عرضت قناة الجزيرة للأطفال برنامجا أو فيلما , مترجما إلى العربية , الظاهر انه من إنتاج كندي . يروي الفيلم قصة طفل كندي ساعد بماله الخاص في حفر بئر لأبناء مدرسة بقرية في أوغندا ... عرض الفيلم عدة مرات (انا رايته ثلاث مرات وكلها كانت بالصدفة ...) سأحاول تلخيص المشاهد التي أثارت انتباهي في هذا العرض : أطفال مدرسة بقرية في أوغندا , كلهم سود طبعا عددهم يزيد عن ألف وسبع مائة تلميذ ..اصطف الجميع على قارعتي الطريق, لا ترى أولا ولا آخرا للصفوف (ان كنت لا تعلم السبب الكامن وراء ذلك المشهد , فأنه لن يراودك أدنى شك بأن تلك التحضيرات هي لغير الزعماء أو الرؤساء...) نزل ريان الكندي(عمره تسع سنوات ) ذو البشرة البيضاء ' صاحب العيون الزرقاء , من سيارة فخمة ذات دفع رباعي , نزل و معه والداه , مشى الجميع بين الصفوف , الكل يصفق ويهتف بريان وعائلته (يخطر ببال المشاهد الذي لم يتابع بداية القصة من أولها أن حدثا ما أو انجازا عظيما ورائه تلك العائلة, انجازا عظيما بمستوى المشاكل الجمة التي تعاني منها المنطقة.. كاكتشاف لقاح للملا ريا مثلا , والتي تعصف بأرواح الملايين سنويا. رغم انه حسب المنصفين من العلماء القضاء على هذا الداء سهل جدا حيث انه كان بأمريكا أضنه في الأربعينات زمن لم يكن للعلوم في مجال الأبحاث الطبية شأنا كبيرا وقضي عليه في فترة قصيرة نسبيا ...لكن الذي يقف وراء عدم تحقيق ذلك هو شركات الأدوية العالمية والأمريكية بدرجة أولى تلك الشركات العملاقة والتي تفوق ميزانياتها ميزانيات دول مجتمعة لان الملا ريا تدر عليها بالمليارات سنويا من جيوب هؤلاء المعوزين والفقراء ...) يمشي الطفل أو عفوا لنقل السيد ريان بخيلاء ' مشية تذكرنا بمشية الرؤساء والملوك عندما تفرش لهم الزرابي الحمراء , مشى الطفل ووالداه مسافة طويلة بين الجموع التي لم تكل ولم تمل من التصفيق والذي ركزت عليه عدسات كاميرا مخرج البرنامج ... بعد حين , تقدم طفل اسود مسك بيد ريان شكره عن البئر التي حفرها ( هذا هو انجاز السيد الأبيض ريان ) لتلاميذ المدرسة ليتمتعوا من خلاله بالماء النقي والصالح للشرب (تكلفة حفر بئر وتزويده بالآلات اللازمة اقل من تذكرة الطائرة التي دفعها ريان في هذه الزيارة التفقدية للبئر الذي بناه ...أو هي أكيد اقل من التكاليف التي دفعها سكان القرية لاستقبال ريان , حيث أقيم حفل موسيقي ومأدبة غداء على شرفه قدموا له فيها خروفا : مشاهد وردت في الفيلم.. ) هنا بالذات تحولت الكاميرا لترينا من أين يشرب سكان القرية ...من مستنقع لون الماء فيه وكأنك خلطت الماء بمسحوق الشكلاطة , وكيف يتصارع سكان القرية على المكان لنقل الماء في الأواني التي تستعمل في المطبخ كالصحون أو أواني الطبخ الكبيرة ... ( جاء ريان او قل جاءت كندا جاء الغرب , جاءت الكنيسة... وقدم الماء الصافي لهؤلاء ...ما أكرمهم ... بينما المتتبع للعمل الخيري الإسلامي في إفريقيا ورغم عيوبه الكثيرة , فانه لن يتمكن من إحصاء الآبار التي بنيت هناك.. ولو سألت مثلا عبد الرحمان السميط رئيس جمعية العون المباشر عن عدد ما بناه هو عبر جمعيته من آبار في أنحاء إفريقيا فانه لن يستطيع أن يقدم لك رقما دقيقا لكثرة ما بنا هناك , لكن غباء إعلامنا الذي يركز عن المنافقين ويترجم الغث والسمين بدون دراية عن الأهداف والسموم التي تبثها كذا برامج ...