كتبت البارحة، أنّ يوم 20 نوفمبر يعدّ البرزخ أو الفاصل بين فترة كنت فيها أنا نفسي، ذلك الموظّف المنضبط والضابط النّاجح والمُكوِّن للأجيال المخلص لله ثمّ لبلده... وبين أخرى كنت فيها أنا نفسي، ذلك الرّاضي بقضاء الله تعالى النّاطق بكلمة الحقّ الضعيف الباحث عن الدّعم القويّ الموقن بمعيّة الله تعالى المردّد كثيرا لقولته صلّى الله عليه وسلّم للغلام: [واعلم أنّ الأُمّة لو اجتمعت على أَن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء، لم يضرّوك إلّا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفّت الصحف]... طُرق الباب... فكان به وجهٌ صبوح صدوق... ترفّق... أبى الدخول... استعجلني... تجهّزت... خرجت... امتطينا السيارة المركونة هناك غير بعيد... لقد حصلوا على بعض الحلقات ويُخشى أن تسحب السلسلة بكاملها... والأفضل الدخول في عالم الاختفاء حتّى حين!... أصررت أن لا!... كنت وقتها أمرّر شريط ما ينجرّ عن الاختفاء وكان أسوأ المشاهد فيه على الإطلاق إيذاء زوجتي وعائلتي!... وصلت مركز الصكوك البريديّة... سحبت مرتّبي كاملا (والمرتّبات يومها تصرف قبل انتهاء شهرها)... سلّمت المبلغ كاملا لنجاة (أمّ أولادي ورفيقة الدّرب)... سألتْ: ما الأمر!... أفهمتُ بما قلّ... احتسبتْ وكتمتْ واستلمتْ آنيّا المسؤوليّة والقِوامة!... سمعتْ أختي (وقد كانت يومها ضيفتنا) فولولتْ وما تحمّلتْ!... كان اليومُ يومَ سَبتٍ وكنت أتابع مقابلة الترجّي الرّياضي التونسي (وأنا "مكشّخ" قديم) مع فريق غورماهيه، لمّا طُرِق الباب ثانية... استكشفت من النّافذة، فإذا المرافق قد حضر!... فتحت الباب... سألت ما الأمر!... قال بأدب: أمر طارئ يحتاج وجودك بالثكنة!... استأذنته... حلقت ذقني... لبست بدلة القتال... حنوت على الأكباد (يسري بنت 3 سنوات وثلاثة أشهر ويوم واحد - إيمان بنت سنة واحدة وعشرة أشهر وأربعة أيّام - معاذ ابن 25 يوما)... غسلتهم بدموع الوداع... فعلت قريبا من ذلك بزوجتي وأختي!... محوت بعد ذلك كلّ ذلك ثمّ خرجت لمرافقي مقاتلا يريد حلّ معضلة الأمر الطارئ بالثكنة!... لم أكن يومها لوحدي في السيارة المقلّة، فقد كان معي أخي وابن دورتي محمّد النّاصر التيمومي من سلاح مدفعيّة الميدان!... كانت المشاهد عندي واضحة، وكان عملي يتلخّص فقط في عدم إظهار ما يختلج بالنّفس!... وأعترف الآن أنّ ذلك لم يكن بالأمر الهيّن!... تبيّن (وهو عندي بيّن) أنّ الأمر المستحدث ليس في ثكنتنا ببوفيشة ولكنّه بالعاصمة!... غيّرت سيّارتنا مسارها إلى العاصمة دون تغيير طاقمها ودون إقلاع مرافقنا عن مزاجه الطيّب (وإنّي لأترحّم بالمناسبة على عبدالجليل بن يونس وأشهد الله أنّي لا أحمل عليه غلّا أو غيظا)!... وصلنا مثلّث "المخابرات"، وفيه شخص قد تميّز زمن الدراسة بالقصور والخفوت وتميّز يومها بنشوة الحصول على أسياده صيدا ثمينا يُذهب بعضا من مركّباته أو يعدّلُها!... أحتقره حتّى الموت وأحتقره بعد الموت وأحتقره يوم القيامة إلّا أن يأتي بعمل ينسف احتقاري له ويُرضي عنه ربّه جلّ وعلا، فهو وحده الحكم وهو الذي سوف ينزع الغلّ!... كنت أدافع الخوف وقتها حتّى انتصب هذا الجبل في المكان وبسط جريدة يصلّي عليها ليسمعنا بصوت نديّ جميل ربّاني قرآنا كأنّما أسمعه لأوّل مرّة: [وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا]!... قرأها سيّدي عبد السلام الخمّاري بشكل أذهب الكثير ممّا أعاني، وأعادني إلى ضرورة التعامل مع الواقع الجديد!... ثمّ وقع بعدها تحويلنا إلى ثكنة العوينة أين مكثنا ما كتب الله لنا، ليقع اقتيادنا فيما بعد إلى مقرّ الدّاخليّة حيث قام النّظام بتسمين الكثير من الثيران والخنازير وجعل قمّة سعادتها كامنة في كسر عظام الآدميين وصعقهم وإهانتهم وتقتيلهم!...