1990--------------- 2010... تلك كانت حقبة تخلّلتها أكبر حملة ممنهجة في تاريخ تونس، نفّذتها فئة تملك مفاتيح القصر، ومقود الدبابة، وزرّ الرشاش في حقّ قطاع واسع من شعبها.. حملة مركزة تخمّرت فيها خطّة تجفيف المنابع، ثم أطلقت بمعيّة مخالب الأجهزة الأمنيّة في تقاسم خسيس للأدوار، خطّة تجفيف تأتي على البنية التحتيّة المتمثّلة في الفكر ومخالب أجهزة تأتي على البنية الفوقيّة المتمثّلة في البشر، انصهر الشرّ في الشرّ لينفّذ سلسلة من عمليات الاستئصال والقتل والتشريد والترويع والتعذيب... ثم ليقترف أبشع أنواع الضربات الاستباقية في استنساخ سافر، بل وفي مزايدة فجّة على منهج الحجاج القائل: "وإنّي أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى.. والمقيم بالظاعن.. والمقبل بالمدبر..والمطيع بالعاصي.. والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول : انج سعد فقد هلك سعيد.. أو تستقيم لي قناتكم." هذا حَجَّاج العراق،، وذاك "حَاج" تونس.. أخذ الأم بابنها، والمرأة بزوجها، والصبيّة بأبيها، والأخت بأخيها، والجار بجاره، والعطّار بمدينه، والطبيب بمعيده، والنزل بنزيله... الكلّ تحت وهج الحقد ولظى الغرور وحمم التشفي.. امتلأت مراكز الأمن،، وفاضت السجون بنزلائها،، فلفظتهم في دور ومحلات وبنايات معزولة، أجِّرت خصّيصا لسلخ البشر، والعبث بالآدمية.. ودارت هناك رحى مذبحة تترقب صحو الجو وانقشاع الغبار لتدوّن وتمحّص فتكون لهذا وسام شرف ولذاك وصمة عار... ثم ها هو الوطن ينتفخ برائحة الدم وجثث الشهداء وغبار الملاحقين، فيفتح فجوات يمرّ عبرها المطاردون برّا وبحرا وجوا في بحث شاق ومتعب عن يابسة أخرى تلملم فيها الجراح ويأمن فيها الفزع ويصمت فيها وقع أحذية زوّار الفجر زبانية الموت.
استقرت أفواج في قبورها، وأفواج في سجونها،، وأخرى في مواطن هجرتها، واحتسب الكلّ أو الجلّ.. وهدأت الأنفس في رحاب سنن الابتلاء، فاستقر الرضاء في النفوس والسكينة في القلوب.
ولمّا كان للزمن سننه، بدأت الأشهر تنفض أيّامها، والسنين تفطم شهورها.. وهجع الطلب، وخفت بركان الفزع، وأمّن الناس على رقابهم، ثم أمّنوا بطونهم، ثم روّحوا على أنفسهم.. وبما أنّ النفس البشريّة ميّالة بطبعها للملل وإن كانت تسبح في الرخاء، فإنّ طموح الكثير تشكّل من جينات قلقة بُرمجت على إنجاز السيل والقفزة النوعيّة، وتهيأت لحصاد وفير، سريع، مجاني ودون تبعات، فإذا بها أمام سنن الصبر والتدرج والنفس الطويل.. فارتدّت تأكل بعضها بعضا،، وتحصد محيطها وتلتهم مخزون السنين.
وبما أنّ الرّخاء نديم الرخس، فقد تداعت شريحة للتفسّح في استعارة موجّه لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم "تفسّحوا يفسح الله لكم"، استهوتهم رخصة التوسّع في الترويح فقاموا بتوسعة "ترويحيّة" ضخمة هدموا فيها "الثابت" من أجل مباح مقيد!!!