هو المؤسف حقا ...).... يمر المشهد ليرينا مباشرة أي بعد رؤية المياه الغير صالحة للشرب تهافت الأطفال عن البئر بصورة عفوية لشرب الماء النظيف ثم وبعمد تركز الكاميرا على سعادتهم بهذا الانجاز , ثم ترينا الحفارة التي وقع جلبها من كندا والتي حفر بها البئر ...وكيف قام السيد ريان بتشغيلها ...بعدها ذلك مباشرة يطرح السؤال التالي على احد المواطنين : كم يستغرق الحفر لو كان بصورة يدوية ؟ الإجابة :خمس أو ست أيام ..بينما بالحفارة ثلاث أيام ...( وفرت عليهم جهدا كبيرا ما شاء الله..) ... يمضي العرض..وتتحول الكاميرا لترينا السيد ريان يقدم صكا لشراء واحد وسبعين طاولة للمدرسة ...يدخل السيد بعد ذلك فصول الدراسة , ويلاحظ انها مكتظة من حيث عدد التلاميذ فيجتمع بمدير المدرسة , ويقدم له النصائح المتمثلة في إضافة فصول جديدة لتفادي الاكتظاظ وإيجاد المكان الذي يسع لما سيقع شرائه من طاولات تبرع بثمنها السيد ريان ... اقترح السيد ان تكون مواد البناء من القش والطوب ( بنيت بقية الأقسام من نفس المواد , أول ما يتبادر إلى ذهن المشاهد عندما يسمع المذيع أو القارئ لنص الفيلم يخبرنا أن ريان سيقابل المدير ليتناقش معه و ليقترح عليه توسعة المدرسة, يتبادر إلى الذهن أن السيد العملاق ريان سيبني فصولا من نفس الطينة التي بنيت بها أقسام مدرسته بكندا ..لكن سرعان مل يخيب ظنك عندما تسمعه يقترح القش والطوب كمواد للبناء... وكأن مدير المدرسة الذي أظن ان عمره يتجاوز الأربعين معاقا ذهنيا , لا يقدر على التفكير حتى فيما حوله ...ونحن نعرف ان حتى الحيوان فطره الله سبحانه وأودع فيه ملكة تجعله قادرا على استغلال ما حوله وما وفرته له الطبيعة وبصورة تلقائية لتسهيل حياته , تبني الطيور أعشاشها مثلا ولم تستنجد لا بريان ولا بالعم سام ...هذا شأن الحيوان فما بالك بالإنسان الذي زوده الله بعقل يفكر ويستنبط ويرجّح ....هذا أولا , ثم ثانيا لو بقي ريان وعائلته في كندا ووفر ثمن تذاكر السفر التي هي أكيد مكلفة جدا نظرا للمسافة التي تقطعها الطائرة من كندا إلى أوغندا , ثم لو وفرت الأموال التي دفعت من اجل انجاز هذا الفيلم .. لو وفر كل ذلك , لبنيت مدرسة بأكملها ومن طراز رفيع ....لكن الأمر ليس كما نتصور فكل ذلك مسرحية تدخل ضمن حلقة كبرى سأحللها لاحقا ....إن للفيلم معاني تحقيرية للإفريقي بصفة عامة وفيه تحميل له وبالكامل لمسؤولية الفقر والجهل, وهذه فرية ما انزل الله بها من سلطان ... أوغندا بلد به ثروات ومعادن لو استغلها أهلها وتركهم صناع الجوع والفقر والنهابون و المرتزقة والفجر و الإقطاعيون الجدد والمنظمات المرتزقة مثل منظمة التجارة العالمية او صندوق النقد الدولي (هذه كلها تسميات أطلقها جون زيغلر مسئول في الاممالمتحدة عن حق الفقراء والجوعى في الغذاء عن الدول الرأسمالية والشركات المتعددة الجنسيات المتحكم الرئيسي في سياسات تلك الدول ...) لو تركهم هؤلاء في حالهم وخلوا بينهم وبين ثرواتهم لما صفقوا لريان ولما احتاجوا لبئره ونصائحه...للبلد عدة ثروات ومعادن كالنحاس والحجر ولها معامل كبرى لصناعة الاسمنت (القش والطوب لبناء الفصول المدرسية : نصيحة ريان في بلد ينتج الاسمنت ) والكوبالت والحديد والفوسفات والقصدير ...يوجد في الشمال الشرقي للبلاد كميات كبيرة من مناجم الذهب , بلغ إنتاجها في أول اكتشاف لها قرابة ثمانية وخمسين ألف طن ....