كانت حرب بنزرت أو معركة الجلاء العسكري التام في صائفة 1961 من أبرز الوقائع التي كان لها تأثيرها في مجرى الأحداث في الستينات. ذهب البعض إلى القول بأنّ الزعيم الحبيب بورقيبة كان ربما يعتقد أنّ الجنرال ديغول لن يأمر عساكره بفتح النار خشية ردود فعل الرأي العام الدولي، وأنّ بورقيبة كان يظن أنّ الأمر لن يتعدّى حدّ المناوشات الكلامية. وذهب آخرون إلى القول بأنّه قد يكون أراد تفنيد الشبهات التي ألصقها به خصومه عند تفجر الخلافات مع الزعيم صالح بن يوسف ودخول القاهرة على الخط لدعم الجناح اليوسفي وكيل التهم جزافا لبورقيبة «عميل الغرب» لكن هذا لا يكفي لتفسير خيار المواجهة العسكرية الذي أقدم عليه الزعيم الحبيب بورقيبة، بل من المستبعد منطقيا أن يكون سعى إلى الحرب لمجرّد ردّ تهمة التذيل للغرب وإثبات أنّه قادر هو أيضا على مواجهة هذا الغرب تماما مثل جمال عبد الناصر الذي حوله العدوان الثلاثي على قناة السويس إلى رمز للعروبة والمجد والبطولات. وبصرف النظر عن مثل هذه الاعتبارات، فإنّ خيار المواجهة العسكرية كان محل انتقادات في الداخل، ومثار تساؤلات حائرة، حتى في مستوى بعض دوائر الدولة والحزب الدستوري، فضلا عن الخصوم.
بين المفاوضة والضغط
هذه التساؤلات طرحها مبعوث صحيفة «لوموند» جون لاكوتور، على الزعيم الحبيب بورقيبة الذي أجاب قائلا: «لقد كتبتم في جريدة لوموند في جويلية 1961 أنّي فقدت الصواب وأنّي تنكرت لسياستي وأنّ بعض العناصر، وخاصة من الجيش، لم يفهموا موقفي في تلك القضية، فالأمر الذي تلاحظونه هو أنّ الشعب التونسي فهم موقفي ووافق عليه لأنّه كان متماشيا تماما مع خطتي المعهودة منذ ما يزيد عن الثلاثين عاما، أي المزج بين المفاوضة والضغط للتحصيل عبر مراحل، على السيادة والجلاء عن التراب الوطني».
رفضنا الاذلال والاهانة
وكان السؤال الموالي الذي طرحه «جون لاكوتور»:
نعم، إلّا أنّ الخطة البورقيبية تمتاز بقلّة تكاليفها، وهذا لم يقع في قضية بنزرت؟
وأجاب بورقيبة «لقد خسرنا بكلّ أسف أكثر من ألف قتيل، إلّا أنّ هذا العدد لا يمكن أن يقارن بالخسائر التي تكبّدها الجزائريون، حتى ولو اعتبرنا الخسائر التي حصلت بعد إيقاف القتال في الجزائر. فقد رسمت لنفسي دائما خطة لا يمكن لي التنازل عنها أبدا وهي الكرامة، لقد كانوا يريدون إهانتنا وإذلالنا، فما توسيع مطار بنزرت وإرسال رجال المظلات في الوقت الذي كنا نطالب فيه بالجلاء، إلّا إذلالا وإهانة وقف ضدهما التونسيون إلى جانبي وتفهموا موقفي».
الانتقادات تخرج إلى العلن
لم يكن خوض حرب الجلاء محل إجماع، إذ كان هناك من يعتقد أنّه كان بالإمكان التوصل إلى حلّ بالطرق الديبلوماسية وازدادت الانتقادات عندما اتضح أنّه كان في الإمكان تفادي الخسائر البشرية الجسيمة لولا بعض الارتجال والهنات الفنية على ساحة المعركة. وخرجت الانتقادات في تلك الفترة من التهامس إلى العلن، لا في صفوف المعارضة الشيوعية وصحفها فحسب، بل حتى في مستوى صحيفة «أفريك أكسيون» التي كان يشرف عليها البشير بن يحمد، وكان من أقرب المقربين إلى بورقيبة.
