الشيخ الفاضل راشد الغنوشي السلام عليكم، وبعد تابعت منذ أسابيع بعضا من الحوارات الداخلية لأبناء النهضة وشيئا من السجالات المفتوحة حول المؤتمر القادم للحركة واحتمال تغيير قانونها الداخلي من أجل السماح لكم مجددا برئاستها. وقد كنت أنوي الكتابة إليكم معبرا عن رأيي ناصحا بما أرى فيه مصلحة لكم وللحركة وذلك بعد أن اخترت أخذ مسافة والنزول من مركب الحركة والابتعاد عن تجاذباتها الداخلية أو الاصطفاف مع هذه المجموعة أو تلك. ثم تريّثت لما برزت في الساحة السياسية والإعلامية ما عرف بعريضة المائة قيادي نهضوي وما أعقبها من ردود وتفاعلات وحتى تراشق بالنبال والاتهامات بين الإخوة ورفاق الدرب الذين جمعتهم عصا الجلاد ووحدتهم، ولكن يبدو أن "جزر" السلطة وكرسيها وبريقها قد فرّقهم! سيدي الشيخ، قد اخترت عمدا أن أخاطبك بصفة الشيخ فهي عندي أصدقها معرضا عن صفة "الأستاذ" أو "السيد رئيس البرلمان"، وهي الصفة التي كانت أحبّ الصفات إليك ولعلها اليوم أصبحت أبعدها عن هواك، فصفة الشيخ قد تحول بين حاملها وما يطمح إليه من مناصب سياسية عليا خاصة في عالم تقوده العلمانية المتطرفة ويمكر به مال الجهل المتخلف! سيدي الشيخ، اسمح لي أن أقول أنني قضيت عمرا طويلا في هذه الحركة ومنحت مشروعها شبابي وبعضا من كوهولتي ومستقبلي العلمي وحمّلت أهلي بسببه ما تنوء الجبال بحمله، وأشياء أخرى كثيرة الله يعلمها، ولم أندم يوما والحمد لله. وقد كنت مدافعا عن الحركة ومازلت وسأظل مادامت الحركة مستهدفة بالإستئصال والإضطهاد. وإنني إذ أتوجه إليك اليوم بنصح فمن باب الحب والقرب من ناحية ومن باب النأي عن الصراعات الداخية وأخذ مسافة من كل المحاور، كما أنني لم أعد أتكلم من داخل الحركة ولست معنيا فيها بمواقع أو مطالب، إنما هو رأي عام في موقع عام أو هو من قبيل النصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم إن صلحت نيتي. الحديث يا فضيلة الشيخ عن المحاور والشقوق قد أصبح أمرا واقعا لا ينكره إلا مكابر وهو في حدّ ذاته مؤلم ومؤرق، حيث أننا أصبحنا نرى حصاد العمر يوشك أن تأتي عليه رياح الفرقة. والحركة اليوم تعصف بها رياح الزعامة و"الأنا" وتوشك أن تهوي بها في قاع سحيق! ... لست محسوبا على طرف ولست ممن ينسحب لأنه لم يُقَدّم أو لم يَنل، والحمد لله الذي جعلنا ممن أقدم عند والوغى وعفّ عند "المغنم"! ... لا أحب أن أطيل في هذه النقطة حتى لا يصبح حديثا عن "أنا"! ... ما أردت أن أقوله أن تجربتي في الحركة تشارف عن نهاية العقد الرابع، أتحدث عن الحركة كمشروع لا كتنظيم، ولذلك من حقي وواجبي أن أقيّم وأنصح وأتمنى سلامة المركب وركابه حتى وإن لم أكن على ظهره، ويؤلمني أن يضيع حصاد السنين! سيدي الشيخ، لقد تكسرت المرايا عندي وتشوشت الصور فما كانت قناعات راسخة كنت مستعدا للقتال من أجلها قد زالت واندثرت. كنت أظن أن النهضة حركة إصلاح ومشروع مقاومة للاستبداد وإحياء للأمل، وأن آخر ما يتنافس عليه أبناؤها هو الكراسي. أما زعيمها وشيخها فقد كان عندي منزها زاهدا