مسلسلات شجرة الصبار الأمجد الباجي انقضى شهر رمضان وحمل معه مسلسلاته. لم يبق من نكهة هذا الشهر إلاّ هذا الوهم بالالتقاء حول تلك الأعمال التلفزية التافهة. ما عدا ذلك فمجتمعنا يتجه تدريجيا إلى التفتت والتفكك ولم يبق من حلاوة اللمة إلاّ عناوين يستعملها الإشهار لتذكير الشعب بما صار يفتقده وربما سيفقده إلى الأبد وهو انتماؤه إلى مجتمع إنساني ووحدة ثقافية وشبكة علاقات حميمية. سنوات من العمل في العمق دمرت أسس العقد الاجتماعي. وتم تعويض ذلك بوحدات سكنية وتجمعات عمرانية وطرقات عمومية. مسلسلات رمضان التافهة ناجحة جماهيريا أحبّ من أحب وكره من كره. ورغم كل ما قيل فيها من مخالفات للأخلاق العامة والتقاليد والأعراف والهوية العربية الإسلامية إلاّ أنّها مسلسلات ناجحة وحققت حضورا جماهيريا منقطع النظير في الاودي مات. الخبراء يتحدثون عن مستويات عالية بين التسعين والخمسة وتسعين في المائة للأعمال الدرامية التي قدمتها التلفزة التونسية خلال الشهر الفضيل. رغم مشاهد الدعارة وكثافة المادة العنيفة والإيحاءات الجنسية الواضحة فإنّ العائلات التونسية برم رميمها جلست أمام التلفزة وتسمرت على مدى ثلاثين حلقة لمشاهدة كل ذلك دون أن يرتفع صوت واحد من الدار ليغلق التلفزة. انتهى لقد تغير الشعب التونسي.علينا أن نعيش بهذه الحقيقة. لم يعد أحد يعترض على حضور مشهد رجل يخرج من الحمام في منزل امرأة عزباء. لم تعد عائلة تعترض على حديث مطول حول ممارسة الجنس خارج نظام الزواج. لم يعد أحد يعترض على مشاهدة المخمورين المزطلين المحربشين. لقد صار من السهل إنتاج هذه السلعة الدرامية وبيعها للعائلات التونسية. لم تعد العائلات التونسية محافظة. لقد تمكنت الثورة الجنسية من بلوغ النواة الصلبة للمجتمع التونسي واخترقتها. بإمكان الصهاينة اليهود أن يستعدوا لبناء سفاراتهم. الأجواء صارت مريحة وشاهية الناس مفتوحة وانتهى عهد الحيطان والسدود الأخلاقية التي كانت تحول دون شعوبنا وبرامجهم. بإمكانهم في المسلسل القادم أن يؤلفوا لنا عملا دراميا صهيونا يتغنى بحيطانهم وبحقهم في قتل الأطفال وذبح الناس في الساحات العمومية. سيكون ذلك ممتعا للعائلات التونسية وسيكون ملائما للأجواء الرمضانية الجديدة التي بدأ يفرضها ماركيتينغ التونسي بوجهه الجديد. هذه المسلسلات الرمضانية صارت مؤشرا لشئ ما. إنّها تدل على مكان تتجه إليه بوصلة هذا الشعب. قراءة بسيطة لمحتوى هذه الأعمال وشكلها يقدم لنا حقيقة رهيبة وغير منتظرة. لقد بات الناس يقبلون وبدون حكم مسبق للاستماع إلى أخبار الانهيار الأخلاقي. كلمة هذا هو الواقع بدون حكم ولا تعليق صارت جملة واضحة ولا يختلف فيها اثنان. إنّنا نقتحم مكانا مظلما جربته قبلنا شعوب بائدة انقرضت عندما دمرت عقدها الاجتماعي القائم على مفاهيم أخلاقية مثل الصدق والاحترام والتضامن واحترام الذات البشرية وغير ذلك من القيم الأخلاقية التي تتأسّس عليها الحضارة الإنسانية. في غياب سلطة أخلاقية قادرة على تقديم نموذج لما هي عليه الأخلاق