في أكتوبر من سنة 2001 عقد وزراء السياحة لبلدان منظمة المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي لاحقًا) مؤتمرًا لتدارس أوضاع صناعة السياحة وخدماتها ومجالاتها والتنسيق بين البلدان الأعضاء في تنمية السياحة بينها وتبادل الخبرات والتجارب والعمل على تطوير صيغ من التكامل والتعاون وارتياد آفاق وأنواع جديدة في هذا المجال الحيوي الذي تتلافى فيه الثقافة والاجتماع والاقتصاد تلاقيًا عضويا. ومن الغريب أن تونس التي كثيرًا ما تغنى السياسيون والحكام وأهلُ الثقافة فيها بأنها بلد سياحي، غاب وزيرُ سياحتها حينذاك عن المؤتمر المذكور، ولم يكلف من ينوب عنه ويمثل البلادَ في ذلك الحدث المهم. ونظرًا لأن بعضنا أتيحت له فرصةُ حضور بعض وقائع المؤتمر وأنشطته لأغراض الترجمة، فقد كانت تلك مناسبةً للتعرف على بعض ما يدور في الكواليس. وحدثني صديق أنه في بعض جلسات الطعام والقهوة مع أعضاء بعض الوفود العربية الشمال أفريقية، جرى ذكرُ تونس وعدم تمثيلها بما يليق بمستوى لقاء وزاري، فقال أحدُهم إنه سمع من وزير السياحة التونسي في ذلك الوقت (لا أتذكر الآن اسمه) أو نُقِل له عنه قولُه متندرًا ساخرًا: وما علاقةُ ماليزيا بالسياحة؟!! فتساءلتُ حينها وما زلتُ أتساءل إلى يوم الناس هذا: هل البعضُ - وربما الكثيرون - ممن تُوكلُ إليهم مهامُّ كبيرة في مناصب عليا من مؤسسات الدولة والحكومة عندما يتكلمون في شأن من الشؤون التي تدخل ضمن صلاحياتهم يفعلون عن علم ومعرفة؟ هل يكلفون أنفسَهم عناءَ الاطلاع على المعطيات والمعلومات المتصلة بما يتكلمون فيه من مصادر موثوقة وذات مصداقية علمية دقيقة؟ هل يعتمدون فيما يستندون إليه من معلومات على خبراء في الشأن الذي يلوون فيه ألسنتكم؟ هل يسعون إلى أن يفصلوا في حكمهم على الأشياء والبلدان والأشخاص بين معطيات الواقع وحقائقه من ناحية ومنطلقاتهم الإيديولوجية ومواقفهم السياسية المسبقة من ناحية أخرى؟ وهل وهل وهل؟!!
أعود إلى حكاية وزير السياحة الهُمام في تلك الحقبة الحالكة من حكم المخلوع الهارب والتجمع المنحل، وهي حكايةٌ تضحك الصغار قبل الكبار، بل إنها في الحقيقة تُحزن القلب وتدميه. كانت ماليزيا في ذلك العهد بالذات ما تزال في أوج قمة صعودها الاقتصادي والسياسي خاصة وقد خرجت من الأزمة المالية التي ضربت دولَ المنطقة عام 1998 وأوقعت اقتصادات بعضها في الحضيض مثل تايلاند، بل لم تسلم من ذلك حتى كوريا الجنوبية، وذلك بفضل السياسات المالية التي صمم عليها الدكتور مهاتير محمد رئيس الوزراء ولم يستجب للتوصيات والنصائح التي كان يغدقها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على كل بلد ذي اقتصاد مأزوم فلا تزيده إلا تأزمًا ووبالا! أما في مجال السياحة فقد كان نصيبُ ماليزيا خاصة ومنطقة جنوب شرقي آسيا عامة من حجم السياحة العالمية في نمو مطرد وتصاعد متصل منذ أوائل التسعينيات من القرن العشرين، حتى إن عدد السياح الوافدين إلى ماليزيا من أوروبا وشمال أمريكا واليابان والصين والعالم العربي (وخاصة دول الخليج) قد جاوز الثلاثين وثمانية ملايين في بعض السنوات.