ثم هي بلد مصدر للقطن والذهب والقهوة والشاي والأسماك وهي كلها منتجات ثمينة ...إذا السؤال الذي يطرح نفسه والذي لا يريده الغرب , هو لماذا رغم الوفرة في كل شيء والغنى الهائل ...تجد أن المجاعات والفقر والأمراض من السمات البارزة للقارة السمراء ...؟؟ لم يعد خافيا عن العيان أن الغرب أصبح يستعمل في خطابه التحليلي للظواهر(تعبير استعمله المرحوم الدكتور عبد الوهاب ألمسيري ) ولما يجري في العالم أساليب خبيثة وماكرة ولا أخلاقية حتى ..., إذ انه يجتث أو ينتزع الأحداث من سياقها الحضاري لتتحول بالنسبة للمراقب أو المشاهد مجرد حادثة أو معلومة , بإمكانه أن يضفي عليها ما يشاء من التحاليل التي تتماشى وأهوائه ومصالحه وأغراضه ...والهدف هو إخفاء آثار الجريمة ومسؤوليته عنها , ثم تلهية الآخر وتحييده عن مسار التفكير والتحليل العلمي الصحيح للظواهر... والذي يتمثل في رد الحادث الجزئي إلى أوضاع شاملة ومرتبطة ببعض ...فنحن نعرف انه منهجيا ولفهم الظواهر ما من خصوصية حالة من الحالات إلا وهي متأثرة لا محالة بالمعادلة العامة...هذه قاعدة أثبتها التاريخ . فعرض هذا الفيلم مثلا لمظاهر الفقر في قرية من قرى أوغندا ,( أوغندا هذا البلد الغني بثرواته , طبعا كل افلام الغرب التي تدخل في نفس سياق او موضوع هذا الفيلم لا تذكر بالمرة مناجم تلك البلدان والتي بها يمكن ان يصبحوا سادة العالم وقوى اقتصادية لا يستهان بها , وذلك لإغماض العيون وإعماء البصيرة عن السؤال الجوهري ...لماذا إذا هم فقراء ؟؟وأين هي ثرواتهم؟؟ ومشاريع اغلب البحوث تبدأ في غالب الأحيان بمجرد طرح سؤال ..أسئلة يمقتها الغرب لان في الإجابة عنها فضح لهيمنته وسرقة ثروات تلك المنطقة من طرفه ....نفس المنهج المتبع وفي إعلامهم بالخصوص عند التعامل مع القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب هناك ...تنتزع القضية من سياقها الحضاري بلد يرزح تحت نير الاحتلال ,فتظهر تلك الحالة وكأنها نتاج عقل بشري شرير, و إرهابي... نال جزاءه لأنه اعتدى على جيرانه , فيغيبون عمدا كلمة احتلال , وانه السبب الرئيسي في المعاناة , عند تناولهم للقضية ...ولذر الرماد في العيون , وكعادة المنافقين, يبنون منشأة أو يتبرعون بقليل من المال الذي يذهب مباشرة الى جيوب الفاسدين الساهرين على طمس البعد الحقيقي للقضية ...) , كل ذلك يجعل المشاهد يرى أن مسؤولية الفقر تقع على عاتق السكان هناك وان الغرب هو المنجي لهؤلاء من أتون الفقر والجهل ...إذا فالعقل التحليلي للظواهر, عند الغرب , يفصل الحالة المزرية التي يعيشها سكان إفريقيا عن عنصر هام جدا يريد جاهدا إخفائه , ألا وهو سلب ونهب وسرقة ثروات تلك البلدان من طرف الغرب . فإفريقيا قارة تتقاسمها قوى الهيمنة الغربية بمختلف مؤسساتها السياسية (خاصة بين فرنسا وأمريكا ) والدينية (تشهد القارة اليوم صراعا محموما على مناطق النفوذ : صراع بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية الإنجيلية ..) فهي تتربع في التفكير الاستراتيجي العالمي (هذا التعبير يستعمله الدكتور حمدي حسن عبد الرحمان محلل وأستاذ علوم سياسية ومختص في الشأن الإفريقي ) لكثرة عوامل الجذب هناك : اقتصاديا وفرة المعادن بمختلف أنواعها ثم النفط, وتكمن أهمية هذا العنصر الأخير في جودته التي لا تحتاج إلى وقت كبير في عملية تكريره , هذا أولا , ثم ثانيا الاكتشافات المتجددة والتي لا يزال اغلبها في باطن الأرض ...