الوكالة العقارية للسكنى توجه نداء هام للمواطنين..وهذه التفاصيل..    تونس تستقبل أكثر من 2.3 مليون سائح إلى غاية 20 أفريل 2025    عاجل/ مسؤول يؤكد تراجع أسعار الأضاحي ب200 و300 دينار..ما القصة..؟!    عاجل/ جريمة أكودة: الادراة العامة للامن الوطني تكشف تفاصيل جديدة..    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    البرلمان : مقترح لتنقيح وإتمام فصلين من قانون آداء الخدمة الوطنية في إطار التعيينات الفردية    الانطلاق في إعداد مشاريع أوامر لاستكمال تطبيق أحكام القانون عدد 1 لسنة 2025 المتعلق بتنقيح وإتمام مرسوم مؤسسة فداء    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    في مظاهرة أمام منزله.. دروز إسرائيل يتهمون نتنياهو ب"الخيانة"    جندوبة: سكان منطقة التوايتية عبد الجبار يستغيثون    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    عاجل/ هذه البلدية تصدر بلاغ هام وتدعو المواطنين الى الحذر..    عاجل/ قضية التسفير..تطورات جديدة…    استقرار نسبة الفائدة في السوق النقدية عند 7.5 %..    الرابطة المحترفة الاولى: صافرة مغربية لمباراة الملعب التونسي والاتحاد المنستيري    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    الإفريقي: الزمزمي يغيب واليفرني يعود لحراسة المرمى ضد النادي البنزرتي    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    إلى الأمهات الجدد... إليكِ أبرز أسباب بكاء الرضيع    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    ارتفاع تكلفة الترفيه للتونسيين بنسبة 30%    القضية الفلسطينية تتصدر مظاهرات عيد الشغل في باريس    في سابقة خطيرة/ ينتحلون صفة أمنيين ويقومون بعملية سرقة..وهذه التفاصيل..    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    عاجل/ هلاك ستيني في حريق بمنزل..    سعر ''بلاطو العظم'' بين 6000 و 7000 مليم    عيد الاضحى 2025: الأضاحي متوفرة للتونسيين والأسعار تُحدد قريبًا    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    نهائيات ماي: مواجهات نارية وأول نهائي لمرموش في مانشستر سيتى    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    لي جو هو يتولى منصب الرئيس المؤقت لكوريا الجنوبية    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    الليلة: سحب عابرة والحرارة تتراوح بين 15 و26 درجة    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نفحات من التفسير الجزء الثالث ...
نشر في الحوار نت يوم 28 - 12 - 2009


الجزء الثالث
الدين والسياسة في التاريخ والواقع
إذا رجعنا إلى تاريخ الأمم الغابرة وتاريخ الأديان رأينا أن كثيرا من الحضارات السابقة قد قامت على قاعدة الجمع بين الدين والسياسة. ومن هذه الحضارة الرومانية والحضارة الإسلامية وان آثار هذه الحضارات التي مازالت قائمة إلى يومنا هذا على ذلك . إذ نرى المعابد الدينية وتماثيل الآلهة مشيدة بجانب قصور الحكم ، ونقرأ في تاريخ هذه الحضارات أن الملوك والسلاطين كانت لهم روابط وثيقة برجال الدين إلى حدّ أن امتزجت السلطة السياسية بالسلطة الدينية حتى كادت تكون واحدة، إذ قد نسب بعض الفراعنة الألوهية لأنفسهم، وطلبوا من رعاياهم أن يخضعوا لهم خضوع العبيد لربهم، وساسوهم سياسة دينية لا تفرق بين السياسة والدين. فلقد كانت الحياة الاجتماعية في الحضارات الطاغوتية والوثنية مصبوغة بصبغة السياسة الدينية التي كان يشترك في وضعها وتنفيذها الملوك ورجال الدين، أما الأديان السماوية لا نظريّا ولا علميّا . ففي تاريخ اليهودية قد امتزجت السياسة بالدين في المملكة التي أقامها النبيّ داوود عليه السلام وابنه النبي سليمان عليه السلام. وها نحن قد رأينا في القرن السابق كيف قامت الدولة إسرائيل الحديثة على الدين فجعلت كل مؤسساتها السياسية والثقافية والاجتماعية مصبوغة بالصبغة الدينية وحتى اسمها ورايتها كانت مستوحاة من تاريخ الديانة اليهودية. وأما الديانة المسيحية فإن في قرونها الأولى قد اضطّهد أتباعها سياسيا على يد قياصرة الروم ولكن ما لبث هؤلاء بعد ذلك أن اعتنقوها عقيدة وفركا وسياسة وجعلوها أعظم ركيزة تقوم