في كل سلطة منكرا لذاته، همه فقط تحقيق التعايش السلمي بين كل المواطين وجعل الحركة ذات الصفة الإسلامية رقما أساسيا وطبيعيا في الساحة التونسية خاصة بما تميزت به هذه الساحة من عداء إيديولوجي متطرف ضد كل من ينادي بالرجوع للإسلام كطريق للإصلاح والتحرر من الهيمنة، وضد كل دعاة الإقصاء والإستئصال. كان إعلام بورقيبة و"بن عليّ" والإعلام المعادي للنهضة يعيّر أبناء النهضة بأنهم قطيع في خدمة مجموعة من طلاب السلطة والكراسي، وقد ثبت للأسف أن ذلك الكلام فيه قدر من الصحة!... بل قد أصبح هذا المصطلح المؤذي والكريه يستعمله بعض أبناء النهضة وبعض من تربى في أحضانها للتراشق فيما بينهم، فضلا عن مصطلحات أخرى أشد بغضا، من ذلك وصف بعضهم لبعض ب"الذباب الأزرق"! ... وأغرب منه من يعتزّ بكونه "ذبابا أزرقا"! سيدي الشيخ، أعلم أن حب السلطة والتنازع عليها قد كان سمة في جل الأمم عبر تاريخها، ولعل أمتنا الإسلامية من أكثرها "ثراءُ تجربة" في التنازع على السلطة، فلم ينج من ذلك صحابيّ مقرّب ولا تابع بإحسان أو بظلم ولا حجّاج قاهر ظالم مستبد ولا علماني أتاتوركي، أو ناصري أو بورقيبي فالكل في حبّ الكرسي سواء والكل في البطش بالمخالفين مفاخر وثائر! وقد كنتَ تحدثنا أن آخر ما ينزع من قلوب الصالحين حبّ الرئاسة! ولكن حين ينقلب أصحاب المبادئ على ما سطروا وما ربوا عليه أتباعم وما قطعوا على أنفسهم من وعود والتزامات تكون الخيبة كبيرة والسقوط مدويّا والهزة عنيفة! سيدي الشيخ، لا أحب أن أكرر ما كتبته لك في رسالة سابقة حين كان الحديث يدور عن إمكانية ترشحك للرئاسة، ولا أحب أن أذكر بمواقفك السابقة التي تراجعت عنها دون إبداء أسباب أو محاولة إقناع لأنصارك قبل مخالفيك. ولكني أذكر أن بعض الإخوة كانوا يبررون ترشحك للبرلمان ثم لرئاسته بالتفرغ لهذه المهمة والحال أن قانون الحركة الداخلي ماعاد يسمح لك برئاستها بعد المؤتمر الحادي عشر، وفي رأيهم ليس من اللائق ولا من الوفاء أن تحال شخصية بحجمك ووزنك مازالت قادرة على العطاء على تقاعد وجوبي. ورغم أن ذلك الكلام لم يكن مقنعا باعتبار الالتزامات السابقة وباعتبار إعطاء القدوة والمثل في التنازل عن شهوة السلطة وتقديم الشباب وتأخير الشيوخ فقد تمنينا لك النجاح في المهمة وآلمنا جدا أن تتطاول عليك القامات القصيرة من المنحرفين والشواذ، وآلمنا أكثر أن نرى "صولات" جواري بن علي وزبانيته، وقد وقفتَ أمامهم منتصبا للطعن والضرب دون توقع لوقف غيهم! ومع أنه لم يسعدني ترشحك لذلك المنصب الذي كان سببا في ذهاب هيبتك ووقارك عند خصومك قبل محبيك فإنه أسعدني أن باءت محاولات سحب الثقة منك بالفشل. وأحيي قدرتك على الصمود وحسن إدارة المعركة حتى وإن تداخلت فيها المصلحة الشخصية بالمصلحة العامة. لكن الحق أنني كنت أتوقع منك حين توليت رئاسة البرلمان الاستقالة من رئاسة الحركة والتفرغ للمهمة الوطنية الكبيرة من أجل وضع بصمتك وأدائها على أحسن وجه. ففي الحركة من القيادات الكبيرة من ينوبك في رئاستها حتى قيام مؤتمرها! ... ولكن