فإنّه يستحيل الحكم على شاب مسكين مهوس بنرجسيته أن يسقط في النذالة. أو على فتاة فقيرة يحتقرها الناس لفقرها أن تبحث لنفسها عن مخرج حتى ولو كان لا أخلاقيا حتى تحقق ذاتها. هكذا تتفكك الشعوب وتنخر الحضارات من الداخل. منذ مدة لم تعد السلطة تكتفي بفرض رقابة القص والمنع. لقد كونت لنفسها منهجا لتوجيه الأعمال الدرامية وجهة معينة. هذه الوجهة تقول على المشرفين على إنتاج هذه الأعمال أن لا يتدخلوا بصورة صارمة في الأحداث. يكفيهم أن ينقلوا الواقع. النص المؤسس للثقافة الحالية هو إنشائية محضر البوليس الذي يرتكز على إنشائية نقل الواقع دون تدخل ودون حواشي ودون تعليق. كل السيناريو هو حيثيات تتتابع وتتشابك ولا يحق لكاتب السيناريو أن يبحث عن علاقات ما. البوليس وحده يتدخل دائما في آخر السيناريو ليقدم حكما على العلاقات وأن يفرض الحسم والحكم. ولا يكاد مسلسل تونسي منذ العشرين سنة الأخيرة يخلو من مشاهد البوليس يحسم كل الصراع في آخره. ولكن هذا التوجه القائم على نقل الواقع لا يستقيم دراميا. لأنّ الواقع شئ باهت ومظلم وروتيني. وإذا كان لا بد من دفع الناس للاهتمام به أكثر كان لا بد من إضافة شئ ضروري وهو عنصر الإثارة. إنّه عنصر أساسي لا بد منه حتى نضفي على أحداث عادية يصعب الاهتمام بها بصورة خاصة رجة تشبه ارتعاشة كهربائية مغناطسية اصطناعية تعطي لتلك المشاهد شيئا من الحياة. مثلا ما هي القيمة الدرامية لمشهد شاب يقود سيارة؟ إذا كان المشهد فارغا خاليا من عنصر درامي آخر فهو لا قيمة له. ولكن ما رأيكم لو جعلناها سيارة من نوع هامر بقيمة خمسمائة مليون مليم؟ هذه المسلسلات التافهة لو قسمت مشهديا فإنّها على مدى ثلاثين ساعة من البث صورت على الأقل مشهد سيارة الهامر ما مقدراه أربعة أو خمسة ساعات. الإثارة تفتح لك كل الأبواب. وكل العقول... سيارة بخمسمائة ألف دينار وهي حلم ثلاثة أرباع الشعب التونسي تعطيك الفرصة أن توزع أيّة خطاب تريده. يمكنك أن تصب النار على كل ما تريد حرقه. يمكنك حتى أن تدنّس المقدّس من داخل سيارة هامر. الناس يجلسون هناك أمام التلفزة وعيونهم لا تغادر سيارة النصف مليار مليم تونسي. منازل فخمة بأحواض سباحة شاسعة. أثاث باهض الثمن. حلي. جواهر. فتيات جميلات غلمان وأنهار من العسل. من خلال كل هذا وداخل هذه الأجنة يمكنك أن تصب على الناس غوطك وكل مزابلك وحتى - وسيأتي ذلك اليوم لا ريب فيه وكل هذا مبرمج لذاك الهدف - أن يجلس الإسرائليون كي يروحوا علينا في شهر رمضان وأن يُمتّعونا بمقطوعات من التلمود وأن يتبولوا علينا. هذه هي الوصفة. لا أكثر ولا أقل. نحن في مجال التعتيم الإعلامي. واستعمال المؤثرات البصرية. هذا عمل شرير تقوده أجهزة دعاية وبروباغندا دربت في أكبر المدارس النازية والفاشية. مجموعة من الصهاينة الفرنسيس عملوا منذ سنوات ويعملون على أن يتم تسريب السم في أواني من الألماس. وهذه هي واقعية الأعمال الدرامية التونسية. إنّها تستند إلى عنصر إثارة. إثارة شئ ما عند الناس. هوس أو حلم أو مصيبة. استعمال