لا شك في أن الجراح العميقة التي أثخنت جسم المجتمع التونسي في العقدين الأخيرين هي في حاجة ماسة لمتخصصين مهرة في علم الطب السياسي مهمتهم إيقاف نزيفها ، وإحسان تضميدها ، ليتمكن هذا المجتمع العظيم من التعافي من جديد ، وينهض بكل شرائحه من أجل تحقيق آفاق كل أبنائه في إطار مجتمع يحترم إرادة أغلبيته ، ويرعى الحقوق الأساسية لأفراده وأقلياته ، ويساوي بين أبنائه أمام القانون ، ويفتح أمامهم الأمل في المستقبل وسبل العيش الكريم ، كل ذلك في إطار مصالحة وطنية حقيقية تغفر الذنوب ، وتُذهب غيض القلوب ، وتُجير من مضلات الفتن . لكن هل يحق لكل مواطن تونسي ذو عقل سليم أن يحلم بتحقيق مصالحة وطنية حقيقية في إطار موازين القوى الراهنة في البلاد ؟ لكي نحصل على إجابة واقعية عن هذا السؤال علينا أن نقف أولا على المعاني الخاصة التي يتضمنها المعنى العام للمصالحة . فمن معانى المصالحة الصلح . الصلح بما هو اقتناع الإطراف المتقاتلة أو المتصارعة أو المتدافعة باستحالة حسم الصراع فيما بينها عن طريق العنف المادي ، وبأنه لا ملاذ لهم جميعا إلا بالرجوع إلى منطق الحكمة والعقل الذي يعني جلوس الجميع على طاولة المفاوضات للحوار من أجل الإلتقاء حول بنود صلح تضمن االتعايش السلمي بين الجميع . لكن لسائل أن يسأل : هل أن موازين قوى الأطراف المؤثرة في الأحداث الوطنية هي متساوية أو متقاربة فيما بينها بحيث تفرض على الجميع ضرورة الجلوس على طاولة التفاوض والحوار ؟. إن الحال الظاهر في بلدنا يقول بترجيح كفة قوة السلطة الحاكمة على كفة بقية الأطراف المعارضة لها ، وهذه المعادلة الظاهرة تجعلنا نطرح السؤال المتعلق بتحقيق الصلح في بلادنا على النحو التالي : هل أن السلطة الحاكمة في تونس مستعدة على ضوء موازين القوى الحالية أن تتصالح مع نفسها ومع معارضيها في إطار ميثاق وطني يفرض عليها نهائيا التخلي عن قانون الغاب وهمجية القرون الوسطى ويدفعها للدخول إلى العصر فيما يتعلق بآداب ووسائل تعاملها مع من يخالفها في خياراتها السياسية والإقتصادية والثقافية للبلاد ؟ وبما أن واقع السلطة الحالي المتمثل في سيطرة العائلات الحاكمة على شرايين الحياة الإقتصادية ، وسعي اليسار الإستئصالي لإكمال سيطرته على مفاتيح وأبواب الحياة السياسية والثقافية في البلاد ، فذلك ينبئ باستحالة تصالح السلطة مع نفسها ومع معارضيها على الأقل في السنوات القريبة القادمة . وهذه الحقيقة المرة تقودنا إلى طرح السؤال الموالي : كيف يمكن للقوى الوطنية المعارضة أن تتصالح مع نفسها لتشكل قوة مضادة للسلطة القائمة تقنعها بضرورة الإقلاع عن خيار حسم الخلافات السياسية والثقافية عن طريق العنف المادي ودفعها للقبول بخيار صلح وطني يتأسس على منطق الحوار وتقاسم الحقوق ، لأن المتغلب لا يقبل بوجود من يعارضه إلا إذا كان هذا الأخير يفوقه أو يعادله أو يقترب منه في ميزان القوة ؟ وفي تقديري فإن أولى خطوات مصالحة المعارضة مع نفسها تتمثل في ضرورة تخليها عن عقلية الدوران في مجال المصلحة الشخصية ، أو الحزبية ، أو الإيديولوجية الضيقة ، والسعي إلى توسيع مجال وجودها في إطار تكتل معارض يتأسس لا على سياسة الإنبطاح واستجداء الحقوق على أعتاب أبواب مكاتب الإستخبارات في الداخل ، وفي صالونات القنصليات والسفارات التونسية في الخارج ، وتخطيء المعارضة وتنزيه السلطة ، بل على سياسة إفتكاك الحقوق الأساسية التي ضمنتها مواثيق حقوق الإنسان الدولية ودمج مصالح هذه الأحزاب المعارضة فيما بينها مع مصلحة الشعب التونسي ككل لا يتجزأ ضمن ثقافة أو سياسة "المثقف أو المعارض العضوي" الذي لا يفصل همومه الشخصية أو الحزبية عن هموم شعبه . معارضة تعبئ الجمعيات المدنية والحقوقية في الداخل والخارج ، وتسعى إلى توعية وتحريك القوى الشعبية وتحريرها من الخوف لدفعها لافتكاك حقوقها السياسية والمدنية المشروعة . إنه لو تمكن شعبنا من أن يتحرر من الخوف أسبوعا لأزاح عن نفسه الإستبداد قرنا من الزمان . فالأزمة الراهنة لبلدنا الحبيب تونس ليست فقط أزمة سلطة ظالمة بل هي كذلك أزمة معارضة مشتتة غير مدركة لوسائل وسسن تغيير أحوال المجتمعات وسبل اكتساب وافتكاك الحقوق . ومن معاني المصالحة أيضا الإصلاح . الإصلاح بما يعنيه من ضرورة قبول السلطة القائمة بدفع تعويضات مادية ومعنوية لترميم ما أفسدته في حق خيرة أبناء تونس الذين أحبوا الوطن أكثر من حبهم لأنفسهم ، وأحبوا الحرية أكثر من حبهم لدراستهم ووظائفهم ، وأحبوا العدل والمساواة أكثر من حبهم لأزواجهم وأبنائهم وبطونهم . ويبدأ هذا التعويض بسن عفو تشريعي عام يعيد لكل من بقي من المتضررين حيا حقوقه المدنية كاملة غير منقوصة ، وتعويضهم ماديا على ما لحق بهم من تعذيب نفسي وجسدي وتهجير عن الأهل والوطن على مدى السنوات العجاف الأخيرة مع الإعتذار الرسمي لهم وإعادتهم إلى وطنهم ووظائفهم وأعمالهم السابقة معززين مكرمين . أما فيما يتعلق بتعويض الضرر الذي لحق بالأموات ، فليس أقل من تعويض مادي يضمن العيش الكريم لأبناء هؤلاء الشهداء وأهليهم وتخليد أسمائهم على شوارع ، ومدارس ، ومعاهد ، وكليات ، ودور الشباب والثقافة في البلاد التونسية . لكن لعاقل أن يسأل : هل تقبل سلطة تنفذ فيها اليسار الإستئصالي الحاقد وكان ومازال خيارها الإستراتيجي الذي بنت عليه هذه السلطة سبب بقائها ومبرر استمرارها هو استهداف الصحوة الإسلامية ، وتدمير أركانها ، وإذلال أبنائها بدفع تعويض مادي ومعنوي للمتضررين من وقع عصاها الغليظة وأغلبهم من أبناء الصحوة الإسلامية ؟ هذا في تقديري لن يحدث إلا إذا " نهق البهيم في البحر "، أو مر جمل من ثقب إبرة ، أو حصلت ثورة شعبية . ومن معاني المصالحة أيضا الصلاح . الصلاح بما يعنيه وعيا وسلوكا ضرورة التخلي عن كل ما سبب طلاح المجتمع التونسي في العقود الماضية كسياسات التغريب الثقافي والتبعية الإقتصادية والسياسية للحضارة الغالبة ، والإستعاضة عن ذلك بمعالم طريق جديدة تتأسس على مصالحة الشعب التونسي مع هويته العربية والإسلامية ، واستثمار ثرواته الطبيعية والبشرية لبناء إقتصاد وطني مزدهر ومستقل عن دوائر ومؤسسات الإستغلال الدولي . كما أن من معالم الصلاح أيضا توجيه الإعلام ودُور الثقافة ومؤسسات التنشئة الإجتماعية لتربية الناس على كره الرشوة ، والنفاق ، والتواكل ، والجهل ، والأنانية ، والحسد ، والتملق ، والكذب ، والخيانة ، ومضيعة الوقت ، والجبن ، والعنف ، وترغيبهم في التعويل على الذات ، والصدق في القول والعمل ، واحترام العلم والمعرفة والوقت ، والإيثار ، والتضحية ، والشجاعة ، والحوار ، وأن حق العمل والتوظيف في المجال العمومي والخاص أساسه القدرة والكفاءة لا العلاقة الشخصية أو الإنتماء العائلي أو الطبقي أو الجهوي أو الحزبي ، وأن الوطن للجميع ، وأن الأكفأ والأصلح هو الأولى من غيره في تسيير دواليب المجتمع والدولة . فالمجتمعات تصلح بصلاح رؤوسها ، وتمرض أو تموت بفسادها وطلاحها . فصلاح الخيار التربوي العام لمجتمع من المجتمعات هو عماد نهضته ، وحبل تماسكه ، ودواء سلامته . وطلاح هذا الخيار التربوي هو مبدأ تخلفه ، وعلة تفرقه ، وسم هلاكه . والمصالحة مصالحات ، منها المزورة وهي تلك التي يكتب بنودها منتصر ظالم ليفرضها على ضعيف مهزوم . ومنها المعقولة التي تكتب بنودها أحزاب وجمعيات مدنية لجعلها أساسا للتعايش السلمي فيما بينها ، ومنطلقا للنهضة والبناء، وأرضية للإبداع الحضاري . ومنها المأمولة للشعوب المقهورة التي يكتب بنودها شعب ثائر قرر أن يغير ما بنفسه بقلم الخروج إلى الشارع وإعلان ميثاق الصلح بين كل أبنائه ، وإصلاح حال من تضرر منهم ، وانتخاب صفوتهم وأكفئكم لتسيير شؤونه ورسم آفاق مستقبله . ومن عجائب الأمور أن المصالحة الوطنية جعلتها المجتمعات الديمقراطية المتقدمة حقيقة واقعية ينطلق منها الجميع كمبدإ وأساس للبناء الحضاري ، وجعلها الإستبداد الغاشم في بلداننا المتخلفة غاية غالية المنال لا تُدرك إلا بالإستشهاد والثورة ، وحال الشعب القيرغيزي منا غير بعيد . منير السايبي سويسرا