عليها مؤسسات المجتمع والدولة حتى أضحى الفكر الديني المسيحي في القرون الوسطى مهيمنا على الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية وأضحت سلطة رجال الدين على المجتمع تضاهي سلطة رجال الحكم أو تفوقها ورغم أن هذه السلطة قد انحسرت سياسيا واجتماعيا في العصر الحديث مع ظهور الفكر اللائكي وإقامة دول أوروبية لائكية حديثة فإن المسيحية مازالت مرجعا سياسيا واجتماعيا في عدة دول أوروبية (إيطاليا وألمانيا وبلجيكا) إذ تأسست عليها عدة أحزاب سياسية ومنظمات اجتماعية حديثة استطعت أن يتولى الحكم وتدير شؤون الدولة والمجتمع وأما الإسلام فإن تاريخية يدل على أن الدين والسياسة كانا متلازمين في المجتمعات الإسلامية سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا منذ أن نشأت أول دولة ومجتمع إسلامي في يثرب على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم واستثمر هذا التلازم مع تعاقب الدول الإسلامية الكبرى في المشرق كالدولة الأموية والعباسية وفي المغرب كدولة الموحدين و دولة المرابطين وغيرهما . إذ كانت كل هذه الدول تقيم سلطتها على أصول الدين العقدية والشرعية والفكرية، وكانت كل هذه الدول تقيم سلطتها الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية قائمة على تلك الأصول أيضا. وها نحن قد رأينا في السنين الأخيرة قيام دولة ومجتمعات حديثة على أصول الإسلام لا تفرق بين الدين والسياسة في باكستان وإيران وأفغانستان والسودان، بل جعلته الدين قاعدة تستمد منه أصول فكرها ونظمها ومناهجها الحديثة في كل جوانب حياة المجتمع والدولة.
إنه إذا وضعنا مذهب اللائكية في هذا السياق التاريخي تبينا أن هذا المذهب ما هو إلا مذهب ديني سياسي لا يختلف عن المذاهب الدينية السياسية الوضعية التي كانت سائدة قبل ظهور الديانات السماوية، بل لرأينا أنه لا تختلف كثيرا عن المذهب الديني السياسي الفرعوني، إذ كلاهما يجعل الإنسان في أعلى هرم السلطة الدينية والسياسية معا وينكر وجود أي سلطة دينية سياسية فوقه . فالذي كان يسمى فرعونا في المذهب الديني السياسي الفرعوني القديم وتتجسم فيه أعلى سلطة مادية وروحية وتخضع لأمره ونهيه كل المجتمع صار يسمى رئيسا في المذهب اللائكي الحديث فهما رمز واحد حتى وغن كان طريق اكتساب شرعية السلطة العليا مختلفا بينهما وحتى إن كانت هذه السلطة العليا مطلقة عنه الأول ومقيدة عند الثاني . فالقاعدة التي تقوم عليها سلطة كليهما واحدة وهي أنه لا وجود لأي سلطة عليا لا دينية ولا دنوية ولا مادية ولا روحية فوق سلطتهما.
لقد مرت المجتمعات الإنسانية بفترة تاريخية كان الإنسان فيها مجسما لأعلى سلطة دينية وسياسية على الأرض (أي الإنسان الإله) وُسمّي هذا الإنسان فرعونا ثم تلتها فترة تاريخية أخرى ظهرت فيها الديانات السماوية الثلاث جعلت السلطة الدينية والسياسية للإنسان ليست أكثر من سلطة خلاقة لمن هو أعلى وأكبر من الإنسان وهو الله تعالى، أي سلطة مقيدة بعقيدة وشريعة إلهية . ثم جاءت بعد ذلك في القرون الأخيرة الفترة التي رجع فيها الإنسان إلى الوضع الذي كان فيه في الفترة الفرعونية وما قبلها ، أي الإنسان إلا لاه المجسم لأعلى سلطة دينية وسياسية هكذا نرى الفكر الديني السياسي قد سار خطوة إلى الوراء لما ابتدع اللائكية، إذ لم يكن هذا المذهب إلا نسخة محوّرة من المذهب الفرعوني القديم ، وكأن تاريخ الفكر الديني السياسي يعيد نفسه لما انتقل من فكرة " الإنسان الإله " مع فرعون إلى فكرة " الإنسان الخليفة" مع الأنبياء والرسل ثم رجع إلى فكرة " الإنسان الإله" في العصر الحديث . وما كان هذا الرجوع الأخير إلا ردّ فعل على تقادم فكرة " الإنسان الخليفة " واختفاء حقيقتها عن الواقع . فعوض أي يحيي المفكرون في العصر الحديث هذه الفكرة ، لما اختفى بريقها بتراكم القرون عليها، أدانوها وأبطلوها ورجعوا إلى نقيضتها التي كانت سائدة بلها دون أن تكون لهم حجة منطقية صحيحة على ما فعلوه. وغنما فعلوا ذلك لمّا رأو أن القائمين على هذه الفكرة قد حادوا عنها في الواقع وشوّهوها إلى حدّ أنها أصبحت تبدو وكأنها نقيضتها، وهذا هو خطأهم الكبير، إذا رأوا العيب في الفكرة ذاتها وكان عليهم أن يروه في من كان يحملها.