مكثف للنزوع أو للمخاوف الدفينة. كهذا النزوع عند التونسيين للاهتمام بالمشوهين خلقيا أو البدينين الذين تزيد أوزانهم على العادة واستعدادهم للسخرية منهم والضحك من مظهرهم. رغم أنّ هؤلاء البؤساء لو استمع لهم الناس جيدا فسيكتشفون كم أنّ وضعهم مأساوي ومحزن. ولكن هذه حالة من يقول دائما أنا أضحك لأنّ هؤلاء حالهم أسوأ بكثير من حالي. من يتابع التلفزة التونسية وأعمالها الدرامية سيكتشف أنّها صارت رواقا ومعرضا لأنواع وأشكال المشوهين خلقيا والبدناء الذين يستعملون إمّا لجلب التعاطف المشبوه أو لتحويلهم إلى مصدر سخرية وإضحاك. عنصر الإثارة هذا تم تحويله إلى مسلسلات لا تتوقف على مدى عقدين من الزمن. تركيب تزييف تلصيق و"كعور وارمي للأعور". خرافات لا يصدقها الأطفال حكايات بائسة لا عمق فيها مركبة تدخل من الباب تخرج من الخوخة.
لقائل أن يقول هذه تجارة فلماذا لا نترك الناس تبيع وتشتري. وأقول لو كان المناخ لتجارة حقيقية فهؤلاء كان الناس سيضربونهم على رؤوسهم ويطردونهم من السوق. لأنّ التجارة الحقيقة تفترض وجود منافسة حقيقية. الناس في رمضان يريدون مشاهدة التلفزة التونسية. يذهبون إليها لانها رمز وحدتهم وإحساسهم بالانتماء. ولكن الفخاخ منصوبة والطعم بات يعسل بالإغراء.
إنّ تسليم هذه التلفزة إلى هذه الشركة التي تكونت في فرنسا وكونتها أيادي مجموعة من اليهود الصهاينة هذا لا علاقة له بالتجارة. إنّه الاحتكار الذي دمر ثقافتنا. وأهان مبدعينا وشردهم ووضعت فيهم قائمة سوداء من الذين قررت الدولة إقصاءهم من التلفزة ومن كل نشاط فني. احتكار فرضه علينا الفرنسيس وعملوا على توظيفه لقضيتهم الأم. قضية إجبارنا على قبول إسرائيل والتطبيع معها. التجارة تفترض وجود منافسين حقيقيين. ولكن وعلى مدى عشرين سنة تم إفراغ الساحة من المبدعين الأحرار ولم يتم الاحتفاظ إلاّ بمجموعات تعمل مباشرة تحت إمرة البوليس ومجموعات أخرى تأويها السفارة الفرنسية وتتكون تحت رقابة صهاينة متطرفين. ثم لما عم الفراغ وكممت الأفواه الحرة وبات الجوع يهدد الجميع ظهرت هذه الشركة الحزينة التي دون علم أصحابها يوحي اسمها بنبتة لا تلد إلاّ في الصحراء وهي من نوع عشب الصبار وسموها كاكتوس للانتاج. إنّهم لا يخافون في الظلم لومة لائم. لا يهمهم حتى إن اكتشفنا أنّ هذه الشركة التي استولت على التلفزة هي اسم لحالة قاموا منذ عقود بإفشاءها. لقد فرضوا الصحراء ثم جاءوا بشجرة بائسة حزينة هي رمز للموت وديكور للفناء وراحوا ينفثون منها سمومهم. منذ سنوات أتابع الأعمال الدرامية الرمضانية التي تنتجها التلفزة التونسية. هذه المسلسلات صنعت بفاتورة وحيدة. فاتورة "التلهويط". أو ما يعادلها بالعربية الإسفاف والتعتيم والتلفيق والتزيين. هذه المسلسلات أهانت كل إهانة العاملين في القطاع الخاص دون أن يتفطن أحد لذلك. كانت كلها ودائما تضع أمام المتفرجين فصيلة من رجال الأعمال الفاسدين السراق المجرمين. منذ عقدين من الزمن تفنّن البوليس الدرامي على تشويه سمعة العمل الحر وتقديمهم