في المسافة الفاصلة بين الموقفين الفلسطيني والإسرائيلي، بشأن مدينة القدس، تبدو هناك هوة كبيرة من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- جسرها تفاوضيا. فعلى مدى أكثر من عشرين عاما من المفاوضات التي تتوقف أحيانا، وتستأنف أحيانا أخرى، كانت القدس هي القضية الأصعب في مفاوضات الوضع النهائي. صحيح أن الإسرائيليين طرحوا أفكارا أو ما أطلقوا عليها " تنازلات" بشأن القدس، إلا أنه كان من الواضح أن كل هذه الطروحات تدعو إلى السخرية على رأي الرئيس الراحل ياسر عرفات، فأقصى ما قدمه المفاوضون الإسرائيليون لا يلامس الحد الأدنى الذي يمكن للفلسطينيين أن يقبلوا به، وقد بدأ موضوع القدس يخيم على أفق المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية منذ انطلاقها في مدريد في نوفمبر/تشرين الثاني 1991، حيث اشترط الجانب الفلسطيني تلقي "تطمينات" رسمية أميركية تؤكد أن القدس هي موضوع تفاوض لقاء مشاركتهم في المؤتمر. وبالفعل تسلم الجانب الفلسطيني رسالة تطمينات أميركية نصت على أن الإدارة الأميركية لا تعترف بضم إسرائيل للقدس، وأن الوضع النهائي للمدينة يتقرر من خلال المفاوضات. وكانت هذه الرسالة بمثابة رسالة واضحة للإسرائيليين بأن موضوع القدس سيطرح على طاولة المفاوضات، ولم يعد وضع المدينة محسوما إسرائيليا. "تسلم الجانب الفلسطيني رسالة تطمينات أميركية نصت على أن الإدارة الأميركية لا تعترف بضم إسرائيل للقدس، وأن الوضع النهائي للمدينة يتقرر من خلال المفاوضات" خطأ تاريخي وبعد وصول مفاوضات مدريد إلى الطريق المسدود، جاء اتفاق أوسلو عام 1993 ليؤكد على هذا المبدأ، إلا أن المفاوضين الفلسطينيين وقعوا في خطأ سياسي وتاريخي، كون الاتفاق أرجأ موضوع التفاوض حول القدس إلى المرحلة النهائية من المفاوضات. وكان لهذا الإرجاء نتائج كارثية على مدينة القدس، وقامت إسرائيل بتوظيف هذا التأجيل زمانيا وسياسيا، وبدأت تسابق الزمن في تهويد وأسرلة المدينة وإغراقها بالمستوطنات والإمعان في سياسة فرض الأمر الواقع وتغيير الحقائق والمعالم على الأرض، وبدأت بشن حرب لا هوادة فيها على الوجود المادي والمعنوي للمقدسيين. ولا نبالغ إذا قلنا إن الاستهداف الحقيقي للأقصى جاء بعد أوسلو، فقبل الاتفاق كان المسجد موضوعا هامشيا في الفكر الصهيوني، وكانت فتاوى كبار الحاخامات في إسرائيل تحرم دخوله، أما بعد الاتفاق، حدث تغيير دراماتيكي في مواقف اليمين الإسرائيلي تجاه المسجد الأقصى، وتم تأسيس العديد من الحركات التي أطلقت على نفسها أسماء ذات دلالة على ما يسمى بالهيكل، وبدأت الشرطة الإسرائيلية بمصادرة دور الأوقاف الإسلامية تدريجيا، وزادت أعداد المقتحمين للمسجد الأقصى من أفراد قلائل إلى مئات، وجرى افتتاح أول نفق حول المسجد الأقصى عام 1996 واندلعت على إثره انتفاضة النفق. وبلغ الاستهداف أوجه في العام 2000، عندما سمح إيهود باراك -رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الحين- لزعيم المعارضة أرئيل شارون باقتحام المسجد، وما نتج عن هذا الاقتحام من اندلاع للانتفاضة الثانية. "أول اختبار تفاوضي حقيقي حول مدينة القدس بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي، كان في كامب ديفد عام 2000 وذلك بعد ثلاثة اتفاقات مكملة لاتفاق أوسلو" أول اختبار كان أول اختبار تفاوضي حقيقي حول مدينة القدس بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي في كامب ديفد عام 2000، وذلك بعد ثلاثة اتفاقات مكملة لاتفاق أوسلو جرت في طابا 1995، وواي ريفر 1998، وشرم الشيخ 1999. وجرت مفاوضات كامب ديفد برعاية الرئيس كلينتون بين الزعيم الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك. وعلى الرغم من أن هذه المفاوضات كانت معمقة في كافة القضايا المطروحة على أجندة مفاوضات الوضع النهائي، إلا أن هذه المفاوضات اصطدمت بموضوع القدس الذي كان السبب الرئيسي في فشلها. ما طرحه باراك على عرفات بشأن وضع القدس كان يدعو للسخرية، فقد قسم القدس إلى خمس مناطق سيادية داخل البلدة القديمة وخارجها، يتم تقاسمها بحيث يحتفظ الإسرائيليون بالقلب ويتركون لنا الأطراف وفتح طريق آمن أو جسر علوي، كما اقترح الرئيس كلينتون على الفلسطينيين