قد يتبادر إلى الذهن أننا نكرّس الجهويات والحقيقة غير ذلك فنحن نمقُتُ الاعتداد بالعروشية ونكفر بالنعرة القبلية والحرمان والفاقة هما القاسم المشترك بيننا جميعا انطلاقا من ريف زغوان مرورا بمدن وقرى سليانة والقيروان والكاف وسيدي بوزيد والقصرين وقفصة... وصولا الى فيافي الجنوب حتى الفقر لم يوزّع بيننا بعدل، فهناك من هو على عتبته وهناك من هو تحتها. هناك الجائع والعاري والضمآن وهناك المتدبّر لقوت يومه واما طعام غده فموكول الى الظروف التي قد تخذله. نتوغّل في القرى والارياف فنرى أناسا متعبين مهمومين وجوههم كالحة كأنها لم تعرف نضارة الصبى. شباب تكهّل وكهول شاخوا.. الأرض جدباء قاحلة والحيوانات عجفاء تبحث لها عن نبات نادر في الهضاب وبين الاحجار فلا تكاد تدركه. تنتقل متثاقلة لترتاد العين او الحنفية العمومية التي تبعد كيلومترات عن مقرّ صاحبها المتعثر وراءها مع حماره المحمّل بأوَانٍ بلاستيكية يروم ملأها ماء وآخر يتزوّد بالماء من البئر النائية يقصدها صباحا ليعود بعد الظهر منهكا وعائلته تنتظره ظمأى. الأوضاع صعبة وسيئة جدّا ويكفي هؤلاء ما تكبّدوه طيلة عقود من اقصاء وتهميش وحرمان وعذاب وما تجشموه من عناء وأتعاب. آن الأوان للتفكير في خطط تنموية تشدّ الناس إلى أرضهم وتضع حدًّا لظاهرة النزوح وما يترتب عنها من مشاكل تصل حدّ الجرائم في المدن الكبرى. نريدها مشاريع ذات صلة بخصوصيات كل جهة مع العمل على توفير الماء والكهرباء في التجمعات السّكنية. الماء ضرورة حياتية لابدّ ان تتوفر عن طريق حفر الآبار ومد القنوات الجالبة للماء من المناطق النائية إذا تعذّر إيجادها في اماكنها فإذا كانت صفاقس يأتيها الماء من سبيطلة رغم بعد المسافة الفاصلة بينهما فكيف لا يصل منها الماء الى أرياف المعتمديات المجاورة لها في جهة القصرين؟ الجهات تزخر بالكفاءات فأين حظها منه المسؤوليات؟ مسؤوليات تسند وفق ما يتمتع به الشخص من سمعة طيبة وخصال ذهنية واخلاقية تؤهله لأن يضطلع بدوره بتفان واخلاص ونزاهة لا وفق الانتماء والولاء والتزلف. اسماء عديدة داخل الجهات قادرة على تأمين التنمية الريفية لو يتمّ التعويلٍ عليها وتُعطى لها الصلاحيات للفعل لان الوالي وكل وال لا يمكنه بمفرده بحكم مسكه لعديد الملفات العاجلة ان يوفّق في توفير الحلول لعديد المشاكل التي تطرح باعتبارها أولوياتٍ. لابدّ للوالي ان يعمل على بعث مجالس محلية تتكوّن خاصة من رجال التعليم بحكم معرفتهم الجيدة لخصوصيات المنطقة لعرض المشاغل على انظار المجلس الجهوي للبتّ فيها ومعالجتها حينيا وفق الامكانيات المتاحة. والأمر المتأكد الذي يجب النظر فيه بجدية هو ضرورة عودة المطاعم المدرسية إلى مدارس ارياف المعتمديات المحرومة لتأمين الغذاء والكساء لابنائنا للحدّ مما يعانونه داخل اسرهم من فاقة وخصاصة وحرمان فاغلبهم يقضي يومه على الطوى فيملّ ويحبط وينقطع