إن ارتباط الدين بالسياسة هو ارتباط تاريخي لم يبدأ مع بداية نزول الوحي على الرسل عامة ولا مع ظهور الإسلام أو المسيحية خاصة، وإنما كان موجودا في عصر الفراعنة وقبلهم أيضا . وإنما الذي تغير مع العصور هو الفكر المحدّد للرابطة بينهما والواقع الناتج عن هذا الفكر. ذلك أنه كانت للإنسان منذ القدم حاجة غريزية للدين وللسياسة معا وكان وجود مرتبطا ارتباطا وثيقا بوجود الأديان على اختلافها وبوجود السياسة على اختلاف أنواعها. ولم يخل عصر من عصور الإنسان العاقل من هذه الارتباط الثلاثي الرابط بين الإنسان والدين والسياسة، فهو ارتباط غريزي في طبيعة الإنسان. لقد كان الإنسان منذ القدم في حاجة غريزية إلى " عقيدة " يفسر بها وجوده ووجود الكون ووجود ما وراء الكون وما يربطه بهذا الكون وبما وراءه، وإلى "شريعة" يبني عليها حياته الفردية والاجتماعية. حاجته إلى العقيدة مرتبطة بغريزته العقلية إذ أن من طبيعة العقل البحث عن الحقائق كبيرة وصغيرة. وحاجته إلى الشريعة مرتبطة بغريزته النفسية، إذ أن النفس تطلب بطبيعتها حاجاتها الحياتية كالطعام والشراب واللباس والحماية والأنظمة الاجتماعية .
وما العقيدة والشريعة إلا ركيزتان في كل الأديان السماوية والوضعية. لحاجة الإنسان إلى عقيدة وشريعة وما هي إلا حاجته إلى الدين . لذلك كان الإنسان عبر العصور مرتبطا ارتباطا طبيعيا بالدين غير أن هذا الدين كان تارة يأتيه وحيا من السماء عن طريق الرسل وتارة يستحدثه الإنسان نفسه من ذاته العقلية والنفسية. بذلك نرى أن فكرة الدين واحدة لم تتخير منذ القدم ( العقيدة والشريعة) ولكن الذي تغير عبر العصور هو ما يحمله الدين من عقيدة وشريعة بحسب ما كان مصدر هذا الدين الذات الإلهية أو الذات الإنسانية . فقد كان الإنسان يتقلب عبر العصور بين عقيدة وشريعة إلهية كاليهودية والمسيحية و الإسلام وبين عقيدة وشريعة وضعية ، أي من وضع الإنسان، كالفرعونية واللائكية الحديثة، وهو في كل ذلك مرتبط بدين حامل لعقيدة وشريعة.
