في التصور الإسلامي 2/2 حرية المعتقد الصحبي عتيق* ثالثا: الإسلام لم يمارس تصفية على أساس الاعتقاد الدّيني ولم يعمل على إذابة خصائص الشّعوب الثّقافيّة أو محوها لصالح كيان لغوي وثقافي واحد. بل احترم غير المسلمين ونظّم حقوقهم ورعى حرمة شعائرهم وصان معابدهم وجعل من أسباب الجهاد في سبيل الله حماية حرية العبادة مطلقا فقال تعالى "ولولا دفاع الله النّاس بعضهم ببعض لهُدّمت صوامعٌ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجدٌ يُذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقويٌّ عزيزٌ " (الحجّ-40) "فهذا دفاع عن الحقّ والدّين ينتفع به جميع أهل أديان التوحيد من اليهود والنصارى والمسلمين وليس هذا دفاعا لنفع المسلمين خاصّة "(فالصّوامع هي للرهبان والبِِِِِِِِِيَعُ (جمع بيعة) وهو مكان عبادة النصارى والصّلوات:جمع صلاة والمراد بها كنائس اليهود) ويضيف الإمام ابن عاشور:َأمّا بيوت النار (أي لغير أهل التّوحيد من الأديان الثّلاثة) فلا تتضمّن هذه الآية منع هدمها فإنّها لا يُذكر فيها اسم الله وإنّما منع هدمها عقد الذمّة لذي ينعقد بين أهلها وبين المسلمين. (ابن عاشور -17/21) والذمّة معناها العهد والضمان والأمان. وقال رسول الله صلّى لله عليه سلّم: من آذى ذِميّا فأنا خصمه" (رواه الخطيب) وقال:"من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنّة" (رواه البخاري وأحمد) واشتمل عهد النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل نجران (وهم نصارى) أنّ لهم جوار الله وذمّة رسوله على أموالهم وملّتهم وبيعهم. وفي العهدة العمرية المشهورة لأهل القدس نصّ الفاروق عمر-رضي الله عنه- على حريّتهم الدينية وحرمة معابدهم وشعائرهم "هذا ما أعطى عمر أمير المؤمنين أهل إيليا(القدس) من الأمان. أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملّتهم. لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبها ولا من شيء من أموالهم ولا يُكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم"( تاريخ الطّبري -3/609) روى البخاري أن جنازة مرّت على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقام لها فقيل: يا رسول الله إنّها جنازة يهوديّ. فقال:أليست نفسا؟" ولقد حاسب عمر بن الخطاب عامله على مصر عمرو بن العاص في خصومة مع مسيحيّ وقال قولته الشّهيرة:"متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا" وأجرى كفالة المعيشة للشّيوخ والعجّز والفقراء منهم بل ذهب الأيمّة الشّعبيّ والنّخعيّ وأبو حنيفة إلى أنّ المسلم يُقتل بالذمي لعموم النّصوص الموجبة للقصاص (الشّوكاني : نيل الأوتار -7/152) وهذا على خلاف الجمهور. إنّ حريّة التّديّن والاعتقاد مكفولة لجميع النّاس في الإسلام ولا معنى للحريّة دون الإظهار وإقامة الشّعائر ولكن في إطار من الإحترام لشعور المسلمين وعدم إظهار التّحدي أو الاستفزاز للإسلام والمسلمين حفاظا على عناصر المجتمع ووئامه وتجنّبا للإظطراب والفتن. رابعا:إنّ الإسلام هو اليوم محور الشّخصيّة الحضاريّة من جميع جوانبها وتحوّل عبر مراحل تاريخيّة إلى بوتقة تشكّلت فيها النّظم والنّظريّات القانونيّة والأخلاقيّة والسياسيّة للمجتمع العربي والإسلامي فلم يعد للشّخصية العربيّة من مرتكز حقيقيّ آخر غير الإسلام٬ ولقد غدا الإسلام أساس الأنظمة المعرفيّة والخُلقيّة والسياسيّة فهو خلفيّة ثقافيّة جامعة ومصدر للقيم والنّظم ٬وكلّ محاولة لتهميشه أو "تعويمه " هو نيل من الهويّة ومدعاة للإستيلاب. خامسا: من المسائل المنهجيّة الهامّة للإسلاميّين اليوم أن ينعتقوا من قيود البنية التّقليديّة التي سادت لقرون وكادت تتحوّل إلى الصّورة الوحيدة للإسلام وأن يتجاوزوا التّقصير في معرفة الواقع من جهة ومعرفة الشّريعة وما يسعهم فيها من المدارس والآراء المتعدّدة من جهة أخرى.يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:"ولا زلت أحذر الأمّة من أقوام بصرهم بالقرآن كليل ،وحديثهم عن الإسلام جريء ،واعتمادهم كله على مرويات لا يعرفون مكانها من الكيان الإسلامي المستوعب لشون الحياة..."( الغزالي:السنّة النبوية بين أهل الفقه و أهل الحديث) . إنّ ركاما من التقليد والغموض يسود اليوم عقول الإسلاميين ولا بدّ من إعادة صياغة الفكر الإسلامي بما يستجيب إلى تحدّيات العصر دون خروج عن الأصل. ________________________ *كاتب وباحث من تونس