(أراها حقا) من الطابق الثالث في قسم العيون بمستشفى "يوهانيتا" بمدينة بون الألمانية عشت يوم سقوط "التمساح" وفرار بن عليّ من تونس بعد أن بنى وشيد صروح الاستبداد وأفسد الحرث والنسل وحكم العباد، وجعل القوانين والدستور في خدمته وخدمة أسرته حتى أنه سن قوانين تمنع متابعته قضائيا إن أزيح من السلطة رغم أنه لم يكن يتخيل أن يغادرها لغير القبر! جاري في الغرفة السيد " كايزر" شيخ ألماني في بداية عقده الثامن يسألني عن الأحداث الحاصلة في تونس ذلك لأن الإعلام الألماني قد وجه عدسته أخيرا إلى تونس وأصبح يتحدث عن سقوط "الديكتاتور" ... هكذا أصبح يسميه بعد أن كان في أغلبه صامتا عن جرائمه أومزينا لأفعاله القبيحة! وأما أنا فقد كنت في نشوة لا تعادلها نشوة وقد استعدت ثقتي بنفسي وبشعبي الذي استعاد ثقته ونفض الذل وهبّ في مواجهة الرصاص بصدور عارية وعاند بكفوفه الفارغة رصاص الدكتاتور ومخارزه فصد الرصاص وكسر المخرز!... وكانت معنوياتي تطير في السماء وتحلق فوق السحاب لتلتقي هناك بمعنويات شعبنا الصاعدة فتتعانق على أمل تعانق قريب على أرض الوطن بعد حرمان دام عشرون سنة! وقد "هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية" قما قال عمّ أحمد "هرمنا"! كنت أتابع الأحداث من جهازي المحمول من المستشفى بعين واحدة وبها كنت أكتب المقالات وأتفاعل مع الأحداث ومنسوب العزة والكرامة عندي في تزايد مستمر وأنا أشاهد المقاطع الواردة من تونس الدّالة على استبشار شعبنا بالتحرر ونكرانه لذاته وتآزره، وأفتخر بشبابنا وكهولنا وهم يحمون المتلكات العامة والخاصة ويقدمون أروع المشاهد في الإيثار والعطاء. كانت تأتيني مكالمات من مواطنين ومواطنات مهاجرين لم يكونوا يجرؤون على الاتصال "بمشبوه" ما يعرضهم للقهر أو الاعتقال.... كانوا يعبرون عن فرحهم واستبشارهم بزوال الاستبداد وكان كثير منهم يبكي فرحا ويعبر عن سعادته من أجل المهجرين الذين حرموا من وطنهم وأهلم. وكان من بين المتصلين، من علمت لاحقا أنهم من كوادر الحزب الحاكم بالخارج ... فهمت أنها محاولات لمد الجسور مع شخص اعتقدوا خطأ أنه من أصحاب النفوذ المستقبلي! ... ربّما! ... وقد حصل ذلك معي ومع غيري. في قسم العيون كانت عائشة طبيبة ليبية ماهرة قدمت لتوها من ليبيا لإجراء تربص فالدكتور رئيس قسم العيون من الأطباء المشهورين في ألمانيا ويبدو أن القسم الذي يرأسه له شكل من الشراكة أو التنسيق مع مستشفيات ليبية، فقد رأيت كثيرا من المرضى الليبيين يعالجون هناك، وترجمت لبعضهم عند نفس الطبيب. الأخت عائشة طيّبة وخلوقة وعلى قدر كبير من الحياء والاحترام، كانت أحيانا تتولى مهمة حقن محلول الملح في القناة الدمعية الاصطناعية التي فتحت بين عيني وأنفي بالمثقب الكهربائي ورُبط فيها أنبوبا مطاطيا صغيرا يبقى سنة قبل نزعه. ودليل نجاح عملية حقن محلول الملح أني أجد طعمه في الحلق، وهي عملية يومية خلال إقامتي بالمستشفى حتى لا تنسد القناة مجددا. وكانت عائشة في الغالب تتولى المهمة بعد أن تفشل الطبيبة الشقراء ذات الأصل البولوني. دار بيني وبين عائشة حوار عن الثورة التونسية وعن تصريح "الزعيم" الليبي معمر القذافي الذي قال حينها ما مفاده أنه ليس لتونس أفضل