شكّلت المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية حالة فريدة من نوعها، في مجال العلاقات الدولية، وفي شأن التسوية بين أطراف دولتية متصارعة، كما في موضوعاتها، ومداخلاتها الدولية والاقليمية، ورموزها السياسية والأخلاقية والتاريخية، بسبب عدّة عوامل أهمها: 1 إنّ هذه المفاوضات تجري بين طرفين لا يعترف أحدهما بالآخر تماما، بما لذلك الاعتراف من معنى قانوني وسياسي وأمني وتاريخي وأخلاقي، وفي اعتقاد كل من الطرفين، بأنّ أي اعتراف تام بالطرف الآخر سيرتب على الطرف المقابل مسؤوليات سياسية وأخلاقية وقانونية، كما سيترتب عليه مراجعة روايته التاريخية. وبالتالي فإنّ هذه المفاوضات تنطلق من رؤية مسبقة، لدى كل من طرفيها، مفادها أنّ أي مكسب للطرف الآخر سيكون على حساب وجوده، أو نفيًا له، أو على الأقل تحديدا لهذا الوجود. 2 هذه المفاوضات هي مرجعية ذاتها، أي أنّ التوافق بين طرفيها هو أساس العملية. وفي ذلك بديهي أنّ اسرائيل، من موقعها القوي والمسيطر، هي التي تتحكّم بمسارات العملية التفاوضية، وقضاياها، وأولوياتها، ونتائجها، بدعم من الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي باتت راعية ما يسمّى عملية السلام، لاسيما أنّها القطب المقرّر على الصعيد الدولي. وتفيد التجربة التفاوضية برفض اسرائيل المستمر لتدخل أي طرف بشأن مفاوضاتها مع الفلسطينيين، من الأممالمتحدة إلى أوروبا، وحتى أنّها مانعت عديد من التدخلات الأمريكية، التي كانت تجد أنّها لا تتلاءم مع تعريفها لأوضاعها ومصالحها. وفي كل ذلك كان الفلسطينيون عرضة لاستفراد اسرائيل، وتحت رحمة ابتزازاتها، فهي التي تقرّر ما تعطيه وما لا تعطيه، وما تبحثه أو ما لا تبحثه في المفاوضات، فليس ثمّة مرجعية قانونية أو دولية، بالنسبة لاسرائيل. 3 تفتقد هذه العملية أيضا لأي جدول زمني، على المستويين التفاوضي والتطبيقي، فمنذ أن قال اسحاق رابين (رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق) بعدم وجود مواعيد مقدسة، بات لا أحد يعرف متى تنتهي المفاوضات الانتقالية أو النهائية، وبديهي أنّ لا أحد يعرف متى يتمّ تطبيق ما يتمّ الاتفاق عليه!! 4 لا يوجد البتة أي تكافؤ في القوى بين الطرفين المعنيين بالمفاوضات، بل ثمّة اختلال كبير في القوى والمعطيات الاقليمية والدولية لصالح اسرائيل، التي تسيطر على الأرض وتتحكم بمناحي الحياة لدى الفلسطينيين، وهذا يخلّ تماما بأسس التفاوض، التي تفترض وجود نوع من التكافؤ ولو نسبي. 5 إنّ هذه المفاوضات تجري في ظلّ معطيات دولية وعربية مواتية لاسرائيل، خصوصا في ظلّ هيمنة الولاياتالمتحدة على النظام الدولي، وحال العطب والتشتت في النظام العربي، ومناخات الحرب الدولية ضد الارهاب، والاحتلال الأمريكي للعراق. 6 إنّ ادارة الفلسطينيين لهذه المفاوضات فيها عديد النواقص، ومنها تخلف الادارة، وضعف التنظيم، والطريقة الفوقية لصنع القرارات، والانقسام الداخلي، وغياب حالة من الحراك في حقل التفكير السياسي، التي يمكن أن تولد الأفكار وترشّد العملية التفاوضية بين مسائل أخرى. 7 فوق ذلك كلّه فإنّ اسرائيل، وبغض النظر عن واقعة قيامها، ترفض الاعتراف ولو بمجرد كونها دولة محتلة لأراضي الفلسطينيين في الضفة والقطاع (عام 1967)!