ثم إن ارتباط الإنسان بالسياسة منذ القدم إنما هو نتيجة لارتباطه بالدين من جانب وبواقع الحياة من جانب آخر . فالدين هو شرعية محدّدة لأصول النظم التي تقوم عليها حياة الإنسان فردا ومجتمعا، ومن بين هذه النظم النظام السياسي والنظام الثقافي والنظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي. فالدين يحمل الصورة المثلى لهذه النظم، وارتباطه بواقع الحياة يجعله يلائم بين هذا الواقع وتلك الصورة المثلى، أي بين الحياة والدين. فارتباط الإنسان بالسياسة يقتضي ارتباطه بالحياة من جانب وبالدين من جانب آخر، ومثله أيضا ارتباطه بالاقتصاد وبالثقافة وبالاجتماع. عن هذا الارتباط الطبيعي الثلاثي بين الإنسان والحياة والدين هو أصل ارتباط الدين بالسياسة وارتباط الدين بالاقتصاد وارتباط الدين بالثقافة وارتباط الدين بالاجتماع، وهو ارتباط تاريخي لم ينقطع أبدا منذ ظهر الإنسان العاقل، ولكن هذا الارتباط تغير بتغير مشرع الدين بين المشرع إلالاهي والمشرع الإنساني . فإذا كان المشرع هو الله تعالى كانت كل نظم الحياة الإنسانية بما فيها النظام السياسي تابعة للدين الوضعي ومنفصلة عن الدين إلالاهي انفصالا كليا كما نرى ذلك في الدين الفرعوني والدين اللائيكي على السواء
من هذا الحديث يتبين أن الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة التي يدعو إليها كثير من المفكرين والحكام والمثقفين في المجتمعات الإسلامية والعربية إنما هي في حقيقتها دعوة إلى فصل النظام السياسي وغيره من النظم الحياتية، عن الدين الإلاهي الذي يدين به المجتمع وهو الإسلام وربطها بأي دين وضعي كاللائكية الغربية . أي هي دعوة إلى تعويض الإسلام باللائكية أو الإنتقال بالإنسان من الدين إلالاهي إلى الوضعي وإن هذه الدعوة ليست جديدة لا في المجتمعات الإسلامية ولا في غيرها . فقد ظهرت في المجتمعات الإسلامية دعوات فكرية وسياسية غيّرت من أصول الإسلام ما جعله أقرب إلى الديانات الوثيقة أو الفرعونية وكانت مع ذلك تنسب نفسها للإسلام. وقبلها جاءت " الكنيسة المسيحية" في القرون الوسطى بدين منحرفة أصوله عن الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام، أي عن الدين الإلاهي، فهي قد جاءت بدين وضعي مخالف للدين الإلاهي، وكانت مع ذلك تنسب نفسها للمسيحية . فدين "الكنيسة المسيحية" في القرون الوسطى ما هو إلا دين فرعوني. وقبلها غير أتباع موسى عليه السلام من الدين الذي جاء والكتاب الذي أنزل عليه ما جعلهم يشرّعون دينا جديدا مختلفا في أصوله وفروعه عن الدين الذي جاء به موسى . فوضعوا بذلك دينا إنسانيا فرعونيا وكانوا مع ذلك ينسبونه إلى موسى عليه السلام.
إن الدعوة اللائكية الحديثة ما هي إلا امتداد للدعوات السابقة التي كانت تدعو إلى الخروج عن الأديان الإلهية الصحيحة، كدين موسى عليه السلام ودين عيسى عليه السلام والإسلام، والدخول في أديان بعضها محرّف عن الأديان الصحيحة كالصهيونية وبعضها متناقض معها أصلا كاللائكية الحديثة وكلها من وضع الإنسان فلئن أفرزت المجتمعات المسيحية دين اللائكية الغربية والمجتمعات اليهودية دين الصهيونية لتعويض أديانها الإلهية الأصلية ،فإن بعض المفكرين والمثقفين والحكام في المجتمعات الإسلامية قد عملوا ومازالوا يعملون على تعويض الإسلام إما باللائكية الغربية أو بدين وضعي آخر جديد .
