استدعتني الأحداث إلى الوقوف معها لاستقرائها!. صرّح بن علي ذات شتاء من (2010 / 2011) أنّه فَهِمَنا "أنا فهمتكم"!. فَهِمَنا بعد أن بدا فينا حراكٌ يحدّث برفض الاستبداد والهيمنة التي بالغت في الإيذاء، ويُعلن (هذا الحراك) داخلنا الاستعداد للتّضحية ببعض الدّم والأرواح في سبيل إعتاق الأرواح جميعِها!. تحرّكنا بعد ثلاثٍ وعشرين سنة من الظّلم والقهر الذي طال الشّعب ولم يطل "شعب" الرّئيس الذي كان يعيش فرحة الحياة الصّارفة عن الاهتمام بالآخر وعن الحياة الحقيقيّة التي سمّاها الله تعالى في القرآن الكريم (الحيوان): [وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]!. تحرّكنا بعد أن هُتكت الأعراض واعتُدِي على الحرمات وقُطِعت الأرحام ونُقِضت العهود وأُخلِفت الوعود، وبعد ما مات منّا كثيرٌ في الزّنزانات وعلى أعمدة الكهرباء وفي الجسور تحت الخراسانات وفي مختلف زوايا البلاد المرهقة بالاعتداءات!.. تحرّكنا بعد أن أحرق محمّد البوعزيزي نفسه في لحظة ضعف كرّهت له الحياة وأغفلته عن ربّ النّاس وربّ الحياة!.. كانت عمليّة الإحراق جريمة بمرتبة "البطولة"... جريمة ارتكبها بن علي و"شعبُه" و"بطولة" قام بها البوعزيزي وحرّض بها شعبه!. كانت عمليّة الإحراق تنبيها إلى النّقص الذي هو فينا، فنحن شعب ميّت – كما بيّن الشّابّيّ رحمه الله - لا يُستفزّ إلّا بالإحراق!.. شهد شارع الثّورة، المسمّى شارع الحريّة والكرامة أو شارع الحبيب بورقيبة أو شارع الساعة، البارحة يوم الحادي عشر من سبتمبر عمليّة إحراق جديدة أليمة!.. تضاربت الأقوال والرّوايات حول الأسباب ولعلّها استقرّت في النّهاية عند ظلم واعتداء بعض التّطبيقات!.. ففي تونس ما بعد الثّورة "صالحون" فاسدون يرتعون في البلاد ويفعلون ما يريدون لا يستحيون، وفيها كذلك "فاسدون" صالحون يعملون جهدهم لخدمة البلاد ونفع العباد يكبّلهم صلاحهم فلا يحيون!. يقف إجراء (S17) مجرّما كلّ من يجرّمه الرّئيس و"شعبه" أو يجرّمه "شعب" الرّئيس لقناعته باصطفاف الرّئيس معه وتشجيعه ل"شعبه"!.. جاءت عمليّة الحرق بعد أقلّ من سنتين من حكم الرّئيس!. ما يؤكّد أنّ الرّئيس ليس كذلك الرّئيس. إنّه يختلف عنه في كلّ شيء. فقد كان الأوّل عسكريّا لا يفقه كثيرا ممّا يدور حوله وقد بدأ بعزل كثير ممّن يخشى من رفاقه العسكريّين، وكان هذا مدنيّا يتّهم النّاس الذين حوله بعدم فقه ما يفقه هو وقد بدأ باستهواء القادة العسكريّين يحقّق بهم انحرافاته!. يختلف عنه في السّلوك وفي الإجراءات وحتّى في الهروب!. فإنّ بن علي هرب بعد أن فهمنا في حين أعلن هذا قبل فهمنا الهروب!. هرب إلى السّيسي عليه من الله ما يستحقّ؛ إذ هو من الظّالمين والمطبّعين والمشاركين في قتل المسلمين، وهرب إلى الإمارات التي اختارت بعد زايد رحمه الله تعالى القيام بما عجز إبليس اللعين عن القيام به والإبداع فيه. وخرج البارحة يتبختر في نفس الشّارع الذي أحرق فيه الشّاب نفسه، يشمّ شواءه ويعلن عدم خوفه حتّى من مساءلة ربّه جلّ وعلا عن الأسباب التي جعلت هذا الشّابّ يحرق نفسه. خرج مستنصرا بقناة أهله الإماراتيّين (Sky News)، يسفّه على أمواجها هؤلاء التّونسيّين الذين انتخبوه لرئاستهم ويُريهم همجا فاقدي حكمة وصلاح، عقّدوا مهمّته بندرة الصّادقين فيهم وبكثرة الشّبهات حولهم!. كان سيّئا للغاية وكان ذليلا قد فضّل استنقاص أهله الأصليّين وانضمّ إلى أهله الأعراب المتطاولين!. كان واضحا أنّه ضرب المواعيد مع هذه القناة عدوّة الشّعب التّونسيّ الأبيّ. كان يتوجّه بكلامه مؤدّبا منصاعا إلى سائل هذه القناة ويتجاهل في نفس الوقت القناة "الوطنيّة" التي التحقت بالمكان التحاقا كما لم يكن لها معه مواعيد!. لم يجد "الوطنيّة" انحيازها للباطل وتصفيقها لتجاوزات الرّئيس المفدّى وتزيينها - بمن تستضيف عليها من السّاقطين والوصوليّين - لإجراءاته غير الدّستوريّة وغير الأخلاقيّة!. كانت سنّة الله الجارية إذلال الظّالم بأتفه مخلوقاته!. جاءت جريمة الإحراق بعد سنتين فقط وعلى الشّعب التّونسيّ التحرّك بجدّ وعزم وحزم ليجبر الرّئيس على الانصياع وإصلاح المعوجّ ومحاربة الفساد الواضح البيّن والإقلاع عن السّلوك البئيس غير اللّائق بالرّئيس، سيّما وقد بدت عليه البارحة آثار وقفة تكلّم فيها بعض شباب تونس الشّرفاء ورؤوس المجتمع بما ينفع النّاس ونطقت تلك المرأة بحكمة لخّصت ما ينتظرنا عند منعطف استبدال الذي أدنى بالذي هو خير (غسّل... وكفّن... وادفن). على الرّئيس أن يعلم أنّ القصر ليس مكانا لتجمهر أصحاب العاهات والأضغان والأحقاد وليس مكانا لتصفية الحسابات، القصر وجه البلاد وعنوان وحدة شعبها ودليل صلاح حكّامها. أو على الشّعب تجاهل نفسه وانسياقه وراء الغوغاء والتفرّغ إلى عدّ الذين سوف يحرقون أنفسهم والذين لن يقلّ عددهم نظريّا ومراعاة للنّسب عن اثنى عشر حريقا، واقسموا إن شئتم ثلاثا وعشرين سنة على السّنتين لتعلموا عدد الحريقين!.. والله من وراء القصد والسّلامة للبلاد والعباد...