(السعي لضمان المستقبل في مجال الوقود , بالنسبة للغرب ) ثم ثقافيا , تفطن الغرب إلى سرعة انتشار الإسلام في هذه المناطق, يجعله يفكر في كل الأساليب لكسر شوكته والحد من انتشاره وذلك عن طريق تكثيف عملية التنصير عبر البطون الجائعة والأجساد المنهكة وصناعة الفقر والكوارث و الحروب الأهلية , ذلك هو السبيل للنصرانية بحسب تعبير العديد من المحللين ... لكل ذلك يسعىصناع الفقر والمجاعات والجهل للمحافظة على الأوضاع كما هي والضحك على الناس بقليل من الفتات (بئر ريان ) ويصاب الكل بعمى البصر والبصيرة , وذلك طبعا بعد تقديم الرشا وتدعيم كراسي النخب الحاكمة لتلك البلدان , لتعبيد الطرقات المؤدية لسلب الثروات بمختلف أنواعها : من نهب الماس السيراليون وزرع بذور الحرب الاهلية هناك لتلهية الشعب عن تلك السرقات المقننة ...ثم اظهار السكان على انهم وحوش مفترسة يأكل فيها القوي الضعيف ...؟؟من نهب ذهب وألماس جنوب إفريقيا ودول وسط إفريقيا ..؟؟.من نهب ذهب الكونغو برازافيل وكونغو كينشاسا , وغيرهما من الدول الإفريقية الأخرى ...من كان وراء القلاقل والنزاعات في كل تلك البلدان الغنية بمناجم الذهب والماس , وبيع السلاح لطرفي النزاع مجازر رواندا وسيراليون والكونغو(مجازر قبائل الهوتو والتوتسي وكيف انه من عجائب عصرنا , أقلية مدعمة بسلاح الغرب أبادت أكثرية ...)...؟؟؟ أليس الغرب الديمقراطي جدا جدا ..ويأتي ويصورها لنا في إعلامه انها من طبائع هؤلاء البشر ..وينتزعها بذلك من سياقها التاريخي ليخفي ملامح الجريمة ..ومن ثمة وبالطريقة التي عرض بها الفيلم حول بئر ريان يتحول الفقر من كونه ظاهرة تسببت فيها ظروف الاستعمار والهيمنة والنهب لهذه البلدان , الى ظاهرة لصيقة بهذه الشعوب وقدر لا مفر منه , بل خلقوا ليكونوا كذلك (طبعا للشعوب الإفريقية مسؤولية في ذلك والأمر لا جدال فيه , لكنه موضوع أو مبحث آخر مستقل بذاته...) وبهذا المنهج يطمسون الحقائق حول جريمتهم ومسؤوليتهم الكبرى عن أوضاع تلك المنطقة ويصبح الإفريقي هو المذنب الوحيد في المشهد و ينجحون في إيصال ما يريدون ترويجه , كما ظهر في الفيلم المذكور : الأفارقة بشر سذج فقراء عجز لا يملكون مقومات الحياة ولا القدرة حتى على التفكير ( طفل عمره عشر سنوات يعقد اجتماعا مع مدير ...)..في مقابل ذلك يظهر المهيمن الغربي , الرجل الأبيض , منقذا لهؤلاء من براثن الجوع والعطش (بئر ريان ) والإنسان المتواضع والموسع بعد الضيق ( ينصح المدير ببناء أقسام أخرى ...) وتظهر لنا صورة الغربي الغير عنصري كما صور الفيلم : لعب ريان الكرة مع أطفال القرية , وركزت الكاميرا على الوحل الذي لصق بحذائه ( في سبيل التواضع ) ...ذهبت الكاميرا الى اكثر من ذلك , عندما أظهرت ريان يضع يده في يد الطفل جانومشى معه وسط الصفوف وركزت الكاميرا عدة مرات على اليد السوداء وقد تشابكت مع البيضاء ...جاد علينا الفيلم بجملة أنهي بها : لقد أصبح جان (الطفل الأسود ) مشهورا ومعروفا في القرية لأنه تحدث مع ريان وكون معه صداقة ...فكرة الاستعلاء والعنصرية والتمركز حول الذات في النسق الفكري لدى الغرب ( يصبح الأسود مشهورا إذا ما أقام علاقة صداقة مع الأبيض ) . مريم حمدي