فإذا رجعنا إلى التاريخ رأينا أن اللائكية الغربية الحديثة قد لاقت إبان خروجها قبولا واسعا في الطبقات الاجتماعية الأوروبية السفلى بينما لاقت مقاومة شديدة من طبقة رجال الدين والحكام . وذلك لأنها كانت دعوة إلى تحرير الناس عامة والضعفاء خاصة من هيمنة الحكام ورجال الكنيسة وبناء مجتمع تكون السلطة العليا فيه للعقل الإنساني فقط ولا يخضع إلا لنظام اجتماعي واقتصادي وسياسي جديد ينفرد هذا العقل الإنساني بوضعه، وبذلك تلغى كل النظم الاجتماعية والاقتصادية التي اشتركت في وضعها طبقات الأسياد والحكام ورجال الكنيسة والتي كانت تحمل الصبغة الدينية الكنسية. فلقد انقسمت المجتمعات الأوروبية إلى فئة قليلة عليا، هم الأسياد الذين وضعوا النظام الاجتماعي الاقتصادي والحكام الذين وضعوا النظام السياسي ورجال الكنيسة الذين وضعوا النظام العقدي الفكري، وفئة كثيرة دنيا هم المستضعفون من الفلاحين والحرفيين والعمال والعبيد الذين اللائكية الحديثة التقت هاتان الفئتان في صراع دموي طويل، إذ تارة الفئة الدنيا المستعصية في وجه الفئة العليا المهيمنة بعد أن ضاقت ذرعا بحياة البؤس والشفاء، واستماتت في معركتها أملا في الإنعتاق والتحرر من أغلال المستكبرين وفي حياة كريمة يكون الناس فيها أسياد أنفسهم، ثم انتصرت هذه الفئة انتصارا باهرا في الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر، فأقامت نظاما سياسيا واجتماعيا جديدين على الأصول الأولى للمذهب اللائكي الجديد. واستطاع هذا النظام أن يثبت في المجتمع الفرنسي وينتشر في المجتمعات الأوروبية الأخرى وأن يشرع في بناء القواعد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية لنهضة أوروبية جديدة. وبذلك أضحى المذهب اللائكي ظاهرة جديدة سائدة في المجتمعات الأوروبية وفقد الفكر الديني المسيحي والأنظمة المجتمعية التابعة له سلطة على هذه المجتمعات . فلقد كان المذهب الديني اللائيكي هو الصورة المثلى لنظام مجتمعي جديد كانت تحلم به المجتمعات الأوروبية المقهورة، فاعتنقته بكل قواها واستماتت في فرضه وتثبيته في الواقع. ولقد جاء هذا المذهب نتيجة تناقضات مجتمعية داخلية كانت تشق المجتمعات الأوروبية. فكانت كل عوامل نشأته وانتشاره وتغلغله أوروبية داخلية. أما المجتمعات الإسلامية فانها لم تطرأ فيها كل تلك العوامل التي أظهرت المذهب اللائيكي وفرضته في الواقع المجتمعي الأوروبي. أي أن المذهب اللائيكي لم يكن هو الدواء الذي كانت تبحث عنه المجتمعات الإسلامية لمّا أصابها الضعف وسقطت فريسة البؤس والشفاء . فلقد كان وضع المجتمعات الإسلامية تختلف اختلافا كبيرا عن وضع المجتمعات الأوروبية المريضة بسبب اختلاف المرض الذي أصاب كليهما، من ذلك أن الانقسام الطبقي في كليهما لم يكن واحدا، وكذلك التحالف بين الطبقات لم يكن متشابها، وكذلك الوضع الثقافي كان مختلفا. لذلك لم تجتمع الأسباب اللازمة و الكافية في المجتمعات الإسلامية لظهور مذهب فكري لائيكي يحمل صورة مجتمعية جديدة كما اجتمعت هذه الأسباب في المجتمعات الأوروبية، فلم يظهر عندئذ هذا المذهب في المجتمعات الإسلامية. إذن لم تكن المجتمعات الإسلامية في حاجة إلى هذا المذهب، تماما مثل مريض القلب الذي هو ليس بحاجة إلى دواء الكبد، وإنما كانت في حاجة إلى مذهب فكري جديد يناسب وضعها الداخلي الخاص، أي إلى نذهب يخرج من داخلها ويراعي عوامل الواقع الخصوصية، وليس إلى مذهب يأتيها من خارجها وقد نشأ في واقع مختلف عن واقعها. فكما أن المجتمعات الأوروبية لم تخرج من هاويتها وتعرف سبيل نهضتها إلا بمذهب فكري عقدي ورؤية مجتمعية يظهرا من صلبها وليس بما تلتقطه من غيرها.
ولكن المجتمعات الإسلامية لم تنظر مليا إلى حاجتها الحقيقية لمثل هذه القاعدة الذاتية وإنما انبهرت بأضواء النهضة الأوروبية التي اخترقت كيانها بالقوة وسحرتها ما أنتجته هذه النهضة من أدوات صناعية وعلمية وتقنية وفنون وآداب ومهن، حتى أضحت لا ترى مستقبلها إلا على هذه الأضواء وبهذه الأدوات، ونسيت أن حاجتها الحقيقية هي في بناء قاعدة ذاتية خاصة لتقيم عليها نهضتها قبل أن تلتقط ما أنتجته النهضة الأوروبية. فأقبلت على اقتناء كل ما كان يأتيها من أوروبا بما في ذلك المذهب اللائيكي.