في حضن الترف والسعة وضعف الاحتساب، تتورم الأشياء فيصبح الشوق عقيدة، والحنين إيمانا، والاستجمام فرضا.. عندما تنقلب الأشياء وتتصدّع المفاهيم ويصبح السفاح ماسكا بناصية الكلمة والمبنى والمعبر والطريق والوثائق... عندها وحين تصبح كلّ الأوراق بيد الجلاد ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام - فصيل يسمى الأشياء بمسمياتها، ويصنّف الناس وفق أفعالهم لا وفق عضلاتهم.... وفصيل يهادن الجلّاد ويستعفف في مدحه ولا يعمد لجلد ضحاياه.... وفصيل ثالث طال عليه الأمد، فطفق يخلط الأوراق الذئب حملا، والحمل ذئبا،، والثبات تنطعا، والاستسلام فضيلة، وعقود من الصبر بادل بها نافذة مقيّدة يطلّ من خلالها على وطن بشروط تفتقد إلى أبسط أبجديّات المواطنة.
ليس المشكل في أن تمدّ ذراعا، ويمدّ غيرك باعا.. فذاك زخم محكوم بالطّاقة والعزيمة ولا مكان فيه للّوم والتقريع، وذروة الاجتهاد هو السعي لشيء من الشحذ والتحفيز، إنّما المشكل في قلب الحقائق وعدم تسمية الأشياء بمسمّياتها والعبث بالمسلمات، المشكل في أن تنحني المُثُل تحت أقدام الجلاد، وتصفّف المبادئ مع التوابل داخل المحلات في خضوع مذلّ لمنطق السوق، قد يُعقل أن يتعايش ميزان القوى مع مصطلحات مثل التروي والتجاوز وغضّ النظر، والمهادنة وعدم التصعيد والتفهّم والحكمة واللباقة... لكنّه من العبث والسخرية أن نلتجئ تحت ذريعة ميزان القوى إلى قلب الثابت فيصبح الأبيض أسودا، والشتاء صيفا، والأسد هرّا، والخمر عسلا، والجلاد حليما، والداعية هادما لدين الله، والمانع للحجاب المدنّس للمصاحف حام حماه... وحتى لا نمضي بعيدا في تثبيت الثابت وفي إقرار معلومة من "الرجوليّة " بالضرورة، وحتى لا يخدع الحاكم المحكوم.. على الكلّ أن يعلم أنّ الظلم والقهر والجور والتعدّي والإهانة والتعذيب والقتل والتشريد... معان كنهها ثابت، عرّفها الشرع والعقل والعرف، يخدع نفسه من أمسى على تعريف لها وأصبح على غيره مقابل متاع قليل، إنّه من المهين أن تصبح بعض مؤسسات الدولة من قبيل القنصليات والسفارات وبوابات الجمارك عرّابة للغشّ والتدليس، تهب صكوك الغفران مقابل تزكية الجلاد وإدانة الضحيّة، لقد تحوّلت هذه المؤسسات إلى مستودعات كبيرة تفكّك فيها المعاني، ويعيد تركيبها وفق الطلب.
زمن رديء ذلك الذي يُحتفى فيه بجلاد يقبض ثمن جلده من عرق ضحاياه، ويستهان فيه بداعية يدفع ثمن دعوته من أهله ولحمه وعمره،، زمن بائس ذلك الذي يُلمز فيه الدعاة ويُمدح فيه الطغاة، زمن حقّ فيه قول المعرّي:
إذا وصف الطائيَ بالبخل مادرٌ ... وعيّرَ قِسّاً بالفهاهة باقِلُ وقال السّهى للشمس أنتِ ضئيألة ... وقال الدّجا: يا صُبْحُ لونُك حائل وطاولتِ الأرضُ السماءَ سفاهةً ... وعيّرتِ الشُهبَ الحصا والجنادلُ فيا موتُ زُرْ إنّ الحياة ذميمة ... ويا نفسُ جِدّي إنّ دهركِ هازل