عن الدراسة ويتيه. أطفالنا يقطعون يوميا مسافات طويلة ليصلوا الى المدرسة مع ما يعانونه من حرّ وقرّ ومار يتعرّضون له من مخاطر الحيوانات السائبة والمتوحشة فما ضرّ لو سخرت لهم وسيلة نقل علما ان الادارات والدواوين والشركات تعجّ بأساطيل السيارات التي لا تستعمل دائما في الاغراض التي سخّرت من أجلها وعديد الورشات تربض فيها سيارات قابلة للاستعمال لو تحظى بالصيانة ومعالجة الخلل الحاصل فيها وتسلّم بعدها الى مديري المدارس لتوظيفها في هذا الغرض الانساني. هناك مشاكل وصعوبات وكلّ مشكل مبني على مكوّنات متشابكة تتطلب دراسة لفهمه حتى يعالج بحلّ مناسب وبأدوات تنسجم معه وتطابقه لابدّ من فهم الواقع والتعامل معه بموضوعية فهل يمكن حل مشكل البطالة والحرمان والتنمية بدعوة المشعوذين وبائعي الاوهام امثال وجدي غنيم وعمرو خالد والقرضاوي وبالصلاة والصوم؟ لقد صمنا ما فيه الكفاية والآن نريد ان نفطر. معالجة مشاكل التنمية داخل الجهات ممكنة لو تتوفر الارادة الساسية الصادقة لو نقلص من حجم الانفاق داخل الوزارات والدواوين والادارات، لو نرشّد النفقات لو نستثمر الثروات الطبيعية المتوفرة على الارض بأقل التكاليف، لو نفوّت للفلاحين الصغار في بعض الهكتارات القابلة للفلح فنشغل اليد العاملة ونوفّر الانتاج، لو نستصلح الارض البور ونفجّر فيهاالماء لتصبح صالحة للبذر والغراسة لو نستيعد الضيعات الفلاحية التي فوّت فيها المخلوع لاصهاره ونستغلها فهي توفر الاف مواطن الشغل التي تدر علينا الخيرات (أبقار، خرفان، غراسات، زراعات سقوية...) أرضنا معطاء لكنّنا أفرطنا في اهمالها. لو استمررنا في تنشيط هذه المشاريع وتعميمها الفلاحية على كامل ولايات الجمهورية ولو كانت المحاسبة والمراقبة على قدر الجدية لكنا جنينا فوائد جمّة ولصرنا من أكثر الدول تصديرا للمواد الفلاحية اتبعنا سياسة خاطئة ومفلسة تعتمد على القروض والمساعدات الغربية باهظة الثمن فتكبّلت ارادتنا وفقدنا استقلالنا في التصرّف الحرفي مواردنا الطبيعية والبشرية والحال اننا نصبو الى ان نكون مالكين لامر انفسنا في ما يخص ادارتنا لشأننا العام. لا نريد ان نستنسخ تجارب الغرب في الخوصصة وبيع المؤسسات الوطنية وجعل العامل عبدا لصاحب العمل يبتزّه ويعامله بفظاظة للغرب خصوصياته وعقليته وعدالته الجبائية وله مكره وخبثه عند قبول الشراكة فيصدّر بضائعه دون دفع المعاليم الجمركية ويتنقل داخل البلاد بتسهيلات كبيرة اما مستثمرونا فيثرون على حساب العمال وخزينة الدولة وكل همهم جمع الاموال وايداعها في البنوك. لابدّ ان تعود للفلاحة مكانتها لما لهذا القطاع من بالغ الاهمية في التنمية تحقيقا للاكتفاء الغذائي والتخفيف من المديونية المكبلة لتوجهاتنا واختياراتنا التنموية هذه المديونية المقيتة يمكن تجاوزها بالتخطيط المحكم والعمل المثمر المبني على استراتيجية تنموية فاعلة وناجعة.