ثم إن غور أوروبا أقطار العالم الغربي مشرقا وغربا وسقوط الخلافة العثمانية في تركيا رسّخا في عقول بعض المفكرين والقادة السياسيين العرب والأتراك الحاجة إلى إتباع سبيل اللائيكية للنهوض بوضع المجتمع العربي الإسلامي تأسيا بالنهضة الأوروبية فأقيمت في تركيا أول دولة لائكية حديثة بالعالم الإسلامي، ثم تبعتها دول عربية أخرى . وبذلك نشأت دول لائكية في المجتمعات الإسلامية والعربية دون أن تكون هذه المجتمعات قد اختارت النظام المجتمعي اللائكي ولا استساغته ولا دعت إلى إقامة الدولة اللائكية. فكانت الدولة والنظام المجتمعي والفكر اللائيكي مسقطة على المجتمعات الإسلامية والعربية إسقاطا جبريا، وكان الذين قاموا بهذا الإسقاط كانوا يريدون ان يقودا مجتمعاتهم لئن كان للمفكرين والفلاسفة الأوروبيين عذر في أن يكفروا بالمسيحية ويعلنوا رجالها إذ يروا في تاريخ الكنيسة المسيحيّة أيّ فترة حضاريّة مضيئة ترشدهم إلى سبيل النهضة فابتدعوا عندئذ مذهبا فكريا واجتماعيا كافرا بكل أصول الدين، فإنه ليس للمفكرين والفلاسفة والقادة المسلمين نفس العذر . إذ لو رجعوا إلى تاريخ الحضارة الإسلامية ودرسوها دراسة عميقة واستلهموها سبل النهضة لوجدوا فيها مبتغاهم فتاريخ الإسلام في المشرق والمغرب، خلافا لتاريخ المسيحية في أوروبا، شاهد على أن الشعوب العربية وغيرها استطاعت أن تبني على أصول هذا الدين حضارة راقية ممتدة في الزمان والمكان . فقد وجدت المجتمعات الإسلامية على مرّ العصور وفي مختلف الأقطار في أصول الدين الإسلامي ما تجدّد به نهضتها كلّما أصابها الوهن أو اخترقتها الفتن أو اندرست معالم حضارتها. فكانت أصول الإسلام كالنبع الذي لا ينصب. ما استسقاه قوم يريدون النهضة إلا وجدوا فيه ما يشفي غليلهم. وذلك هو سرّ امتداد الحضارة الإسلامية امتدادا عظيما في الزمان والمكان . فكانت كلما مرت عليها فترة انحسار إلا عقبتها فترة مدّ جديدة، فكانت المجتمعات طيلة هذه الفترات ترجع إلى أصول الإسلام تستلهم منها سبيلا جديدة لنهضتها .
لقد أذهل بريق النهضة الأوروبية بعض المفكرين والقادة المسلمين حتى أساهم تاريخهم وحضارتهم ودينهم و أضحوا كأنهم لم يكن لهم شيئا من ذلك. لم يكن هؤلاء منبتين كما كان المفكرون والفلاسفة الأوروبية لمّا لم يجدوا إلى نهضة شعوبهم إلا سبيل اللائكية، بل كانت لهم أصول وجذور قوية وثابتة يستطيعون إن شاءوا أن يبنوا عليها نهضتهم الحديثة بعد أن يزيلوا عنها ركام سنين الانحطاط كما فعلت أجيال المسلمين من قبلهم . إ، أصول الإسلام التي جاءت في القرآن والسنة الصحيحة هي أصول ثابتة لا تتغير مع الزمان أو المكان ، وإنما الذي يتغير هو ما تبينه عيها المجتمعات المسلمة على مرّ العصور وفي مختلف الأقطار من بناءات مجتمعية فكرية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية. فكلما تداعت هذه البناءات إلى السقوط أزيلت ووضعت مكانها على نفس الأصول والقواعد الإسلامية الثابتة بناءات من قواعدها. أليس كمانها قواعد أخرى ضعيفة وغيرها ثابتة . أليس من الحكمة صرف جهد المجتمعات الإسلامية الثابتة بدل صرفه في إزالة تلك القواعد القوية لتوضع مكانها قواعد اللائكية الواهنة.
بعد أن نظرنا إلى جذور النهضة الأوروبية التاريخية ورأينا أنها غريبة عن المجتمعات الإسلامية وغير ملائمة لها ومتناقضة مع جذورها الإسلامية لننظر هل أن الذين أرادوا وضع جذور اللائكية في المجتمعات الإسلامية قد درسوا طبيعة النهضة الأوروبية وآثارها على الواقع الإنساني حتى يعلموا هل هي أنموذج صالح لأن تتبعه المجتمعات الإسلامية وغيرها ذلك أنهم يجنون على مجتمعاتهم إن جعلوها تسلك طريقا لا تعلم أين ينتهي بها ويكون التجني أشد إن جعلوها تسلك طريقا يعلمون أنه ينتهي بها إلى الهلاك. لئن كانت النهضة الأوروبية الحديثة قد غيرت ما بالشعوب الأوروبية من بؤس وضعف وذل وعبودية وجهل ومرض وخوف وفقر حتى عمّها الرخاء والأمن والعلم والحرية والكرامة والقوة، فإنها لم تفعل ذلك بالشعوب الأخرى، بل فعلت عكسه . إذ صنعت هذه النهضة دولا أوروبية مستكبرة ومتجبّرة، ما أن رأت الشعوب الإسلامية المحيطة بها شرقا وجنوبا يصيبها الوهن والجهل والفقر حتى انقضت عليها كما ينقض الوحش على فريسته، فاستبعدت أهلها واغتصبت خيرات أرضها الظاهرة والباطنة. وقصة الاستعمار معروفة. أمثل هذه الحضارة تصلح أن تكون أنموذج تتبعه المجتمعات الإسلامية حتى لو سلمّنا أنها ستخرجهم من واقع البؤس والوهن إلى واقع الرخاء والقوة. أحضارة الاستكبار والاستعلاء الأوروبية خير أم حضارة الرحمة والأخوّة الإسلامية التي عرفتها وخبرتها الشعوب بمختلف قوميّاتها عربية آسيوية وإفريقية وأوروبية. إن النهضة الأوروبية قد صنعت حضارة البغي والعدوان والفساد في البرّ والبحر والجوّ، وفرقت شعوب الأرض شيعا تستضعفهم وتستبيح دماءهم وأموالهم و حرمانهم، وهاهي اليوم تحكم قبضتها عليهم بالقوة العسكرية والاقتصادية والمالية وما صنعته من وسائل الدّمار الشامل والاستعلام والتجسّس المنتشرة في كل شبر من العالم برّا وبحرا وجوا، حتى أضحى العالم اليوم قرية تحيط بها القوى الغربية المهيمنة من كل جانب.
إن النهضة الأوروبية قد صنعت حضارة جعلت كل شعوب الأرض، ما عدا الشعوب الأوروبية الأصل، لا تعرف في واقعها معنى حقيقيا لمبادئ الحرّية والحق والعدل وإنما تعرف معاني مزيفة لهذه المبادئ. وذلك لأن هذه الحضارة قد جعلت المبدأ الوحيد الذي يربط بين الشعوب الأوروبية و غيرها من شعوب الأرض هو مبدأ المصلحة، حتى قالت أخيرا الشعوب الأولى للثانية أن عصر الأيديولوجيات قد ولى ولم يبق إلا عصر المصالح، وهي تعني بالأيدلوجيات : المبادئ الإنسانية والعقائد الدينية. فضربت بهذه المبادئ والعقائد كلها عرض الحائط وجعلت مصالحها الماديّة الخاصة فوقها والمرجع الأول والأعلى لأعمالها وعلاقاتها بالشعوب المستضعفة. صحيح أن النهضة الأوروبية قد بشّرت في أيامها الأولى بالمبادئ الإنسانية الخالدة كالحرية والعدل والحق والأخوة والمساواة والنظام، ولكن ها نحن نراها في الواقع اليوم تحيد عن كل المبادئ فلا ترى إلا مبدأ واحدا يربط بين الشعوب الغربية وبين غيرها من الشعوب، وهو مبدأ المصلحة، وكأن تلك المبادئ الإنسانية هي حكر على شعوب الغرب وتحجر على غيرها. إنه يكفني للدلالة على بشاعة الوجه الحضاري الذي صنعته النهضة الأوروبية أن نرى كيف صنعت دويله صهيونية في قلب العالم الغربي الإسلامي ومكنتها من كل أسباب القوة لغاية واحدة هي إخضاع هذا العالم لهيمنتها وضمان مصلحتها فيه أبد الدهر.
ثم لنتساءل هل أن النهضة الأوروبية قد صنعت مجتمعا مدنيا حقا في أوروبا وأمريكا ذاتها. إن كنا نعني بالمدنية القدرة على سدّ كل الشهوات والأخذ من كل اللذات كشهوات ولذّات النظر والسمع والبطن والفرج واكتناز الذهب والفضة امتلاك السيارات والطائرات والباخرات وغيرها فإن النهضة الأوروبية قد سدّت كل ذلك وأكثر لفئة من شعوبها. و لكن إن كنا نعني بالمدينة التضامن بين الفقراء والأغنياء وبين الضعفاء والأقوياء، وإعلاء شأن حرمة النفس والأموال والأعراض بين الناس،وإيثار الحق العام كالنفاق والكذب وأكل الأموال بالباطل، وغير ذلك من القيم الروحية بالعكس جعلت قيم الغاب هي السائدة في المجتمعات الغربية. الأنبياء والأعراض تستباح بالليل والنهار، والحق الخاص مقدم على الحق العام، والكذب والنفاق وأكل الأموال بالباطل أضحت عملة رائجة عند كل شبابا وكهولا. إن المدينة هي قيم سلوكيّة إنسانية عالية وليست غرائز شهوانية حيوانية. وإن واقع المجتمعات الغربية اليوم ليشهد على أن النهضة الأوروبية لم تفلح في إقامة مجتمع مدني بمعنى المدنية الصحيح ، وإنما بعكس هذا المعنى. فتسميه " المجتمع المدني" لا تصح عليه، وإنما تصّح عليه تسمية " المجتمع الغابي". غابيا بالمجتمعات الغربية، وهيمنة واستنكارا بالمجتمعات الأخرى. فكيف نريد أن نأخذ عن هذه النهضة أساسها اللائيكي ونحن نرى هذه النتائج المفجعة والمصائب الكبرى التي أصابت بها كل شعوب العالم بما فيها الشعوب الغربية. إن من يريد أن ينهض بالمجتمعات الإسلامية على قاعدة اللائكية تأسييا بالمجتمعات الأوروبية إنما يقود هذه المجتمعات إلى نهاية حتمية هي نمط " مجتمع الغاب" الذي انتهت إليه المجتمعات الغربية.
