضتها صناديق. أريد أن أسوق ملاحظة لفتت انتباهي في تشاد؛ فقد كان السجل الانتخابي متميزا، وفيه كامل بيانات الناخب: اسمه ورقم بطاقة هويته ورقم بطاقة الناخب وصورته أيضا ومربع أين يمضي، وهذا حتى في تونس لم نره. لكن أين دور الاتحاد الإفريقي في حل هذه المشاكل ؟ أمام هذه المعاناة وهذا الفقر الكبير قام البرلمان الإفريقي في عديد المناسبات بالتشديد على ضرورة التدخل، ونادينا في آخر دورة بالتعجيل في إحداث هيئة إفريقية تعنى بتنظيم الانتخابات في الدول الإفريقية، وتشرف على دعمها من كل النواحي، وتيسر عملية تنظيم الانتخابات، لكن لم يقع المصادقة عليها والنظر فيها من قبل الاتحاد الإفريقي إلى الآن. ماذا عن نسبة الإقبال في تلك الربوع؟ من الشيء الذي لفت انتباهي هو نسبة الإقبال التي هي فعلا عالية جدا، بل إنك لا تجدها حتى في الدول المتقدمة، فمنذ 2011 وقعت نقلة نوعية في هذا الجانب، وترجم هذا في انتخابات 2016؛ إذ فاقت نسب الإقبال 67 في المئة في عدة دول، وقد رأيت صفوفا طويلة يقف فيها الناخب لمدة 5 ساعات وأكثر، ومن مختلف الأجناس والأعمار، وأيضا لاحظت مشاركة ملفتة للمرأة والشباب. أما الأسباب، فإنها اليقظة والعقلية الجديدة والرغبة الجامحة في تغير الوضع الصعب المعقد من قبل هؤلاء، عن طريق صناديق الاقتراع، بعيدا عن الصراعات والانقلابات العسكرية الدامية التي سئموا منها ولم تعد لهم أي رغبة فيها، فهذه الشعوب قطعت في السنوات الأخيرة مع هذه الانقلابات ولم تعد تريدها، كما لاحظت أنهم عبروا عن أنهم لا يريدون الثورات، خاصة بعد ما حدث في دول ما يسمى بالربيع العربي، مشيرين إلى أن الصندوق هو الفيصل الوحيد للتغيير. كيف رأيت المنافسة بين المترشحين ؟ ما يلاحظ هو المشاركة القوية للمعارضة في الانتخابات التي تشتدّ فيها المنافسة ويحمى وطيسها، وهي غالبا ما تمرّ إلى دورة ثانية، كما لاحظت أن فيها كثيرا من الشفافية والمصداقية، وأضرب مثلا ما رأيته في التشاد، فقد كانت المنافسة كبيرة بين الرئيس الحالي ومعارضه الذي كان وزيرا في حكومته، وهو أيضا عضو بالبرلمان الإفريقي، حتى أنه لا يمكن التكهن بالنتيجة. رغم أني من خلال ما لمسته أرى أن الشعب يبدي رغبة في مواصلة الرئيس الحالي؛ لأنه حسب تعبيرهم حقق عديد الإنجازات، خاصة على المستوى الأمني، فالتشاد تتموقع في محيط 6 دول غير مستقرة أمنيا وملتهبة، منها مالي وليبيا وجنوب السودان ومصر وغيرها. أما في النيجر، فقد تم المرور إلى الدور الثاني مع ميزة لافتة للانتباه حقّا، وهي أن المترشح المعارض خاض معركته الانتخابية من داخل السجن، وهو معارض شرس وزعيم معروف في النيجر، وقد تحصل على المرتبة الأولى في العاصمة، ومرّ إلى الدورة الثانية. الكلمة الختامية أشكر جريدة الفجر على الاهتمام بمثل هذا الموضوع وطرحه للرأي العام، فهو لا يجد الاهتمام الكافي رغم أهميته الكبيرة، أما عن التجربة، فهي فعلا ممتعة ومفيدة جدا على المستوى الشخصي وعلى المستوى الوطني؛ لأنها تمثل تونس وتكسب نواب مجلس الشعب خبرة كبيرة وتطلعهم على تجارب الدول الأخرى، كما انه يجب على تونس ايلاء الاهتمام الكبير بهذه الدول وتوثيق علاقاتها بأشقائنا الافارقة مع التفكير في الكثير من اوجه التعاون والاستثمار وبعضها مازال بكرا في عدد من الدول الافريقية. أما عن ندائي، فإني أتوجه إلى البرلمان الإفريقي والاتحاد المظلة الأولى له بأن يفكروا بجدية وبسرعة في دعم تلك الدول وبعث هيكل يشرف على الدعم المادي لتنظيم الانتخابات في كل إفريقيا حتى تتمكن تلك الدول من القطع مع الحروب والمعارك الدامية وتحقق نوعا من الاستقرار يحمي الإنسانية فيها من التقاتل.