طالت نومتي في حديقة الكنيسة فوق العشب.. ولكن عندما حميت الشمس استيقظت وعندما فتحت عيني وجدت الراهبة على بعد أمتار مني وبيدها كتاب تماما كالمرة الأولى التي رأيتها فيها.. نظرت إليها ونظرت إليّ ولكنها أشعرتني وكأنها مهتمة بأمري.. نهضت.. وحاولت أن أنفض ثيابي وأنا أفرك عيني وأحاول أن أنسى إرهاقي وصدمة الليلة الفائتة مع فيفي التي ثبت لي أنها ليست أنثى وإنما هي رجل يتخفى في ثياب امرأة ولكن تخفيه كان في شدة الإتقان.. اتجهت نحو الراهبة وسلمت عليها فردت بتحية حارة أسعدتني وطمأنتني.. قالت لي: هل تريد أن تغتسل؟ قلت: أتمنى ذلك.. قالت: إذن.. اتبعني.. لم أصدّق أن هناك في هذا الكون امرأة بهذه البراءة.. بهذه الطيبة.. بهذه الإنسانية.. التفتت إلي بمودة وادخلتني الى الكنيسة.. كانت كنيسة فخمة.. وأنيقة.. وذات هندسة قديمة وجدرانها كلها لوحات ونقوشات وكتابات في منتهى الجمال والذوق.. ولفت نظري أن هناك في زاوية ما تمثالا ضخما وعظيما لشخص يقرأ كتابا مفتوحا وهو يبتسم.. شدّني هذا التمثال بل أثار انتباهي واعجابي فسألت الراهبة: من يكون هذا الشخص؟ قالت بسرعة: إنه الأب فريديريكو بونيتو الذي بنى هذه الكنيسة ورعاها وأقام فيها أكبر وأهمّ مكتبة في باليرمو وقد مات وهو يقرأ وكان مغرما بالقراءة حتى أنه كان يقرأ كل يوم كتابا.. لقد كان هذا الراهب أعجوبة من أعاجيب الزمان.. فقلت بصوت منخفض: والله ليس هناك في هذا الزمان إلا الأعجوبة التي أمامي وهي أنت أيتها الراهبة الطيبة.. سألتني: لم أسمع ما قلت؟ قلت لها: لا شيء.. لا شيء.. لقد كنت أهذي فأنا كثير الهذيان.. تعجبت من اعترافي بالهذيان ولكنها لم تهتم كثيرا.. قادتني الى جناح خاص حيث وجدت الدوش والحمام وكل ما يلزم لكي يتطهّر الإنسان.. كان الجناح في منتهى الأناقة والنظافة والتناسق.. يتناسب تماما مع فخامة الكنيسة التي لا يوحي شكلها الخارجي بكل ما في داخلها من أبهة وفخامة وذوق وفن ولكن دون بذخ.. اغتسلت جيّدا.. وخرجت لأبحث عن الراهبة فوجدتها دون عناء.. قالت لي: هل تريد ان تشرب قهوة وتأكل قليلا؟ غير معقول!!! هذا غير ممكن!!! ما هذا الكرم.. وما هذا الحنان الذي لم أشعر به من قبل.. كدت لا أصدّق!!! أخذتني من يدي إلى جناح آخر من الكنيسة وعندما مسكتني من يدي بيدها الرقيقة كاد يغمى عليّ.. لقد حسّستني بإنسانية ورأفة ورحمة ومودّة.. وتمنيت لو أن يدها لا تفارق يدي.. إنني أشعر بتلك الطمأنينة التي كنت طوال عمري أبحث عنها.. نظرت الى وجهها وهي تمسك بيدي فلم أر وجها عاديا.. أو مألوفا.. لقد رأيت وجه رضيع يبتسم ووجدت ملاكا يقول لي: لا تخف.. اطمئن.. لا تجزع.. لا تفزع.. انس أنك فوق الأرض.. مشاعر لم أشعر بها من قبل اضطربت بداخلي.. ولكنها كانت مصحوبة بطمأنينة لطالما بحثت عنها.. وصلنا الى الجناح الذي سأفطر فيه.. إنه جناح يشبه حديقة من نوع خاص تتوسطها طاولة كبيرة وحولها عدد من المقاعد.. وجدت طبقا في انتظاري: بعض الحلويات وأكواب من الحليب وقطع من الخبز والجبن وقهوة كابوتشينو.. أكلت قليلا وبسرعة.. ثم تمتعت حقيقة بالقهوة.. كل ذلك وهي واقفة وتنظر إليّ نظرة لم أستطع الى الآن أن أفسرها.. هل هي نظرة أمّ لولدها! أخت لأخيها! صديقة لصديقها! لم أفهمها.. ولكنني كنت طوال النظرة قد غادرت الأرض.. لقد انتقلت الى عالم آخر لم أره من قبل وصرت فيه كطفل صغير مجرّد من كل الشهوات والنوازع والرغبات.. تحوّلت الى طفل مشبع بالحنان.. لقد صرت عبارة عن كتلة من الحنان.. ورحت أتجول وأتنقل وأتحرّك في ذلك العالم بكل حرية وانطلاق وثقة بالنفس وتحررت من الخوف.. وكنت أقول لنفسي: أنا الآن حرّ وحرّ وحرّ.. وعندما فرغت من تناول القهوة سمعت صوت الراهبة فأيقظتني وأعادتني الى الأرض.. قالت لي بكل مودة: أنا الآن سأغادر الكنيسة وأذهب الى السوق.. طلبت منها العفو ان كنت قد تسببت لها في بعض المتاعب وعطلتها عن شأن من شؤونها.. فابتسمت وقالت: لا عليك.. مازال عندي متسع من الوقت.. غادرنا الكنيسة.. ولما خرجنا الى الشارع ترددت أن أطلب منها مرافقتها الى السوق.. ولكنني تجرأت فقلت لها: هل تسمحين لي بمرافقتك الى السوق..؟ إنني حرّ وحرّ وحرّ.. ثم أنني مطمئن ومطمئن ومطمئن.. ولا أريد أن أعود الى ما كنت فيه.. لم تتردد في الموافقة.. وقالت: تعال معي سنترافق.. كانت وهي تمشي معي وكأنها غصن رقيق من شجرة صغيرة جدا.. إنها فتاة نحيلة جدا.. لونها يميل الى السمرة.. وشعرها أسود كليل شتائي.. وقد لا تتجاوز الخامسة والعشرين.. كانت تخطو خطواتها بثبات ولكن بحزم وكأنها غزال.. وعندما كانت تلتفت نحوي وأرى وجهها الطفولي تصيبني كالإغماءة.. ولم يسعفني عقلي على فهم ما يحدث لي كلما رأيت وجهها ولماذا يحدث لي ما يحدث.. إنه شيء ربّاني.. بل اعتقدت في لحظة اعتقادا جازما أن المسألة تتجاوزني وتتجاوزها.. هناك تدبير رباني لا هي تفهمه ولا أنا أفهمه.. فإلى أين المفرّ من هذا الوجه القدر؟ ولكن! رسالة إلى السيّدة سهام بن سدرين أنا أعرف وأقدر معاناتك ونضالاتك.. ولم يحدث أن شككت فيها وإذا صدر منّا ما يسيء إليك في «الصريح» فإنه صدر في ظروف لم نكن نحكم فيها في أمرنا ولا في ارادتنا ولا في الجريدة أصلا.. وكل الذين يشتغلون في الإعلام يعرفون ذلك ويعلمون أن الصحفيين لم يكونوا أحرارا وكانوا يشتغلون بمنطق «اشرب وإلا طيّر ڤرنك».. ولولا ذلك لما قامت الثورة أصلا.. وقيامها يؤكد أننا جميعا كنا بشكل أو بآخر وبدرجات متفاوتة «تحت الصبّاط».. أنا شخصيا كنت أشعر يوميا بالذل والاضطهاد والظلم.. ولكنني كنت «أبلع السكينة بدمها» لعدة أسباب أهمها: انه لا حول لي ولا قوة ولا أستطيع مواجهة دولة بوسعها وبكل بساطة أن «تطيّرني بنفخة» فمن أنا؟.. وما أنا في نهاية الأمر إلا مواطن عادي.. ولذلك فإن ظلمناك أو أسأنا إليك أو قلنا فيك عكس ما يجب أن يقال فيك فإن مثلنا هو التالي: سألت قطعة الخشب المسمار بقولها: آش بيك يا خويا نازل عليّ وداخل فيّ.. أجابها المسمار بقوله: آه يا أختي لو تعرف أشنوة اللي هابط عليّ.. توّه تعذرني.. وكانت قطعة الخشب تقصد المطرقة.. ونحن كذلك كانت المطرقة تنزل علينا يوميا بصورة من الصور وقد تألمنا.. وتوجعنا.. وعانينا.. وصبرنا.. وصابرنا.. وكان شعارنا في ذلك: دوام الحال من المحال.. وتلك الأيام نداولها بين الناس.. إنني بهذا لا أبرر.. ولكنني أحاول أن أفسّر حتى تتوضح الصورة أمامك.. وحتى تقتنعي أكثر فأكثر بأننا لم نكن من أعدائك أو من الذين ضدّك.. بل بالعكس كنا نحترمك ونقدرك وليس بيننا إلا ما سوف يوطّد علاقاتنا التي أعتبرها علاقات أخوة ومودة تعود الى سنوات قديمة عندما كنت صاحبة دور نشر وكنا كثيرا ما نلتقي في معرض الكتاب فنتجاذب أطراف الحديث عن الثقافة والنشر وكنت أكتب عنك في «الصباح» بكثير من المحبة والاحترام والتشجيع.. يا سيدة سهام: نحن لسنا «أولاد اليوم» ولذلك يجب أن لا نعالج الخطأ بالخطأ فتكون النتيجة اضافة خطإ ثالث وألم يقل ربّ العزة «ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم».. وإذا كنت مقتنعة بأن تحطيم صحفي في سني وقدري وتاريخي سينفع تونس وسيقدم لها خدمة وطنية تستفيد بها فإنني أقسم لك بأن أتولى تحطيم نفسي بنفسي وأشعل النار في جسدي على طريقة البوعزيزي.. المهم أن تكوني أنت مقتنعة بأن تحطيمي و«تطييح قدري».. و«تمرميدي» سينفعك انت شخصيا وينفع الوطن.. لقد أخطأنا معك.. نعم.. وسبق أن كتبنا هذا وأعلنا اعتذارنا للجميع وها نحن نخصك أنت بهذا الإعلان.. فهل هذا يرضيك؟ وهل هذا يكفي؟ وإذا كان الجواب بالنفي فإننا على استعداد للانسحاب من الميدان.. ومن تونس.. وحتى من الحياة.. فالمهمّ أن تدفعي بالتي هي أحسن ونلتقي ونشرب قهوة كأصدقاء أوفياء لا يأكلون لحم بعضهم البعض.. وحتى إذا صدر منا الآن أو في المستقبل ما قد لا يرضيك فإن ذلك لن يكون بسوء نية ولن يفسد للود قضية.. فنتعاتب.. ونصحح.. ونوضح.. ونطوي الصفحة ونعالج الموضوع بطرق صحفية ومهنية وبروح أخوية بعيدا عن كل ما من شأنه أن يعكر العلاقة الإنسانية..