تمسكك بالمهمتين كان مرهقا لك ومستغربا أيضا كأن هناك "حبالا" تخشى أن تفلتها من يدك أو كأن هناك مصالح مادية كبرى تخشى ضياعها والحال أنه لا أحد يتهمك بنفع مادي خاص من رئاسة الحركة على حد علمي على الأقل. ومع ذلك يبقى موقفك في التمسك بالمهمتين محل اختلاف وارد في الرفض أوالقبول، ولكن تصريحك على نيتك الترشح مجددا لرئاسة الحركة في المؤتمر الحادي عشر بدعوى أنك "ستحترم القانون مادام قانونا" وأن "المؤتمر سيد نفسه" كان أمرا مستغربا. أي أن المؤتمر سينقض ذلك القانون ليعبّد لك الطريق مجددا فتستمر في رئاسة الحركة، وهو ما سيأتي على ما تبقى من رصيد معنوي لك وللحركة ويعطي الخصوم في الداخل والخارج فرصة للنيل منك ومنها، ويثبت للقاصي والداني وكل عدوّ أن أبناء الحركة قطيع في خدمة هوى شيخهم. سيدي الشيخ، أكره الحديث الجاف بالقانون واللوائح والتقارير، ولكن أي انطباع تقدمونه لخصوم الحركة أو حتى لمن أحسن الظن فيها داخليا وخارجيا، وهم يرون قوانينها مثل "سروال عبد الرحمان" تقص وتعدل كل مرة حسب الهوى؟ ... فمن لا يحترم "دستور" حزبه لن يحترم دستور بلده! لا أحب أن أعرج على عريضة المائة ولا على ردك عليها، ولكن أشير بعد قراءتي لأسماء الموقعين أن كثيرا منهم كان لك وليا حميما وجنديا مطيعا، أو بلغة الشقوق من أقرب الناس إليك فما الذي غيرهم؟ ثم كيف تجتمع كل هذه الأسماء الوازنة في تاريخ الحركة وملحمتها في مقارعة الظلم على أمر قدروه ويُرد عليهم باستخفاف؟ لم أرض لك فضيلة الشيخ أن تشبههم صراحة بجنرالات الانقلابات وأن تشبه نفسك دون وعي بالحكام العسكريين المستبدين! كما أنني لا أقرُّ من ردّ على ردّك بعنف وتشنج رغم ما عرف عنه من حلم وأدب! ... فما الذي أصاب هذه الحركة حتى تنحدر هذا المنحدر وهي ترى خصومها يُحدّون شفراتهم للإجهاز على ما يبقيه صراعها الداخلي؟ سيدي الشيخ، العمر الحقيقي للحركة تجاوز نصف قرن من الزمان وقد كنتَ قائدها من التأسيس إلى اليوم عدا فترات زمنية اقتضتها الضرورة أو الوضع الأمني. حتى أن أحد الإخوة الكبار يشبهك بالأب والحركة بابنتك البكر، كما أن كثيرا من أبناء الحركة كانوا في محادثاتهم يصفونك بالوالد تحاشيا لذكر الإسم بسبب الإحتياط الأمني! فهل كل هؤلاء الأبناء ليس فيهم من يصلح لقيادة الحركة، وإذا كنت تتعلل بمزيد القدرة على العطاء، فهل العطاء مشروط بمنصب القيادة؟ هدفك الذي يقرأ من سطور ردك على العريضة هو البقاء في رئاسة الحركة حتى سنة 2024 لتكون مرشحها للرئاسة، وهو إصرار عجيب ومصار لا أنصحك بخوضه وقد قلت نصيحتي في رسالة سابقة ولا فائدة من التكرار وتذكيرك بمواقفك السابقة. لكن والله ما يؤلمني هو أن تخوض هذا المسار في عمرك المتقدم الذي أسأل الله أن يختمه لك بخير ثم تكون الخيبة الراجحة! وما يؤلم أيضا أن تدفع نحو الاستمرار في رئاسة الحركة ثم لا تكون الرياح مواتية وتكون نهاية غير التي أنت بها أجدر اعتبارا لسبقك وفضلك وبنائك في الحركة والبلاد. أو تكن سببا في شرخ الحركة وتفتيتها! ألا تستحق هذه الحركة أن يكون لها رئيس مباشر ورئيس سابق ينصح ويوجه ويرعى من موقع الجندية؟ ... أين ما ربيتمونا عليه؟ لماذا تصر على "ترمل" الحركة "ويتم" أبنائها"؟!... لماذا تصر على أن لا ترى لها رئيسا غيرك حتى تغادر أطال الله عمرك في الخير ومتعك بالصحة والعافية؟ أليست مرافقة رئيس جديد للحركة ونصحه وتوجيهه خير من تركها بعدك للمجهول؟ سيدي الشيخ، مما أذكره من المؤتمر الثامن أن أحد الإخوة الكبار الذين انتخبوا ضمن الأربعة الأوائل لتولي منصب رئيس الحركة كان مما اعتذر به عن قبول المهمة أن "الأخ الغنوشي لم يسمح بتدرب من يتولى المهمة طيلة عمر الحركة" رأيت كلامه يومها تهربا من المسؤولية ولكن يبدو بمرور الزمن أن معه حق! كما وصفك أحد قيادات الحركة الآخرين بمدمّر القيادات! لكن ما الذي تغيّر فقد كنت في المؤتمر الثامن بالمهجر تخاصم من أجل عدم تحمل المسؤولية وفسح المجال لقيادة جديدة، فإذا بك في التاسع تُنظّر لعدم تقييد رئاسة الحركة بدورات معدودة، ثم الآن تطالب بما لم يقرك فيه ذلك المؤتمر؟ ... إنه الكرسي و بهرج السلطة الذي لا ينزع بيسر حتى من قلوب الصالحين! سيدي الشيخ، مجددا أقول لقد تكسرت المرايا وتشوهت الصور وأصبحت مشاهد كثيرة داخل هذه الحركة تذكر للأسف بصراعات التجمع المنحل وأصبح التخوين متبادلا وعدم الثقة كذلك، وأما "الأنا" فحدث ولا حرج، ومنطق "أنا" وليكن بعدي ما يكون! ... حتى لا أقول الطوفان هو المنطق السائد! لشد ما آلمني أن أخا كبيرا كان يحفظ لك كثيرا من الود والإحترام وإن اختلف معك أحيانا قال: " اتخذت أربعة من المعاصرين لي قدوة، الغزالي والقرضاوي والترابي والغنوشي لكن الأخير سقط من القائمة لأنه وصف نفسه بالزعيم"! وتحدث آخر عن تشابه بدأ يظهر في التعامل مع المخالفين بين الغنوشي وعدوه اللدود بورقيبة! سيدي الشيخ، متى يتحرر الزعيم العربي من عقلية أن الدول أو الأحزاب ملكا خاصا لزعمائها ومؤسسيها وأنه لا حياة لهذه الدول أو الأحزاب من دون زعمائها؟ ... لقد كنت شديد النقد لذلك، فكتاباتك ومحاضراتك ومداخلاتك السياسية كانت هادمة لهذه العقلية، لكن الممارسة مختلفة وكذلك فلتات الألسن فقد دأبت على تسمية الأحزاب بزعمائها بدل أسمائها فتقول مثلا "حزب الشابي" و"حزب بن جعفر" و"حزب المرزوقي" ... هل يرضيك أن يقال حزب الغنوشي زال بزوال الغنوشي؟ أليس من حقك بل من حق الأجيال عليك أن ترتاح وتكتب وتدون وتُنظّر وأنت لذلك أهل؟ لم لا تعمل بنصيحة المرحوم أحمد بن صالح للسبسي حيث قال له "ارتاح يزي هاني أنا متقاعد ومرتاح"، أوتعمل بما نصحت به أنت الشيخ الترابي رحمه الله! أرى أن مشكلة الحركة اليوم في داخلها وفي صفها وفي مبادئها وشعاراتعا التي أصبحت تتبخر أمام أعيننا وتتهاوى بفعل هوى الأنفس! مع تمنياتي لك بالصحة والعافية واتخاذ القرارات الصائبة التي تحفظ نضالك وجهادك وترفع ذكرك في الدنيا عند الناس وفي الآخرة عند رب الناس! وأن يكون "لانتصار" في الحقّ وللحقّ حليفك! ... قد بلّغت! تحياتي، والسلام طه البعزاوي 23 سبتمبر 2020