بمظهر القلابة والسراق والمنحرفين. وبالمقابل لم تمسس يوما موظفا من موظفي الدولة المرتشين الفاسدين العابثين بأموال الشعب. هذه المسلسلات كأنّما مسلسل واحد صنع بيد بوليس حريص على صون عفة موظفي الدولة الذين تمتلأ البلاد بأشكال منهم وفصائل. أسماءهم صارت رمزا لكلمة تخريب. ثم تطرقت هذه الأعمال دائما لظاهرة الانحراف وللمنحرفين. ولكن مسلسل كاكتوس جمع أقصى عدد منهم وتميز على السابقين عندما حول الجميع إلى منحرفين. وأضاف شيئا جديدا بأن جعلنا نعجب أيّما إعجاب بهؤلاء عندما وفر لهم المناخات الإيجابية للتماهي والتعاطف معهم. فهم أثرياء ناجحين جميلين غاية في الجمال والبرقشة والماكياج اللبناني. ثم كالعادة ترك أمرهم للبوليس كي يحسم تعاسة حياتهم في نهاية المسلسل. من هنا فصاعدا يمكن للتوانسة أن يفخروا بأنّهم بصدد اختراع نوع من الدراما مثلما اخترع الأمريكان أفلام الكوي بوي والأفلام البوليسة، فلقد اخترعنا مسلسلات الصبار. ولكن لا أحد يعلم كم سيدوم صبرنا عليهم؟؟؟؟ هذه المزابل الدرامية باتوا يصنعونها مثل إعادة دورة النفايات. سبقهم إلى ذلك تلفزات العالم في كيفية صنع مسلسلات الحسوة أو الحساء. يكفي أن تضع في المسلسل سيارة فخمة ومنزل فخم مؤثث بديكور متنوع ثلاث أو أربع شخصيات وطوفان من الأحداث التافهة ومن الحوارات الممضوغة. وانطلق!... أعرف كاتب سيناريو برازيلي أخبرني ذات مرة وهو يضحك أنّه كتب أكثر حلقات مسلسل حسوي في بيت الراحة. نجاح هذه الأعمال لا قيمة فنية له. إنّه يعبر عن اهتمام اجتماعي بما يشبه حالة النميمة. الناس تشتغل به تماما كما تشتغل بأخبار بعضها البعض وهتك أسرار بعضهم البعض ونشر أعراضهم إنّها حالة من اللقلقة الاجتماعية. تدجين في أعلى مستوى. لقد كان المسرح التونسي منذ سنوات يتجه إلى تجذير تجربة درامية معقدة وجديدة. وحدنا من دون بقية العالم كنا نحفر في شيء ما. لقد تمكننا من استيعاب زخم التجارب الجمالية في كل العالم. وقبل أن نكتشف أنّ البوليس استولى على الانتاج الثقافي كدست الأجيال المتعاقبة تجارب متعددة ومتنوعة كادت تؤسس لثورة جمالية جديدة. ولكن الفرنسيس يحرسون المشهد. وبوليسهم كان يشدد الرقابة على الساحة. وبدأ الرعب يدب في مفاصلهم. وبدأوا بتدميرنا وإفراغ المنطقة من كل هذا الخطر المحدق بهم. وشاهدتهم يدمرون أقرب المقربين لهم من التونسيين الذين كونوهم. هذا قبل أن يسربوا الأوامر للإجهاز على المختلفين معهم. كان خوفهم أن تتسلل كل تلك المعارف والتجربة الدرامية الى السنما والأعمال التلفزية. لذلك كان حصارهم للتلفزة التونسية وللمشهد التلفزي والسنمائي عموما بالغ التشدد. اليوم يقبع الفرنسيس بكل ما أوتوا من قوة في ديارنا عبر هذه الشركة البائسة الصبارية التي استولت على التلفزة الوطنية. وعبر تلفزتهم الجديدة نسمة. ولا أعتقد أنّ ذلك التاجر الآخر الذي لم يكن أحد يعلم بوجوده وظهر فجأة يمكنه أن يقف في وجوههم. هذه هي الحالة. إلى أين نحن ذاهبون. لا أعتقد أنّ هناك تفاؤل في شيء. الأمجد الباجي