قد نتناسى ذكريات مؤلمة مرّت في حياتنا فتأتي حادثة تعيد شريطا من الذكريات البعيدة لصور قديمة تضربنا بسياط من نار ووجع وقهر، قد نكون بعيدين عن الكوارث التي تحدث في أوطاننا ولم نعد نراها أو نسمع عنها اليوم إلا عبر التلفاز أو مواقع التواصل.. لكن نحن رغم البعد نصاب في الصميم.. صحيح أننا لم نتضرر ولم نُصب بأذى بشكل مباشر.. لكن هذا لن يمنع قلوبنا من التوجّع أو يمنع عقولنا من التفكير، ولن يمنع مشاعرنا من الخوف.. لن يمنع أرواحنا من التجوّل هناك بين كل شيء لأننا نعرف معنى شكل العتمة في الليل بالنسبة للطفل، نعرف رائحة دخان النيران الخانقة ونعرف جيدا رائحة البارود وصوت أزيز الرصاص وهدير الطائرات التي لطالما اخترقت بجدار صوتها الأجواء فكيف بصوتها في سكون الليل، نعلم جيدا كيف نزيح الأتربة عن الأشياء ونتقن كيف نلملم الشظايا، نعرف معنى الإحساس بالخوف لأننا جرّبناه مرارا وعشناه ليال طوال.. نعرف جيدا معنى الحاجة للأشياء وعدم توفرها، ونعرف توفرها وعدم توفر ثمنها.. ونعرف معها عزة النفس التي رضعناها وتوارثناها عن أهالينا.. نحن نقف أحيانا نقارن بين اليوم والأمس البعيد الذي يكرّر نفسه كل حين وحين بأشكال وصور مختلفة تعيدنا إلى ذكريات نحاول بشتى الطرق أن نصرفها عنا، أن نتناساها .. نحصي الأعوام التي مرت وعبرت بنا لكنها أبقت قلوبنا طفولية صغيرة بريئة خائفة كما لو أننا ما زلنا صغارا، لأننا حتى اليوم لم ولن نكبر على الوجع ولا على الخوف المغروس في أعماقنا رغم أنّ الكثير منا قد غزا سواد شعره شعرات بيضاء جاءته على غفلة من العمر الذي فرّ منه عنوة.. نحن ما زلنا أطفالا ولم نكبر بعد أمام دموع أمهاتنا وأوجاعهن التي لم يفصحن عنها أمامنا حيث كن يهربن من أسلئتنا بحجج كثيرة واهية تقنعنا يوم كنا صغارا ولا تقنعنا اليوم، نحن الآن وعينا جيدا رغم طفولتنا المسلوبة الناضجة معنى نظرات القلق في عيون آبائنا الذين لم نلج عقولهم وأفكارهم ولا للحظة نكلف أنفسنا فيها عناء معرفة ما يقلقهم ويدور في دواخلهم لأنّ ذلك لم يكن بأيدينا بل بطيش منا.. نحن اليوم نستذكر خوف الأجداد والأعمام والأخوال والعمّات والخالات نعاين عن قرب معاني القلق الشاسعة من مفردات كثيرة كنا نظنها عادية أبرزها سفر وهجرة وغربة.. آآآخ وألف آآآآخ من هذه الكلمات التي لا يعرف معناها إلا من تذوق تفاصيلها. بعضنا قد يقارن حياته مع حياة أولاده وأجد هذا من حقه كإنسان له أحاسيسه ومشاعره، فبعضنا تتشابه حياته مع حياة أبنائه إلى حدّ ما والبعض الآخر لا تتشابه فصول حياته مع نمط حياتهم بل هي بعيدة كل البعد وهذه أقدار من الله -لا اعتراض عليها- وليست بأيدينا نحن كبشر.. لذا الفئة الأولى قد تتشارك بعض الأفكار والأحاسيس مع بعضها البعض وتنسجم وقد تشعر بما شعر به الآباء.. أما الفئة الثانية ممن لم يعيشوا ظروف آبائهم فإنهم حتما لن يستطيعوا الوصول لحافة مشاعر أهاليهم لأنهم لم يجرّبوا أبدا ولو شيئا بسيطا من معاناتهم وطبيعة الحياة التي عاشوها ومنهم من قد يتعاطفون معهم لكن لن يستطيعوا مشاركتهم مشاعرهم العميقة لأنّهم لم يمرّوا بما مرّ به الآباء، وسيكون من الصعب عليه فهمهم جيدا ولن يشعروا بالضعف المقيم في دواخلهم خاصّة إذا اعتادوا على رؤيتهم أقوياء متماسكين ثابتين في المواقف الصعبة التي تفرضها عليهم الظروف أحيانا، وهذا حال الأغلب منا كآباء . في الحياة دوما هناك محطّات يشعر الإنسان فيها بالضعف والتقهقر، يشعر بالإحباط واليأس والحاجة ليد تمسكه تنتشله من بحر الهموم وأمواج الظروف المتنوعة، يد تشدّه نحو الطمأنينة، يحتاج لكتف يسنده كي لا يتعثر في خطاه ويقع، يحتاج لمجرد كلمات تزرع فيه بذور القوة لمواصلة السير قدما.. ولكن مهما حصل حتى وإن لم نجد أدوات الإنقاذ تلك من يد أو كتف وحتى كلمات على المرء أن لا يستسلم لضعفه، عليه أن لا يركن للنظرات السوداوية التي قد يفرضها أحيانا المحيط من حوله فتطغى عليه وتسربله.. بل عليه دوما أن ينظر للغد الأفضل والأيام المزهرة بكل جميل.. عليه أن يتوكّل على خالقه القادر على تغيير الظروف، عليه أن يجبر نفسه على صنع صورة من أمل ورسم لوحة من تفاؤل حتى يتمكّن من الاستمرار في الحياة لأنّ الصور الإيجابية من حولنا بفضل الله كثيرة وكبيرة طالما توفرت في النفس أرضية خصبة يمكنها أن تنبت فيه بذور قوة الإرادة والعزم والإصرار على المضي قدما.