وقد تعزز ذلك الاتجاهُ بصورة ملحوظة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وخاصة السياحية الاجتماعية والاقتصادية الأسرية من دول مجلس التعاون الخليجي. ففي سنة 2003 مثلاً كانت عائداتُ ماليزيا من السياحة 7 مليارات دولار مقابل 25 مليوناً للترويج لها. ويبدو أن الوزير المشار إليه لم يكن له أدنى معرفة لا بأحوال ماليزيا السياسية والاقتصادية من حيث كونها من أكثر بلدان المنطقة استقرارًا وأنها كانت جزءًا من منظومة ما وصف خلال عقدين على الأقل بنمور جنوب شرقي آسيا بسبب نهضتها الاقتصادية المشهودة، ولا كانت له دراية ببيئتها الجغرافية والمناخية الاستوائية التي جعلتها مقصد الكثيرين خاصة من أهل المناطق الباردة، فضلاً عما تتمتع به من بنية أساسية وتطور تقني عال في مجال الاتصال والخدمات المصرفية، وقد جرى تعزيز كل ذلك بجهود تسويقية وترويجية متسقة زادت في جاذبيتها السياحية إلى حد كبير. بل إن ماليزيا لم تجعل السياحة فيها حكرًا على الوافدين إليها من خارجها من الأوروبيين والأمريكان وغيرهم، وإنما اعتنت اعتناءً مقدرًا بما سمي بالسياحة الداخلية Local or Internal Tourism الموجهة للمواطنين من أبناء المقيمين فيها توفيرًا لما يناسب الفئات المختلفة من المجتمع أن تستمتع هي الأخرى وتستجم كما يستمتع الأغراب ويستجمون!
وزادت الأمر تطويرًا وتحسينًا إذ أدخلت وأشاعات مفهوم السياحة الإسلامية Islamic Tourism رعاية للأفراد والأسر والمجموعات التي ترغب في قضاء إجازاتها والاستجمام في ظروف تمكنها من التمسك بقيم الحشمة والحياء والمحافظة الاجتماعية، يستوي في ذلك كثير من المسلمين وغير قليل من غير المسلمين. تذكرت هذه الواقعة التي مضى عليها أكثر من 16 سنة وأنا أرقب وأتابع ردود الفعل والتعليقات الصادرة عن طوائف من "نخب" الإعلام والسياسة والثقافة في تونس إزاء الزيارة الرسمية التي أداها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى البلاد على رأس وفد كبير من رجال الأعمال. ففي الحد الأدنى اتسمت تلك التعليقات وردود الفعل بقدر مقرف من سوء الخلق وعدم اللياقة، وفي حدها الأعلى كشفت عن قدر من الحقد على الآخر وكرهه لا مسوغ لهما ولا تفسير يقبلهما العقل السليم سوى كونهما نابعين من انغلاق إيديولوجي مقيت وانسداد في العقل السياسي وانطماس في الأفق الثقافي والفكري لمن صدرت عنهم تلك التعليقات وردود الفعل. فلم يحضر لديهم في هذه المناسبة من تركيا إلا شبح الإخوان المسلمين في صورة أردوغان وذاكرة عن العثمانيين أقل ما يقال فيها أنها قد تشكلت تحت وطأة التزوير والتشويه التي تعرض لها التاريخ العثماني خاصة والتاريخ الإسلامي عامة على نحو أو آخر.
وغابت عن هؤلاء تركيا الحديثة التي حققت قفزة نوعية في اقتصادها وصناعتها وتعليمها وخدماتها في العديد من المجالات حتى أصحبت قوة اقتصادية يحسب لها حسابها وقوة عسكرية لها اعتبارها، ناهيك بما تحقق لها من استقرار سياسي أنهى في تاريخها الحديث حقبة مدمرة من الانقلابات العسكرية العبثية المتلاحقة التي شهدتها منذ الستينيات حتى الثمانينيات من القرن الماضي، وحتى صار الشعب مستعدًا بل مصممًا على مواجهة دبابات الانقلابيين وطائراتهم دفاعًا عن حكومة منتخبة ورئيس منتخب مهما كان له من خلاف معهما، إيديولوجيًّا أو سياسيا. ويكفي تركيا فخرًا أنها صفًّت ديونها مع كثير من المؤسسات المالية والنقدية الدولية، واستمرت خطوطها الجوية سنوات متوالية تصنف باعتبارها أفضل ناقل أوروبي. غاب ذلك كله من الأفق السياسي والفكري والدبلوماسي والاقتصادي لذلك الرهط الذين كالوا السَّباب والشتم لأردوغان ومن احتفل بزيارته إلى تونس، وما دروا أنهم بذلك لا يفعلون شيئًا سوى كشف عوارهم وجهلهم وعجزهم، وأنهم بذلك لن ينفعوا بلدهم شرو نقير. فمتى ترشد نخبنا وترتفع بنفسها إلى مستوى التحديات التي تواجهها البلاد؟ ومتى يفكر المنتمون إليها تفكيرًا إيجابيًّا يخرجهم من ممارسة العويل والنبح الذي تستحيي من ممارسة مثله الكلاب وبنات آوى؟