الديمقراطية والحكم الفردي
وفي سلسلة افتتاحيات من غرة أكتوبر إلى 5 نوفمبر 1961 تحت عنوان «الديمقراطية والحكم الفردي» حلل الحبيب بولعراس على أعمدة جريدة العمل وكان مديرها آنذاك الدوافع التي أدت بالرئيس الحبيب بورقيبة إلى ترجيح كفة الخيار العسكري على الخيار الديبلوماسي. «لقد حاولت في المقالين السابقين أن أضع الأمور في نصابها الحقيقي أي أن أسجّل أنّ الحكم الفردي الذي يلام عليه الحبيب بورقيبة هو في الواقع دستوريا حكم قانوني منحه إيّاه الدستور، وأنّه في الميدان الحزبي حكم يتحمل مسؤوليته جميع أعضاء الحزب الحر الدستوري التونسي، كما حاولت أن أفسر أنّ المسألة في نظري ليست نقدا للحكم الفردي من حيث المبدأ لأنّ هذا الحكم قائم منذ 25 جويلية 1957، وإنّما هي تخصّ السياسة التي اتبعها هذا الحكم. ونستطيع أن نقول دون أن نكون خُنّا أمانة نقل آراء الناقدين أنّ مسألة بنزرت اعتبرت النقطة التي فاض بسببها كأس النقد، وأنّه ما دامت مقابلة «رامبويي» قد سبقت بنزرت، فإنّ ما جرى في «رامبويي» يعتبر نقطة أساسية في تطور هذه السياسة. فالجنرال ديغول يقول في ندوته الصحفية أنّ الحبيب بورقيبة جعله يشعر في «رامبويي» أنّ قضية بنزرت ليست مستعجلة وجماعة «تريبون دي بروقري» تقول أنّ سياسة «رامبويي» فشلت.
جماعة أفريك أكسيون
أما جماعة «أفريك أكسيون» فإنّها تعتبر أنّ قضية بنزرت كانت مثالا للحكم الفردي وأنّها كانت خطأ في الحساب (..) لكن مهما كان من أمر، فإنّ ذكر مثل هذه الأحداث لا يعني أنّنا نريد نحن التهرب من المسؤوليات التاريخية، فنحن نعتقد كما قلت في المقال السابق أنّ كل دستوري مسؤول عن السياسة التي اتبعها الحزب والتي اتبعها رئيس الحزب».
لا نهرب من المسؤوليات
ونطالع في الحلقة الثانية من سلسلة افتتاحيات الحبيب بولعراس «إنّ قائمة ضحايانا وحدها وصوت المدافع في بنزرت والجنوب لم يغب بعد عن الآذان، تكفي للدلالة على قيمة ما قدمه أبناء هذه الأمة من أبطال الحزب، من تضحيات في سبيل الحركة التي انطلقت على أيدي هذا الحزب وسارت به وبالأمة جمعاء من نصر إلى نصر، فهذا لن يمسحه أحد من التاريخ بمجرد مقالات تكتب في الصحف.. فنحن في الحزب سواء منا القدامى الذين عاشوا فترات مختلفة من الكفاح، أو الجيل الحاضر الذي ورث عنهم معاني الكفاح وأشكاله لم نتعود الهروب من المسؤوليات ومقاسمة الناس الأفراح والاختفاء في أوقات الصعوبات».
بورقيبة: أكثرنا من منافس التنفس حتى استهانوا بنا
وعاد الرئيس بورقيبة، في اختتام أشغال المجلس الملي يوم 2 مارس 1963 إلى مسألة الانتقادات واصفا أصحابها بأنهم عديمو الأخلاق «هناك أيضا اتهامنا بكبت الحريات ومطالبتنا بمزيد من الديمقراطية بدعوى أنّ في ذلك متنفسا يروح على النفس كلما قوى عليها الضغط، لكننا أكثرنا من منافس التنفس حتى استهانوا بنا وأصبحوا يقدحون في رئيس الدولة على أعمدة الصحف ويتهمونه بالحكم الفردي وبغير ذلك من التهم التي كالها لنا من لا أخلاق لهم في الصحف السيارة، على أنّنا نذهب إلى أكثر من منافس التنفس تلك..»
عودة الوئام
ومهما كان من ملابسات تلك الفترة، فقد ظلّت معركة الجلاء عن بنزرت، إحدى علامات كفاح الشعب التونسي من أجل السيادة والكرامة، وهي من المعاني التي تجلت من خلال الذكرى الأولى وما أعِدّ لها من احتفالات حضرها بالخصوص الزعيم جمال عبد الناصر، وكان ذلك حدثا بارزا ومؤشرا لعلاقات جديدة لم تلبث أن عادت إلى التوتر غداة خطاب أريحا الشهير يوم 3 مارس 1965.