من بن عليّ حاكما لها! وأن الشعب التونسي قد ارتكب خطأ فادحا بثورته عليه. وقد كشّر المقبور القذافي عن أنيابه ليعمل على وأد ثورتنا! حواري مع الدكتورة عائشة يعبر تماما عن مواقعنا فأنا لحظتها كنت محلقا في سماء الحرية فخرج كلامي سليطا على القذافي المستبد، وقد رأيت في عيون عائشة موافقة لكلامي وخوف مما قد يصيبها لو أنها عبرت صراحة عمّا في نفسها، لذلك كان لسانها مدافعا على رأي "زعيمها" في أن بن عليّ "كوّيس" وأنه فعل أشياء إيجابية كثيرة لتونس. كنت أتابع أخبار الأيام الأولي بعد فرار بن علي عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومن الجزيرة نت وبعض المصادر الألمانية وبعض الاتصالات المباشرة مع نشطاء في تونس بالسكايب. وبقدر الفخر والفرح الذي كان يغمرني ويغمر أغلب التونسيين الذين استنشقوا الحرية، كنا نسمع من حين لآخر بوادر خطاب الكراهية والاستثناء والاستئصال مثل ذلك التصريح النشاز الذي أدلى به "بوغلاب" في اتصال مع الجزيرة بصفته "صحفي مستقل من سوسة" وملخص قوله أن المهجرين لا مكان لهم في المشهد السياسي التونسي الجديد! ... وحملات فايسبوكية للتشويش على السلم الأهلي وفرحة شعبنا بإنجاز ثورة عظيمة تسع كل أبناء الوطن وتحقق كرامة الجميع ... إلا من أبى! كانت أيام شهر جافي 2011 من أهم الأيام في تاريخ تونس ولعلها من أكثر الأيام التي ذكر فيها اسم تونس في العالم بما يرفع الرأس ويثير الاعتزاز! رغم أن المستقبل لم يكن واضحا ومن يحرك المشهد السياسي في تونس حينها لم يكن ظاهرا ولا معروفا! كما أن كثيرا من المسائل لا يُعرف من قررها ولا كيف تمّت! في ذلك الوضع وخلال تلك المشاعر الجياشة رأيت وأنا نائم بالمستشفى في أحد الليالي أن الفريق الوطني التونسي لكرة القدم قد قطع كل المراحل في المنافسة على كأس العالم وبلغ الدور النهائي وأن العالم بأجمعه تقريبا في الملعب وخلف الشاشات مناصرا لفريقنا الوطني ومشجعا له ليفوز بالكأس إلا قلة قلية من أنصار الفريق المنافس! ... ومن أغرب ما رأيت في هذه الرؤيا حسب رأيي الذي تبين لاحقا هو هوية الفريق المنافس، ذلك أن المقابلة النهائية لفريقنا الوطني كانت ضدّ الفريق الرّوسي. المقابلة حامية الوطيس وأنا قلبي يخفق مع الجمهور المناصر لفريقنا الوطني، وقد كانت المقابلة في مجملها كرّ دون فرّ في اتجاه المرمى الروسي، بلغنا الدقائق النهائية دون أهداف من الجانبين ولاعبو الفريق التونسي لا يكادون يغادرون نصف ملعب الفريق المنافس والكرة تقريبا تدور بينهم فقط والهجومات عديدة، وما أكثر الفرص والقذفات التي اهتزت لها قلوب الجماهير وارتفعت أصواتهم لها ولكن الكرة أبت أن تدخل المرمى فمرة ترتطم بالعارضة أو تمر قريبا منها و أحيانا قليلة يصدها الحارس... وبقيت النتيجة صفر لصفر حتي الدقيقة الأخيرة، وفيها صفّر الحكم معلنا عن ضربة جزاء لتونس! ... استبشر الجمهور كثيرا ولكن صدري لم ينشرح وخشيت أن تضيع الفرصة! تقدم اللاعب التونسي ليسدد ضربة الجزاء فيدخلها المرمى وتفوز تونس بأول كأس في تاريخها! ولكن تسديدة "لاعبنا" للأسف لم تمض بعيدا وتدحرجت الكرة تدحرجا زهيدا! حاول ركلها ثانية ولكنها لم تصل المرمى! ثم صفر الحكم معلنا انتهاء المقابلة! ... واستيقظت