إن الذي يبين لماذا انتهت المجتمعات الغربية إلى واقع بشع داخليا وعاليا بعد أكثر من قرنين من انطلاق نهضتها اللائكية هو أنه لم تكن لنهضتها قاعدة عقدية وقيمية ثابتة في الزمان والمكان وغير مقيدة بمتغيرات النوع الإنسانة كالقومية والثقافية المحلية واللون و غيرها. وإنما كانت قاعدتها الفكرية والقيمية، وهي اللائكية مرتبطة شديد الارتباط بالإنسان الأوروبي وخصوصياته العرقية والثقافية ومستمدّة من فكر ظني غير ثابت باليقين فالقاعدة اللائكية هي قاعدة غير يقينية فكريا وهي محلية أو خصوصية . لقد كانت قاعدتها الفكرية ظنية في رؤيتها لحقيقة الإنسان وحقيقة الكون وحقيقة ما وراء الكون، إذ لم يكن لهذه الرؤية برهان يقيني، لذلك كانت هذه الرؤية خاطة من أصلها وبكل توابعها الفكرية والقيميّة . وهذا الخطأ في الأصول هو الذي نشأت عنه أخطأ في الفروع التي منها الشرائع والقوانين المجتمعيّة والقواعد السلوكية . وهذه الأخطاء هي التي نشأ عنها " مجتمع الغاب" ، بدل المجتمع المدني، التي انتقلت فيه القيم رأسا على عقب فصار النفاق والجشع في قمّة القيم الحضارية والصدق والتعفف في أديناها وأبيح فيه الفساد بكل أنواعه كالرّبا والزنا وشرب الخمر. أما محلية اللائكية أو خصوصيتها فهي تعني ارتباطها التاريخي والجغرافي والثقافي والحضاري بالإنسان الأوروبي .إذ جاءت نتيجة مخاض طويل وعميق وواسع عاشه المجتمع الأوروبي.لذلك رسمت اللائكية صورة مثلى للإنسان الأوروبي مرتبطة بخصائصه التاريخية والجغرافية ومتطلبات واقعه . فلما أرادت النهضة الأوروبية أن تتسع خارج محيطها الأوروبي حاملة معها تلك الصورة المثلى اصطدمت بصور أخرى ذات خصائص تاريخية وجغرافية وواقعية مختلفة اختلافا كبيرا عن خصائص الصورة الأوروبية. وإن انتقاد الأوروبيين بأن صورتهم المثلى هي صورة مطلقة صالحة لكل زمان ومكان، وهي ليست كذلك، جعلهم يفرضونها على غيرهم من الشعوب بالقوة. وبذلك نشأت في الدول الأوروبية نزعة الاستكبار والهيمنة العالمية.
إن القاعدة اللائكية بفكرها الظني وخصوصيتها المجتمعية هي التي جعلت النهضة الأوروبية تفشل في إقامة مجتمع مدني أوروبي حقيقة وفي بناء حضارة إنسانية عالمية لذلك فإن اللائكية هي قاعدة على الإطلاق، إذ لم يخرج منها إلا الشوك والحنضل . فإن نجد القاعدة التي تكون بفكرها اليقيني وإنسانيتها المطلقة صالحة اليوم لإقامة مجتمع مدني حقيقي وحضارة إنسانية عالمية؟ إننا لن نعثر عليها إلا في أصول الإسلام. لأن أصوله العقيدية يقينية غير ظنية بل ثابتة بالبراهين الحسيّة، وصورته الإنسانية المثلى غير مقيدة لا بالتاريخ ولا بالجغرافيا ولا بالعنصر ولا بالقومية ولا بالثقافة المحلية، بل هي صورة مطلقة حسيّا ووحدانيا إن بديل اللائكية الغربية الفكري والمجتمعي إنما هو في أصول الإسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.