رابعًا: النّهي القرآني الصّريح عن استخدام القتال كأداة لتغيير معتقدات النّاس وأديانهم واعتبار ذلك نوعًا من أنواع الظلم من خلال الرّبط الموضوعي بين آيات القتال بعضها ببعض كموضوع واحد يتعزّز فهمنا السّابق للقتال في الإسلام ولحريّة المعتقد والبلاغ، وكيف أنّ الإسلام اعتبر البلاغ والحوار وسيلة الدّعوة، لا القتال والحرب من خلال الآيات القرآنيّة الصّريحة التي وردت في سياق ذمّ قتال الآخرين بسبب عقائدهم وإيذائهم عبر إخراجهم من ديارهم وهدم دور عبادتهم في قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). فهذه الآيات البيّنات نستفيد منها عدّة معاني وأحكام شرعيّة أهمها:- أ- أنّ مشروعيّة القتال في الإسلام وفلسفته تقوم على علّة وقوع الظلم على الآخرين لا علّة الكفر والإيمان، كما هو الفهم التقليدي الشائع (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ). ب- تصريح هذه الآيات بأنّ مقاتلة الآخرين وإيذاءهم عبر إخراجهم من ديارهم بسبب اختلاف عقائدهم هو نوع من أنواع الظلم الذي يوجب النّصرة الإلهيّة عبر سنّة التّدافع (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). فالمقصود بالصّوامع -كما يقول علماء التفسير- صوامع الرّهبان التي يعتزلون فيها للعبادة، والبِيَع هي كنائس النصارى، والصّلوات هي كنائس اليهود، والمساجد هي مساجد المسلمين. وبهذه الآيات البيّنات يتّضح بأدلّة قطعيّة أنّ مقاتلة الآخرين لإكراههم على تغيير معتقداتهم وإخراجهم من ديارهم وهدم دور عبادتهم يُعدّ نوعًا من أنواع الظلم الذي لا يقرّه الإسلام بما يعزّز فهمنا السّابق إلى درجة القطع بأنّ الإسلام قائم على حريّة المعتقد، واحترام الأديان الأخرى، وأنّ القتال ليس وسيلة من وسائل الدّعوة وأداة من أدوات تغيير معتقدات الآخرين عبر الإكراه، وإنما الحوار والبلاغ والمجادلة بالتي هي أحسن، أو بمعنى آخر أنّ القتال لم يشرّع إلاّ للمحافظة على حريّة الناس دينًا ونفسًا وعقلاً ومالاً وعرضًا وأرضًا. ج- لو تدبّرنا هذه الآية لوجدنا أنّها تقرّر حقّ المواطنة بغضّ النظر عن الاختلاف في العقيدة فقوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ) أيْ أُخرجوا من أوطانهم، فهذا نصّ صريح في حقّ المواطنة، أمّا دليل الاختلاف العقديّ فقوله تعالى: (لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ)؛ فهذا نصٌّ صريح على التعدّد "العقائدي"؛ لأنّ الصّوامع المقصود بها صوامع الرّهبان، والبيع هي كنائس المسيحيّين، والصّلوات هي كنائس اليهود والمساجد دور عبادة المسلمين. وبهذا يتّضح لنا أنّ هذه الآية قد قرّرت حقّ المواطنة لأبناء الوطن الواحد، على الرّغم من الاختلاف والتعدّد العقديّ، من خلال النّهي عن مقاتلة الآخرين، وإخراجهم من ديارهم وأوطانهم بسبب الخلاف العقديّ. أما دليل المواطنة المتساوية غير المنقوصة فيكمن في قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، فصريح هذه الآية قد أمر بالبرّ والقسط مع المختلفين معنا في العقيدة، طالما أنّهم لم يقاتلونا ولم يعتدوا علينا، والمقصود بالبر حسن التعامل بل هو أرقى أنواع التعامل بدليل قوله تعالى (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)، أما المقصود بالقسط فهو العدل في إعطائهم حقوقهم بليل قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، والميزان هو رمز العدالة ومن المعلوم أنّ للميزان كفتين: كفّة الواجبات وكفّة الحقوق، فهذا دليل صريح من القرآن