لزيارة المسجد الأقصى. وحاول الإسرائيلي إدخال المفاوض الفلسطيني في متاهة عندما أراد التفاوض على منطقة منطقة وشارع شارع، أما المسجد الأقصى فوافق على وضعه تحت إدارة فلسطينية على أن يكون أسفل المسجد تحت السيادة الإسرائيلية، كما طالب الإسرائيليون بغرفة صغيرة في ساحة الحرم يصلي فيها ثلاثة يهود فقط يوم السبت، وعندها قال لهم الرئيس أبو مازن -وكان ضمن وفد التفاوض الفلسطيني- إن هذا العدد سيتحول في السبت الثاني والسبت الثالث إلى ثلاثة آلاف يهودي يصلون داخل الحرم. هذا الطرح الإسرائيلي الذي يُشرّح القدس ويقسمها قطعة قطعة، يستهدف بالأساس استحالة تكريسها عاصمة للدولة الفلسطينية. "الجانب الفلسطيني قدم رؤية واضحة لموقفه التفاوضي حول القدس، يقوم على بسط السيادة الكاملة على المدينة بحدود العام 1967 وعلى جميع أحياء البلدة القديمة" حلول وسط حاول الرئيس كلينتون طرح حلول وسط، بيد أنها كانت تصب في مضمون الأهداف الإسرائيلية، وبالتالي أرادت الإدارة الأميركية الضغط على الرئيس عرفات بأن تفرض عليه حلا دائما لا يمكن قبوله، وهنا قال عرفات كلمته التاريخية: لو وافقت على هذا الاتفاق، لعلق شعبي مشنقتي في باب العامود. وهكذا فشلت هذه المفاوضات، وكان واضحا عدم جدية الجانب الإسرائيلي في إيجاد حل لقضية القدس. الجانب الفلسطيني قدم رؤية واضحة لموقفه التفاوضي حول القدس، يقوم على بسط السيادة الكاملة على المدينة بحدود العام 1967 وعلى جميع أحياء البلدة القديمة، وفرض السيادة الفلسطينية الكاملة على المقدسات الإسلامية والمسيحية وعلى رأسها المسجد الأقصى، فوق وأسفل المسجد، ولم يمانع أن يبقى الحي اليهودي تحت السيادة الفلسطينية، كذلك اقترح استخدام اليهود حائط البراق للصلاة فيه دون أن تكون لهم سيادة عليه، واقترح ممرا يصل القدس الغربية مارا بمحيط دير الأرمن وصولا إلى حائط البراق يستخدمه اليهود للوصول إلى الحائط. وبطبيعة الحال تم رفض هذه الأفكار من الجانب الإسرائيلي، وكان يبدو واضحا أن الرئيس كلينتون كان أقرب لتبني الموقف الإسرائيلي، وعلى خلاف رأي من كانوا يوهمون الأميركيين بأن عرفات سيقبل بهذه الطروحات إذا تعرض للضغط، لكن ثبت العكس وخرج أبو عمار وهو يقول "لا"، وبسبب هذه ال"لا" بدأت الحملة الإسرائيلية الأميركية ضده. وبعد عودة باراك من الولاياتالمتحدة سمح لشارون باقتحام المسجد الأقصى وهو الاقتحام الذي فجر الانتفاضة الثانية، ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2000 التي كان لها تداعيات كارثية على الانتفاضة، حيث بدأ الإسرائيليون والأميركيون ربط المقاومة والنضال الفلسطيني بالإرهاب، وبدأ استهداف الرئيس ياسر عرفات بالحصار تارة وقصف مقر المقاطعة تارة أخرى وصولا إلى جريمة اغتياله. "ربما كانت الجولة الأهم في مسار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية مؤتمر أنابوليس، وكادت هذه المفاوضات أن تحقق نتائج ملموسة، لكنها توقفت بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة" مؤتمر أنابوليس وربما كانت الجولة الأهم في مسار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية مؤتمر أنابوليس الذي دعا إليه الرئيس بوش في العام 2007، وشارك فيه إيهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل والرئيس محمود عباس واتسمت هذه المفاوضات بالجدية والتطرق إلى تفاصيل قضايا الحل النهائي. وجرت اجتماعات منتظمة بين عباس وأولمرت، وحققت تقدما كبيرا خاصة في مسألتي القدس والحدود، لدرجة أن الإسرائيليين باتوا مقتنعين بأن القدس هي جزء من الأراضي المحتلة عام 67، وأنه لا مجال للاحتفاظ بها مع ضمان عدد من المطالب. وكادت هذه المفاوضات أن تحقق نتائج ملموسة، لكنها توقفت بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والملاحقة القضائية لأولمرت. وفي العام 2010 أطلق الرئيس الأميركي أوباما محادثات مباشرة بين الرئيس عباس ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، سجلت هذه المحادثات تراجعا دراماتيكيا عما كانت عليه المواقف الإسرائيلية إبان عهد باراك وأولمرت، وتنصلت إسرائيل من البدء من النقطة التي انتهت منها المفاوضات السابقة، ورفض نتنياهو دعوة أوباما الى إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 67 مع تبادل للأراضي، أما بالنسبة للقدس فقال إنها خارج أي مفاوضات، مؤكدا أن المدينة ستبقى العاصمة الأبدية لإسرائيل. في العام الماضي أطلقت فرنسا مبادرة دولية لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، واقترحت مبادئ للحل تقوم على تثبيت حدود 67 حدودا للدولة الفلسطينية مع تبادل أراض بين الطرفين، وجعل القدس بشطريها عاصمة مشتركة يخضع الشطر الشرقي من المدينة للسيادة الفلسطينية والشطر الغربي للسيادة الإسرائيلية، على أن تكون المدينة مفتوحة لكن غير موحدة وأن يسمح لجميع الطوائف بحرية العبادة في شطري المدينة. وعقد في فرنسا مؤتمر دولي لتبني هذه الرؤية التي حظيت باجتماع أوروبي وموافقة أميركية وعربية، غير أن إسرائيل رفضت المبادرة وشنت هجوما شديد اللهجة ضد فرنسا. ويبقى الدور الأميركي هو الأكثر أهمية في التعامل مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي قضية القدس على وجه الخصوص. "الفلسطينيون الذين استقبلوا ترمب في بيت لحم مؤخرا وهم أكثر تفاؤلا، غادرهم الرئيس الأميركي بشعور يعتريه الإحباط، وكأن الإدارة الأميركية نقضت غزلها فيما يتعلق بحل الدولتين" نقل السفارة فمواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة كانت تقوم على مبدأ عدم الاعتراف بضم القدس لإسرائيل، وبناء على هذا الموقف يصدر دوريا كل ستة أشهر قرار رئاسي بتأجيل نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وهذا التأجيل مرشح لأن يستمر في عهد الرئيس ترمب. وإذا كان صحيحا ما قيل عن الرئيس ترمب من أنه أكثر جرأة في التعامل مع إسرائيل من سابقيه، فإن الصحيح أيضا أن هذه الجرأة لن تبلغ حدا يمكنه على الأرجح من لجم إسرائيل ووقف مشروعها الاستيطاني، وإرغامها على قبول حل عادل للقضية الفلسطينية. والفلسطينيون الذين استقبلوا ترمب في بيت لحم مؤخرا وهم أكثر تفاؤلا، غادرهم الرئيس الأميركي بشعور يعتريه الإحباط، وكأن الإدارة الأميركية نقضت غزلها فيما يتعلق بحل الدولتين، فلم يتطرق الرئيس الأميركي في حديثه لا إلى حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني كما كان متوقعا ولا إلى خطر الاستيطان على العملية السلمية ولا إلى معاناة الشعب الفلسطيني ومعاناة أسراه المضربين عن الطعام في سجون الاحتلال. ما تسرب من لقاء ترمب مع الرئيس محمود عباس: إشادة الرئيس الأميركي بالتنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، ومطالبة الفلسطينيين بوقف "التحريض" ضد إسرائيل، وبدا كأنه يستعيد كلمات ومصطلحات بنيامين نتنياهو بالإضافة إلى حديثه حول أهمية انخراط الفلسطينيين والإسرائيليين في جهود مكافحة للإرهاب، بالإضافة إلى أهمية فتح إسرائيل تسهيلات ذات مغزى للفلسطينيين. أما فيما يتعلق بالمسار السياسي فهو ما لم يكشف عن تفاصيله، لكنه أكد التزام الإدارة الأميركية بمواصلة الجهود لدفع عملية السلام بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. "مستقبل مدينة القدس لن يحدده لا الرئيس ترمب ولا بنيامين نتنياهو، وإنما يحدده الشعب الفلسطيني والمقدسيون" مسار مختلف مسؤولون كبار في حاشية ترمب، أكدوا أن الرئيس الأميركي بصدد بلورة مسار تفاوضي مختلف عن المسارات التفاوضية السابقة، وسيكون مسارا سريعا حده الأقصى 16 شهرا، ويكون أقرب إلى "الصفقة السياسية". ومن غير الواضح ما إذا كان هذا المسار ثنائيا أم إقليميا أم أنه "إعادة تدوير" للمبادرة العربية. وأيا كان هذا المسار، فلدى المراقب ما يكفي للاعتقاد بأن نتائجه لن تلامس الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية وخاصة ما يتعلق بالقدس. وهذا يحتم على القيادة الفلسطينية أن تكون أكثر حذرا في التعامل مع هذه الطروحات، حتى لا نقع مجددا في مصيدة سياسية تلوح بوادرها في الأفق. وخلاصة القول أن مستقبل مدينة القدس لن يحدده لا الرئيس ترمب ولا بنيامين نتنياهو، وإنما يحدده الشعب الفلسطيني والمقدسيون في طليعته الذين يملكون رصيدا من الإرادة يمكنهم من الدفاع عن وجودهم ومقدساتهم وعروبة مدينتهم مهما طال زمن الاحتلال، ذلك لأن عروبة القدس يحسمها الصمود المقاوم وليست مفاوضات الحائط المسدود.