بقلم: آسيا العتروس يصر الكثيرون منذ فترة على الترويج للمثال التركي على أنه الخلاص والمثال والخيار الافضل لتونس بعد الثورة بل ان الكثيرين وجدوا في زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الى بلادنا الاسبوع الماضي فرصة لاستعراض مناقب التجربة التركية وإمكانية تبنيها واستنساخها في تونس بعد الثورة. واذا كان من حق الجميع وقد بات التعبير عن الرأي حق مقدس أن يكون له رأيه في بناء مستقبل تونس فإن الحقيقة أن هذا الحق لا يمنح أحدا حق الوصاية أو فرصة التفرد بالرأي. والاكيد ان الحقيقة الوحيدة الثابتة حتى الان قبل موعد الحسم المرتقب عبر صناديق الاقتراع أن تحديد مسارهذا البلد وتقرير مصير كل الاجيال التي اشتركت في صنع الثورة أن هذا الحق لا يمكن أن يكون ولن يكون حصرا على طرف دون اخر أو فئة دون غيرها أو حزب أو شخصية دون غيرها، ولا مجال في تونس بعد 14 جانفي للاستفراد بالرأي. ومن هذا المنطلق فقد وجب على الذين يروجون لان تكون التجربة التركية نموذجا يحتذى أن ينزعوا النظارات السوداء التي تحجب عنهم الواقع القائم وتجعلهم لا يرون الا ما يرغبون في رؤيته ليس ما يجب عليهم رؤيته. والتجربة التركية على أهميتها ليست قابلة للتصدير من مجتمع الى اخر، واذا كانت تركيا نجحت في ايجاد طريقها بما يلبي ويرضي طموحات أغلبية شعبها فتلك مسألة تهم ستون مليون من أبناء الشعب التركي. فتركيا بما تملكه من موقع استراتيجي وبما تحقق لها اليوم من نمو اقتصاي ومن قوة عسكرية لا يستهان بها في المنطقة ومن انفتاح على الغرب بل وكذلك من خيارات فطنة وحكيمة في سياستها الخارجية في تعاملها مع ملف الارمن واليونان وحتى قبرص وفي بناء علاقات مميزة مع جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة كاذربيجان وكازاخستان يبقى لديها الكثير من الملفات الشائكة العالقة سواء تعلق الامر بتراجع الحريات فيها أو بملف الاكراد أوكذلك بدورها في العراق وحتى بمسؤوليتها في تسليم أحد الضباط السوريين المنشقين الى دمشق. وتركيا ليست البلد الاسلامي الوحيد الذي اعتمد تجربة العلمانية والحداثة ولمن شاء الاستفادة من تجارب قد تتفق أو تختلف مع التجربة التركية فهناك تجربة بعض الدول الاسيوية وبينها الهند الذي يوصف بأنه أكبر ديموقراطية في العالم وفيه أكبر عدد من المسلين وأندونيسيا وماليزيا وحتى بعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة والتي تختلف اختلافا جذريا مع تجربة ايران أو كذلك السعودية. قد لا يختلف اثنان أن شعبية رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان قد تجاوزت حدود تركيا الى بقية العالم العربي والاسلامي وهي شعبية قد لا يختلف اثنان أيضا بأنها كانت وليدة مؤتمر دافوس عندما انسحب أردوغان من المؤتمر بعد أن وجه للرئيس الاسرائيلي شيمون بيريز انتقادات لاذعة لم يسبق لاحد من القادة والزعماء العرب أن تجرأوا عليها من قبل ولعل ما زاد في صعود نجم أردوغان وجود الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى الذي ساعد بموقفه السلبي وعدم انسحابه من المؤتمر يومها في ترسيخ تلك الصورة البائسة للحاكم العربي الذليل أمام العدو المتغطرس على شعبه، وبالعودة الى أردوغان فلا شك أن الرجل قد نجح في الاستئثار بالاهتمام والاحترام حيثما حل وهو الذي جمع بين أناقة المظهر وأناقة الخطاب والفكر والتوجه... على أن الاهم أن ما تحقق لاردوغان لم يكن وليد الصدفة ولم يكن من فراغ وليس نتاج مؤتمر دافوس فحسب، وربما ما يتناساه الكثيرون أن أردوغان ما كان له أن يحظى بما يحظى به من شعبية في الداخل والخارج لو أنه لم يخرج عن جلباب الاب الروحي أربكان ولم يتبن المزاوجة بين الحداثة والعلمانية. فليس سرا أن مسيرة أردوغان انطلقت من بلدية اسطنبول الفريدة في موقعها بين اسيا وأوروبا وقد أدرك أردوغان أن ارضاء الناس جميعا ليس بالامر الهين فلم ينصب نفسه وصيا على الاسلام ولم يكفر أحدا ولم يدعي العصمة. ولعل من زار تركيا وتأمل بعضا من جوانب الحياة اليومية فيها قد لامس تلك الخصوصية التي تجعل من هذا البلد فسيفساء من الحضارات والثقافات والاديان... ملاحظة أخرى كان لا بد أن نسوقها لما فيها من معاني وهي أن أول ما بادر اليه أردوغان بعد عودته من ألمانيا حيث تخرج مهندسا أنه قام مع عدد من رفاقه بانشاء مصنع لمحركات السيارات حتى ينفع به بلاده قبل أن يخوض تجربته السياسية... ندرك جيدا أن التصحر الفكري الذي ساد البلاد على مدى عقود وما صاحبه من اقصاء وتهميش وابعاد لكل المكونات السياسية والفكرية غيرالمتطابقة مع نظام الاستبداد السائد تبقى وراء هذا الاقبال على النهل من التجربة التركية بحكم الكثير من عناصر التقارب. ولكن يبقى الاهم من كل ذلك أن يظل الحلم التونسي هو السائد وهو مصدر الالهام. تركيا أردوغان اليوم تستثمر ماضيها وتاريخها وحضارتها من أجل المستقبل ولدينا في تونس التي تجمع بين العروبة والاسلام والانتماء الافريقي والمغاربي والمتوسطي والبربري من الاسباب ليكون النموذج التونسي جامعا لهذه الفسيفساء ففي تونس أول دستور في العالم العربي وأول قانون لاحترام حقوق المرأة مع اقرار الزواج القيرواني الذي سبق في وجوده مجلة أحوال شخصية. لقد تجاوزت شهرة الزعيم مارتن لوثركينغ العالم وهو يخاطب الشعب الامريكي بقوله "لدي حلم (i have a dream)"، ومثله فعل أوباما بعد أكثر من نصف قرن عندما أطلق شعاره "نعم نستطيع (yes we can)" فهل تكون العقلية التونسية أقل من ذلك وهي التي أبهرت العالم بثورتها ضد الظلم والاستبداد والفساد وهل يقف هذا الشعب دون أن يكون له نموذجه التونسي بكل ما تعنيه هذه الخصوصية؟...