على المواطنة المتساوية في الحقوق. ويتعزّز فهمنا لهذه المعاني القرآنيّة القائمة على احترام عقائد الآخرين، وعلى القبول بالتعدّد الديني في إطار دولة الإسلام من خلال النّهي عن إخراجهم من ديارهم (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) بالسنّة العمليّة للرسول -صلى الله عليه وسلم- والصّحابة -رضوان الله عليهم- التي كانت ترجمة عمليّة لهذه المعاني القرآنيّة؛ حيث حافظوا على حريّة اليهود والنّصارى في كنف الدّولة الإسلاميّة وقامت الدّولة الإسلاميّة على أساس التعدّد العقديّ والمحافظة على حريّة المعتقدات ابتداء من دولة المدينة التي قامت على أساس الصّحيفة والوثيقة بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويهود المدينة التي أقرّت تعدّد الأديان في دولة المدينة، حتى إن من ضمن ما ورد في صحيفة المدينة (المسلمين واليهود أمّة من دون الناس). فهذه الصّحيفة هي أوّل وثيقة سياسيّة تقوم على أساس التعدّد الديني والمواطنة المتساوية، ولم يقاتل الرّسول -صلى الله عليه وسلم- اليهود في المدينة إلاّ بعد خيانتهم للمسلمين وتحالفهم مع قريش ضدّ الرّسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة بما يعتبر خيانة وطنيّة ونقضًا للعهد، وبعهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وميثاقه مع نصارى نجران الذي جاء في بنوده ما يؤكّد حريّة المعتقد والمواطنة المتساوية: فقد ورد في البند السّابع من العهد ما يؤكّد حريّة المعتقد: (لا يجبر أحد ممّن كان على ملّة النصرانيّة كرها على الإسلام. (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن). ويخفض لهم جناح الرّحمة، ويكفّ عنهم أذى المكروه حيث كانوا، وأين كانوا من البلاد). وورد في البند التّاسع ما يؤكّد المواطنة المتساوية: (لا يرفضوا ولا يخذلوا ولا يتركوا هملاً؛ لأنّي أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين). خامسًا: حريّة المعتقد وحريّة التبليغ أصل من أصول الإسلام ومقصد من مقاصدة عند التّأصيل لمفهوم من مفاهيم الإسلام وموضوع من مواضيعه ينبغي عدم تناول هذا الموضوع بصورة جزئيّة أي الاستشهاد بآية من آيات القتال وإغفال الآيات الأخرى، بل جمع كل آيات الموضوع الواحد وتفسيرها وفهمها تفسيرًا متوافقًا لا مختلفًا بحيث لا تتعارض وتتناقض آيات الموضوع الواحد بل تنسجم وتتوافق (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا). [النساء:82]، وليس هذا فحسب بل عند بحث موضوع معيّن يجب إدراك علاقة هذا الموضوع بالمواضيع الأخرى المتعلّقة به بحيث أفهم موضوعي محلّ البحث فهمًا موافقًا للمواضيع الأخرى المتعلقة به، فموضوع القتال مثلاً محكوم بقواعد عامة ومقاصد في القرآن كمقصد الحريّة ومقصد السلام، ولا ينبغي فهم موضوع القتال فهمًا يتعارض مع هذه القواعد الكليّة والمقاصد العامة. فالمتدبّر للقرآن ولما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصّحابة من بعده في تعامله مع أهل الكتاب حيث عاشوا في كنف الدّولة الإسلاميّة أحرارًا في عقائدهم محفوظة دور عبادتهم. إنّ المتأمّل في ذلك سيجد أنّ الإسلام قرّر حريّة المعتقد وحريّة التّبليغ كأصل من أصول الإسلام ومقصد من مقاصده؛ لأنّ الإسلام دين العقلانيّة والعلم، ولذلك فهو لا يخشى الحوار والحجّة، لكنّ علماء الأديان السّماويّة مع الأسف كلّما عجزوا عن حمل حجّة أديانهم رفعوا سيوفهم. لكنّنا عندما نتدبّر القرآن سندرك أن الحريّة بشكل عام وحريّة