، فكيف يمكن تصوّر مفاوضات في ظلّ هذا الواقع، تنطلق من هذه البداية غير المنطقية؟ 8 منذ البداية ظلّت هذه المفاوضات مرتهنة للاعتبارات الاسرائيلية ولتبدلات الحكومات الاسرائيلية، وكأنّ هذه المفاوضات تجري بين الاسرائيليين أنفسهم، وليس مع طرف آخر! هكذا ضيع نتنياهو ثلاثة أعوام من عمر التسوية، بعد أن شكّل الحكومة الاسرائيلية، اثر سقوط حكومة حزب العمل (1996 1999)، وهكذا جمد باراك التسوية الانتقالية بدعوى الذهاب للتفاوض على قضايا الحل النهائي، وهو ماأدى إلى اندلاع الانتفاضة اثر فشل مفاوضات كامب ديفيد 2 (جويلية 2000)، وهكذا تمّ تقويض اتفاقات اوسلو في عهد شارون (2000 2005) ومعاودة احتلال مناطق السلطة، وطرح فكرة الانسحاب الأحادي من قطاع غزة (2005). على ذلك، وباختصار، فإنّ المفاوضات التي لا تعترف فيها اسرائيل بمكانتها كدولة استعمارية محتلة، ولا بأية مرجعية دولية وقانونية، وحيث تتمتّع بتفوق في القوى، وتسيطر على الأرض وعلى حياة الفلسطينيين، الذين يعيشون تحت رحمة اسرائيل والدول المانحة، هذه المفاوضات لا يمكن أن تجلب سلاما، ولا حتى تسوية متوازنة ونسبية، ولكنّها يمكن أن تقدم مجرد تسوية جزئية ومؤقتة وسطحية، فقط، وهذا هو التفسير الممكن لهذه العملية التفاوضية. والمفارقة، أنّ اسرائيل وعلى رغم الاختلال في موازين القوى لصالحها، لم تقتنع بصدقية توجه الفلسطينيين (الطرف الضحية الذي يخضع للاحتلال) بالقبول بحلّ وسط تاريخي يتأسّس على تقسيم أرضهم التاريخية إلى دولتين: اسرائيلية وفلسطينية، والرضوخ بمجرد قيام دولة لهم بالضفة الغربية وقطاع غزة. وتواظب اسرائيل على التشكيك بنوايا الفلسطينيين، انطلاقا من مسألتين، أولهما، ربط الفلسطينيين قبولهم بحل الدولتين، باعترافها بالقرار 194، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والقاضي بالسماح للاجئين بالعودة إلى ديارهم التي شردوا منها عام 1984، والتعويض على من لا يرغب بالعودة، وثانيتهما، أنّ الكيان الفلسطيني الناشئ، بالنسبة للفلسطينيين، هو بمثابة حصان «طروادة»، غرضه تهديد الدولة الاسرائيلية، وفق عقلية المراحل، التي تعني أخذ ما يمكن أخذه في هذه المرحلة، للانتقال إلى مرحلة مطالب أخرى. وبنظر اسرائيل فإنّ الاصرار على حق العودة للاجئين هو مجرد محاولة فلسطينية لتقويض الطابع العبري للدولة الاسرائيلية، أمّا قبول الفلسطينيين بقيام دولة لهم في الضفة والقطاع، فهو ليس الاّ نوع من التحايل على موازين القوى، والمعطيات الاقليمية والدولية الراهنة. طبعا لا يفوت اسرائيل أن تؤكد وجهة نظرها هذه بنمو نزعات التطرّف والتشدّد والعنف في الساحة الفلسطينية، على حساب نزعات الاعتدال والمفاوضة، كما تدلّل على ذلك بصعود نفوذ حماس، وبتوجه عديد من الجماعات الفلسطينية، نحو انتهاج المقاومة وفق نمط العمليات التفجيرية في المدن الاسرائيلية. أمّا في السلوك التفاوضي الاسرائيلي، فمنذ بداية العملية التفاوضية، التي انطلقت من مؤتمر مدريد (1991)، ولاسيما منذ لحظة توقيعها اتفاق اوسلو مع الفلسطينيين (1993)، تعمّدت اسرائيل التملّص من الاستحقاقات المطلوبة منها في هذه العملية، بحيث أنّ الفلسطينيين لم يسيطروا إلاّ على حوالي 27 بالمائة من أراضي الضفة الغربية، بصورة مباشرة وغير مباشرة، طوال المراحل التفاوضية السابقة. ويمكن تحقيب العملية التفاوضية الفلسطينية الاسرائيلية، في المسارات والتحولات التي مرّت فيها، بخمسة مراحل: الأولى، (1993 1996)، أي من التوقيع على اتفاق اوسلو، إلى حين سقوط حزب العمل وصعود «الليكود» إلى رئاسة الحكومة، وهي مرحلة مهدت لقيام السلطة الوطنية، بعد انسحاب القوات الاسرائيلية من المدن الفلسطينية، كما شهدت اجراء انتخابات المجلس التشريعي (1996). لكن حزب العمل لم يذهب في هذه المرحلة نحو تحقيق انسحابات واسعة وجدية من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولم تجر حلحلة لموضوع المعابر. وفي تلك المرحلة ابتدع اسحاق رابين، رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق، مقولة أنّ «ليس ثمّة مواعيد مقدسة» في التفاوض مع الفلسطينيين، للتملص من استحقاقات الانتشار في المرحلةالانتقالية. المرحلة الثانية (1996 1999)، بدأت مع صعود نتنياهو وحزبه الليكود إلى رئاسة الحكومة، إلى حين سقوطه في الانتخابات. وقد بيّنت تلك المرحلة أنّ طبيعة النظام السياسي الاسرائيلي تساعد على التملص من الاتفاقات التي تمّ التوقيع عليها، كما بيّنت أنّ الولاياتالمتحدةالأمريكية لا يمكن أن تذهب بعيدا في الضغط على اسرائيل، لإرغام حكومتها على تغيير موقفها، مراعاة لحساسياتها، وايدلوجيتها، وطريقة عمل نظامها السياسي. وفي هذه المرحلة ابتدع بنيامين نتنياهو فكرة «التبادلية»، بحيث ضيّع ثلاثة أعوام من عمر عميلة التسوية، في الجدل بشأن امكان الانسحاب من 1.13 بالمائة من أراضي الضفة والقطاع، مع تحويل 3 بالمائة منها إلى محمية طبيعية. وهذه المرحلة شهدت انتفاضة النفق (المسجد الأقصى) واتفاقي الخليل (1997)، وواي ريفر (1998). ويمكن التأريخ للمرحلة الثالثة من المفاوضات باحتلال باراك (زعيم العمل)، موقع رئاسة الحكومة (1999 2001)، حيث استمرت التملصات الاسرائيلية المتعلقة بتنفيذ استحقاقات اتفاق اوسلو الانتقالية. وفي هذه المرحلة برز طلب باراك المتعلق بالتحوّل نحو التفاوض على قضايا الحل النهائي مباشرة ومرّة واحدة، الأمر الذي تمّ له بدعم أمريكي، في مفاوضات كامب ديفيد 2 (ماي/جويلية 2000). وفي الحقيقة فإنّ باراك حينها لم يكن متحمّسا للتسوية، بقدر ما كان يريد تجنّب استحقاقات المرحلة الانتقالية، وتجنيب اسرائيل المسؤولية عن انهيار اتفاق اوسلو، وتحميلها للفلسطينيين. وهكذا عندما باءت مفاوضات كامب ديفيد بالفشل، بسبب المناورات والاملاءات الاسرائيلية، قامت ادارة كلينتون بتحميل المسؤولية على ذلك للقيادة الفلسطينية، من غير وجه حق. وفي هذه المرحلة اندلعت الانتفاضة، في محاولة من الفلسطينيين للمزاوجة بين الانتفاضة والمفاوضة، كذلك فقد شهدت هذه المرحلة مفاوضات طابا (2001)، وتمّ بعدها اطلاق مقولة عدم وجود شريك للتسوية في الطرف الفلسطيني. أمّا المرحلة الرابعة فهي التي شهدت صعود نجم شارون واحتلاله موقع رئاسة الحكومة (2001 2005) ثم تأسيسه حزب كاديما، ثمّ مجيء حكومة (كاديما العمل) برئاسة ايهود أولمرت. وقد شهدت هذه المرحلة (إلى حين رحيل الرئيس ياسر عرفات) انقطاع المسار التفاوضي، بين الفلسطينيين والاسرائيليين، ومعاودة اسرائيل احتلال مناطق السلطة، ومنعها من أي تواجد أو نشاط سياسي في مدينة القدس، اضافة إلى قيام اسرائيل بتقويض مؤسسات السلطة، وتدمير البنى التحتية للأراضي الفلسطينية، وتشديد الحصار الاقتصادي والعسكري عليها، من خلال مئات الحواجز العسكرية وبناء الجدار الفاصل. وفي المراحل الأخيرة لهذه الحقبة، وللتملص من خطّة «خريطة الطريق»، التي طرحتها ادارة بوش (2003)، اتجهت اسرائيل نحو طرح خطّة الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة، ونفذتها في العام 2005، ولكن على شكل تحويل قطاع غزة إلى سجن كبير. وبعد ذلك جاءت حكومة «كاديما» و»العمل» على خلفية انقسامات وتحولات في حزبي الليكود والعمل، التي طرحت فكرة الانسحاب الأحادي من الضفة الغريبة (بحسب الرؤى الاسرائيلية)، ثمّ ما لبثت أن طوت هذه الفكرة اثر اخفاق حرب لبنان (2006). ومعلوم أنّ هذه الحكومة تلح في هذه الفترة للتوافق على مجرّد اتفاق رفّ، ينتقص من الحقوق الفلسطينية (لاسيما بالنسبة لقضيتي اللاجئين والقدس)، ويشرع قضم اجزاء من أراضي الضفة، من دون أن يرتبط ذلك بتنفيذ اسرائيل لانسحابات واسعة في الأراضي المحتلة، بمعنى أنّ اسرائيل تريد موافقة الفلسطينيين على رؤيتها للتسوية، من دون أن تقدّم لهم شيئا بالمقابل، ولو كان شيئا ناقصا، بدعوى عدم جاهزية أوضاعها الداخلية. ومع تفحّص هذه التجربة التفاوضية يتضّح، أولا، أنّ النظام السياسي الاسرائيلي، الحزبي والتداولي، سهّل على اسرائيل تملّصها من الاتفاقات الموقعة، وثانيا، بيّنت كم ان اسرائيل مجنونة بالتفاصيل التفاوضية، بحيث أنّها استطاعت تحويل عملية التسوية إلى متاهة يصعب التحرّك في دهاليزها، أو الخروج منها، ودليل ذلك أنّ هذه التسوية التي يفترض أنّها تتطلّب انهاء الاحتلال للضفة والقطاع (نقطة وانتهى)، إذ بها تتطلّب مئات من صفحات من اتفاقات ومذكرات وبروتوكولات، ومئات من المفاوضين، والجلسات التفاوضية الطويلة، الثنائية والمتعدّدة والدولية! وثالثا، بيّنت بأنّ اسرائيل تتعمّد شراء الوقت، وأنّها لا تيأس من توليد الاتفاق تلو الاتفاق، والمذكرة تلو الأخرى، والبروتوكول بعد البروتوكول، حول أي قضية، في حين أنّها طوال ذلك تتصرّف وكأنّ وجودها الاحتلالي باق إلى الأبد في هذه الأراضي، بدليل مضاعفة المستوطنين والمستوطنات منذ انطلاق عملية المفاوضات (مطلع التسعينيات)، في الضفة الغربية ولاسيما في منطقة القدس، وبدليل تغيير معالم هذه المناطق من خلال شق الطرق الالتفافية والأمنية واقامة المعابر، على خلالها، وتشييد الجدار الفاصل، الذي يعزل المناطق الفلسطينية ويطوقها من كل جانب، ويفصل أي تواصل بينها. ويمكن الاستنتاج ممّا تقدّم، وبسحب التجربة التفاوضية، بأنّ اسرائيل هي التي عوّقت هذه العملية، وتملصت من استحقاقاتها (أكثر بكثير من الفلسطينيين)، رغم كل الإجحاف الكامن فيها بالنسبة لحقوق الفلسطينيين، على خلاف الانطباع السائد، في الساحة العربية، بأنّ اسرائيل تلهث وراء التسوية، وأنّ هذه التسوية (على علاتها) مطلب اسرائيلي، ما يؤكد الطابع الملتبس والإشكالي للموقف الاسرائيلي، من هذه القضية.