أحس بألم وحرقة ولا أدري ما مصير الكأس في النهاية هل سيكون مناصفة بين الفريقين أم سيستمر اللعب؟!... والحقّ أنني لم أفهم حينها هل كانت رؤيا خير فأحدث بها أم شرّ فأستعيذ بالله وأكتمها! ثم بدا لي بعد ذلك أن خيرها أرجح من شرها رغم أنني لم أفهم كل معانيها ولم أفك جميع رموزها إلى الآن! ... فتونس في تاريخها لم تبلغ الربع النهائي وهاهي هذه المرة تصل النهائي! ... ثم إن نتيجة النهائي لم تحسم فكما قال لي الأخ فتحي العيادي في دردشة معه حين كان نائبا عن ألمانيا، "لا بأس مازال عندنا وقت إضافي وركلات ترجيح"! المثير في الرؤيا حقا هو أن يكون الدور النهائي بين تونسوروسيا. فإذا كان مفهوما لماذا تونس حسب السياق الذي نحن بصدده وهو الثورة والتفات كل العالم لتونس وثورة شعبها، فإن روسيا زمن الرؤيا لم يكن لها دور يذكر يميزها عن بقية الدول فالثورة الوحيدة التي اندلعت هي ثورة تونس، وأما الثورة المصرية والليبية واليمنية والسورية فمازالت في رحم الغيب حينها! ... ولم يكشّر الرّوس عن أنيابهم ضد الثورة التونسية. إنما ظهرت روسيا في المشهد بعد توسع رقعة الثورة السورية وترنّح نظام بشار الأسد! ثم أصبحت روسيا رأس حربة الثورة المضادة وعنوانها في العالم خاصة بما ارتكبت في سوريا من جرائم إبادة جماعية واحتلال مباشر! وقد كان ظاهر الرؤيا في أوله سلبي ومحزن ولكن بانكشاف الأحداث تباعا يتبين أن خيرها أكثر من شرها، ففريق الثورة المضادة "الروسية" هزم الفريق المصري في الدور الثمن النهائي، وهزم الفريق السوري في الربع النهائي وهزمت ليبيا في النصف النهائي واليمن في التصفيات الأولى! ولم يصمد إلا الفريق التونسي في الدور النهائي وله أفضلية اللعب ومازالت الآفاق مفتوحة أمامه للفوز في الحصص الإضافية أو ركلات الترجيح إن حسّن اللاعبون أداءهم وغيروا خطط لعبهم وأحسنوا توزيع الكرة بينهم وأنكروا ذواتهم لتحقيق فوز يفرح الجميع! وأما تفصيل جزئيات الرؤيا على واقعنا فليس هناك جزم ولا قطع! ولكن بالأكيد أن الفريق التونسي الذي حاول الفوز هم أبناء الثورة أو جزء منها، وأن الفريق الروسي هو الثورة المضادة بقواها الخارجية وأذرعها الداخلية بكل ألوانهم الفردية والحزبية والإعلامية والجمعياتية و"الاتحادية". وحتى اللاعب الذي أوكلت له مهمة ركل ضربة الجزاء فيحتمل عدة احتمالات منها "الزعماء" الذين يظنون أنفسهم أنصارا للثورة ولكنهم خذلوها، والأرجح أن اللاعب الذي ركل ضربة الجزاء وفشل في تسديدها وحتى مجرد تهديد حارس الفريق المنافس بها هم الذين اختارهم الشعب ليحكموا ويحققوا الأهداف ولكنهم لم يحققوا الهدف بل اكتفوا بمنع الهزيمة ولم يحققوا النصر .................. بعد! فشمّروا يا جند الثورة حتى لا تدور الدائرة علينا في الحصص الإضافية وتدربوا جيّدا للتسديد والتصويب إن مررنا لركلات الترجيح! والحمد لله الذي حفظ ثورتنا من الهزيمة ووفّق "لاعبينا" لمحاصرة الفريق المنافس في نصف ملعبه. هذا ما كان من رؤيا تخصّني وما فهمت من إشاراتها والله هو الأعلم بما كان ومايكون وما لا يكون لوكان كيف كان يكون! ... مع ملاحظة أن ثقافتي الكروية قريبة من الصفر، ولكن رويت ما كان. والسلام طه البعزاوي 11 جانفي 2021