المعتقد بشكل خاص أصل من أصول الإسلام ومقصد من مقاصده فالحريّة في القرآن هي أصل في الفطرة الإنسانيّة حيث كرم الله الإنسان على بقية المخلوقات بحريّة الإرادة أن يفعل ولا يفعل (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) وحريّة الإرادة الإنسانيّة هي سرّ تكريم الإنسان (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا). [الإسراء:70]، ولما كانت تعاليم الدّين الهادية موافقة لسنن الفطرة لقوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). [الروم: 30]. جاءت الشّريعة مقرّرة للحرّية كأصل وسنّة في الشّريعة كما هي أصل وسنّة في الفطرة الإنسانيّة في قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). [البقرة:256]، فهذه الآية القرآنيّة العظيمة أكّدت بدلالة صريحة حريّة المعتقد والدّين من خلال التّأكيد على عدم الإكراه في الدّين؛ لأنّ الله –سبحانه- قد منح الإنسان عقلاً يميّز به الرّشد من الغيّ، لكنّ بعض العلماء من ذوي المنهجيّة الجزئيّة التي لا تفهم القرآن كمواضيع وسنن وكليّات اعتبروا هذه الآية منسوخة بآية السّيف مع أنّها -كما أوضحت- جاءت في سياق التّأكيد على سنة من سنن الفطرة والشّريعة وأصل ومقصد من أهم مقاصد الإسلام. وهناك علماء بالمقابل يقولون بعدم نسخ آية السيف لآيات القتال على رأسهم شيخ الإسلام ابن تيميّة حيث يقول: (ليس هناك نسخ وإنّما اختلاف في الأحوال). [الفتاوى: (192/3)]. ويتعزز هذا الفهم بمنهجيّة تفسير القرآن بالقرآن بقوله تعالى (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)؛ فهذه الآية أوضحت سنة من سنن الخلق والفطرة، وهي أنّ الإنسان يمكن أن يمارس عليه الإكراه في أي شيء إلاّ في عقيدته ودينه؛ لأنّ العقيدة محلّها القلب فإذا مورس الإكراه على المؤمن بعقيدة معينة فقد أباح له الشّرع أن يظهر غير ما يبطن (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)، ويتعزّز هذا الفهم أيضًا بمنهجيّة تفسير القرآن بالقرآن بقوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ). [الكهف:29]؛ فقد أوضحت هذه الآية حريّة المعتقد كفرًا وإيمانًا بصريح دلالتها؛ فالله -سبحانه وتعالى- من تكريمه للإنسان جعل الحريّة إطارًا ناظمًا للعلاقة بين الخالق والمخلوق قبل أن تكون إطارًا ناظمًا للعلاقات الإنسانيّة، فقرّر حريّة المعتقد إيمانًا وكفرًا على قاعدة حريّة الإرادة الإنسانيّة والعقل البشري الذي ميّز الله به الإنسان عن بقيّة المخلوقات، والعقل البشريّ هو بمثابة السّلطة الممنوحة من الله للإنسان لتمييز الخير من الشرّ، وبقدر ما يُعطى الإنسان من سلطة يتحمل مسؤوليّة فإن سلك طريق الخير كافأه الله بالجنّة، وإن سلك طريق الشرّ كوفئ بالنّار، ولذلك اعتبر علماء الشّريعة أنّ العقل هو مناط التكليف، ولو خلق الله الإنسان مسيّرًا لا مخيّرًا، وحرًّا لما استحقّ المكافأة إن أحسن والعقاب إن أساء. ويتعزّز هذا الفهم أيضًا بقوله تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ). [يونس:99]، فهذه الآية أكّدت حريّة المعتقد بنصّ صريح، وأكّدت عدم الإكراه في الدّين بما يؤكّد عدم نسخ آية عدم الإكراه آنفة الذكر؛ لأن الحريّة أصل في الفطرة وفي الشّريعة ولا يمكن نسخ أصل من أصول الفطرة الإنسانيّة وسنّة من سنن وأصل من أصول الشّريعة إلاّ بإعادة تبديل خلق الله بإلغاء عقولهم وحريّة إرادتهم، والله سبحانه وتعالى يقول: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ).