تونس تشارك في معرض ليبيا للإنشاء    غرفة القصابين: معدّل علّوش العيد مليون ونص    نيويورك: الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا وتعتقل عشرات المؤيدين لغزة    تونس: الإحتفاظ بعنصر تكفيري مفتّش عنه    علم تونس لن يرفع في الأولمبياد    جبل الجلود تلميذ يعتدي على أستاذته بواسطة كرسي.    مهرجان سيكا جاز: تغيير في برنامج يوم الافتتاح    الفيلم السّوداني المتوّج عالميا 'وداعًا جوليا' في القاعات التّونسية    سامي الطاهري يُجدد المطالبة بضرورة تجريم التطبيع    دعما لمجهودات تلاميذ البكالوريا.. وزارة التربية تدعو إلى تشكيل لجان بيداغوجية جهوية    الطبوبي في غرة ماي 2024 : عيد العمّال هذه السنة جاء مضرّجا بدماء آلاف الفلسطينين    عاجل: وفاة معتمد القصرين    انطلاق فعاليات الاحتفال بعيد الشغل وتدشين دار الاتحاد في حلتها الجديدة    بنزرت: وفاة امرأة في حادث اصطدام بين 3 سيارات    اليوم: طقس بحرارة ربيعية    تونس: 8 قتلى و472 مصاب في حوادث مختلفة    البطولة العربية السادسة لكرة اليد للاواسط : المغرب يتوج باللقب    الهيئة العامة للشغل: جرد شركات المناولة متواصل    اليوم: تونس تحيي عيد الشغل    جولة استكشافية لتلاميذ الاقسام النهائية للمدارس الابتدائية لجبال العترة بتلابت    نتائج صادمة.. امنعوا أطفالكم عن الهواتف قبل 13 عاماً    اليوم.. تونس تحتفل بعيد الشغل    اتفاق لتصدير 150 ألف طن من الاسمدة الى بنغلاديش سنة 2024    الليلة في أبطال أوروبا... هل يُسقط مبابي «الجدار الأصفر»؟    الكرة الطائرة : احتفالية بين المولودية وال»سي. آس. آس»    «سيكام» تستثمر 17,150 مليون دينار لحماية البيئة    أخبار المال والأعمال    وزارة الفلاحة تضبط قيمة الكيلوغرام من التن الأحمر    لبنان: 8 ضحايا في انفجار مطعم بالعاصمة بيروت وقرار عاجل من السلطات    موظفون طردتهم "غوغل": الفصل كان بسبب الاحتجاج على عقد مع حكومة الكيان الصهيوني غير قانوني    غدا الأربعاء انطلاقة مهرجان سيكا الجاز    قرعة كأس تونس للموسم الرياضي 2023-2024    اسقاط قائمتي التلمساني وتقية    تأخير النظر في قضية ما يعرف بملف رجل الأعمال فتحي دمّق ورفض الإفراج عنه    تعزيز أسطول النقل السياحي وإجراءات جديدة أبرز محاور جلسة عمل وزارية    غدا.. الدخول مجاني الى المتاحف والمواقع الاثرية    هذه تأثيرات السجائر الإلكترونية على صحة المراهقين    قفصة: تواصل فعاليات الاحتفال بشهر التراث بالسند    وزيرة النقل في زيارة لميناء حلق الوادي وتسدي هذه التعليمات..    تحذير من برمجية ''خبيثة'' في الحسابات البنكية ...مالقصة ؟    ناجي جلّول: "أنوي الترشّح للانتخابات الرئاسية.. وهذه أولى قراراتي في حال الفوز"    الاستثمارات المصرح بها : زيادة ب 14,9 بالمائة    عاجل/ "أسترازينيكا" تعترف..وفيات وأمراض خطيرة بعد لقاح كورونا..وتعويضات قد تصل للملايين..!    مختص في الأمراض الجلدية: تونس تقدّمت جدّا في علاج مرض ''أطفال القمر''    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    إحداث مخبر المترولوجيا لوزارة الدفاع الوطني    أمير لوصيف يُدير كلاسيكو الترجي والنادي الصفاقسي    إصطدام 3 سيارات على مستوى قنطرة المعاريف من معتمدية جندوبة    خبراء من منظمة الصحة العالمية يزورونا تونس...التفاصيل    ربع نهائي بطولة مدريد : من هي منافسة وزيرة السعادة ...متى و أين؟    التوقعات الجوية اليوم الثلاثاء..أمطار منتظرة..    فرنسا تعزز الإجراءات الأمنية أمام أماكن العبادة المسيحية    الخليدية .. أيام ثقافية بالمدارس الريفية    زيادة في أسعار هذه الادوية تصل إلى 2000 ملّيم..    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإصلاح و المصالحة والصلح
نشر في الوسط التونسية يوم 16 - 07 - 2007

السياسة في أحطّ مستوياتها هي ركوب كل الأهداف النبيلة للوصول للسلطة واستعمال كل الوسائل القذرة للتواصل فيها. لكنها في أرفعها وضع الوسائل النبيلة في خدمة الأهداف النبيلة لحل مشاكل المجتمع وذلك بأقل قدر ممكن من العنف.
وقد حفظت اللغة العامية في تونس هذا المعنى العميق للكلمة حيث تعني بالمصطلح الكياسة واللطف كما يعني فيها فعل ''سايس'' ترفّّق أو تأنّى.
ومن ثمة فإن الحرب ليست، حسب التعريف الشهير الذي حفظته الأجيال عن Clausewitz مواصلة السياسة بطرق أخرى. إنّها فشلها المؤقت. فالقاعدة التي عرفها التاريخ أنه محكوم على المجتمعات أن تدخل الحرب عندما تفشل السياسة وأن تعود إليها عندما تفشل الحرب. وإن كان هناك دليل على أن السياسة هي الحالة الطبيعية والحرب هي الاستثناء، ففي كون هذه الأخيرة طفرة مثل نوبة الصرع والحمى، تنفجر ولا تدوم مهما طالت مشكّلة مجرّد حادث ظرفي في زمن جلّه خال من الحرب.
\حتى تقوم السياسة بمهمتها لا أداة لها خارج التفاوض المتواصل بين مكوّنات مجتمع لها رؤى ومصالح مختلفة وأحيانا على طرفي النقيض. أما أهمّ ركن في هذا التفاوض فهو الإصلاح بما هو تدارك التناقضات قبل أن تصل خطَ اللا رجعة.
يعرف كل من خبر أحوال وأوحال السياسة أن القاعدة الطبيعية هي كثرة الصراعات الشخصية والحزبية التي يمكن أن تنتقل من معارك سلمية لمعارك قاتلة، ومن ثمة ضرورة الركون للمصالحة الدورية بين الفاعلين السياسيين لنزع فتيل العنف بينهم ومنعهم من تصديره لبقية المجتمع. وأحيانا يأتي الإصلاح متأخرا وتفشل المصالحة فيقع المحظور. يتحول التفاوض آنذاك إلى البحث في شروط الصلح لأن الكل يدرك أنه لا وجود لحرب أزلية ولا بدّ لوقف نزيف الدم والثروة من العودة للسياسة عاجلا أو آجلا.
لكل هذه الأسباب لا يمكن لأي سياسي جدير بالاضطلاع بأنبل وأصعب مهمة في المجتمع أن يرفض الإصلاح والصلح والمصالحة و إلا كان مثل الطبيب الذي ينوي الشرّ بمرضاه.
وحيث أن هذه المصطلحات الثلاثة هي اليوم على كل الألسن، فلا بدّ من التعامل معها بكل الجدية المطلوبة. فمن جهة يجب اعتبارها تعبيرا عن مرحلة من مراحل التطور السياسي لوطننا العربي اشتدت فيها الحاجة إلى كل ما هو مشتق من صلح. ومن جهة أخرى لا مجال لنسيان أننا لدغنا ألف مرّة من نفس الجحر، أن جل معاناتنا اليوم هي نتيجة التلاعب بشعارات تعلقنا بها مثل الاشتراكية والتقدّم والوطنية والقومية.. تبين أنها قلاع فارغة لا تحتوي إلا على جبال من القمامة.
السؤال كيف يجب أن نفهم مطالب الساعة وندافع عن مضامينها في إطار تمسكنا بخيار يسخر منه أصحاب خيار اللجوء للعنف وذلك دفعا لويلات حرب أهلية كلفت الجزائر الغالي وتكلف العراق النفيس مهددة بالانفجار كل مكان يغيب فيه الإصلاح والمصالحة والصلح ؟
*
لنبدأ بالإصلاح بما هو اليوم الشعار المرفوع بأكثر قوة وإلحاح.
لا جدال في كون المطلوب ليس تغيير شخص أو حكومة أو حتى سياسة وإنما إصلاح النظام السياسي العربي برمّته حيث لم يعد يختلف اثنان في فساده ولاشرعيته وفشله. والقاعدة أن على حجم الإصلاح أن يكون بحجم العطب والخراب الذي يعاني منه وضعنا السياسي أي ما نحن عليه من تخلف وفرقة وخروج عن نسق التاريخ. السؤال أين يقع الخلل وما هي طبيعة التدخلات المنتظرة لكي يستأهل تدخلنا وصفه بالإصلاح ؟
إن النظام السياسي منظومة متكاملة من الأفكار والقيم والمؤسسات والممارسات التي تتدخّل بصفة مباشرة أو غير مباشرة في تسيير الشأن العام. ولو تأملنا في منظومة النظام السياسي العربي لاكتشفنا أنه مهيكل مثل ثمرة الخوخ. ثمة القشرة السطحية حيث تسود قيم مزيّفة تدّعي السهر عليها السلطة المفتعلة أي قضاء مدجّن يفتعل الاستقلالية وصحافة رسمية تفتعل النزاهة والموضوعية وبرلمان منصّب يفتعل تمثيل الشعب وحزب حكومي يفتعل تحديد الخيارات السياسية الكبرى للحكومة ووزارات متواضعة الفعالية تفتعل السهر على مصالح الشعب الخ ... وكل هذه المؤسسات بطبيعة الحال مجرّد غطاء على السلطة الفاعلة وأداة تنفيذ طيعة بيدها.
هذه السلطة الفاعلة –أي لب الخوخة في مثالنا –هي أجهزة المخابرات التي تسيرها "قيم" التوحش وتميّزها ممارسات تجعلها خارج وفوق كل قانون حيث أعطيت كل الصلاحيات لمراقبة السلطات المفتعلة وإرهاب المجتمع لإخضاع الجميع للحكم المطلق. لا غرابة أن يكون الوزير الأول الحقيقي في كل أوطاننا هو وزير الداخلية في حين أن من تطلق عليه هذه الصفة هو في الواقع الوزير الأخير حيث لا يملك أدنى صلاحية محدّدة في أي ميدان.
أما السلطة الفعلية التي تأتمر بأمرها السلطة الفاعلة والسلطة المفتعلة، أي نواة الثمرة، فهي إرادة شخص عادي -وأحيانا أقلّ من عادي- يعاني من هوس العظمة والتأله، يعتبر الحكم غنيمة حرب حقّت له ولذريّته أبد الدهر، والوطن ضيعة له والمواطنين رعايا وهو الحق وهو القيم وهو القانون.
إنه من السهل فهم ديناميكية الأزمة الهيكلية لمثل هذا النظام المريض الممرض. فالحكم المؤبد لا يكون إلا بتزييف كل مفاهيم وآليات الحكم المعاصر لإضفاء غطاء هش من الشرعية تجعل من الانتخابات مثلا الشكل الجديد للبيعة القديمة. هو يتطلّب الاتكال على الفساد لكسب الأنصار وتوسيع رقعتهم. هو لا يتواصل إلا باللجوء للعنف الأعمى لإرهاب كل من لا يقبلون بهذا الوضع الشاذّ. ومن ثمة استشراء الفساد في كل أجزاء الدولة وتعطّل دواليبها وضعف أدائها، ومن ثمة إطلاق يدي المخابرات في أرواح وأعراض الناس، ومن ثمة القضاء المدجن ....الخ .
إن تغيير هذه الظواهر – التي ولدت الظواهري وأمثاله- بمعزل عن السبب الذي أنتجها بمثابة سكب الماء البارد على مصاب بالحمى بدل التعرض للسلّ الذي ينخر في رئتيه. فإصلاح خلل بهذه الخطورة يمرّ إجباريا بالتوجّه إلى سبب العلة أي الانتقال من حكم الفرد والحاشية إلى حكم القانون والشعب أي انتقال الملكيات إلى ملكيات دستورية والجملكيات إلى جمهوريات تكرّس سيادة الشعب بانتخابات حرة ونزيهة وحدها مصدر الشرعية. آنذاك يمكن للإصلاح أن يطال السلطة الفاعلة، أن يضع أجهزة الاستعلامات، الضرورية لكل بلد، تحت إشراف البرلمان وأن يخرجها من دائرة اللا قانون التي تعيش فيه. وبهذا يمكن لهذه الأجهزة أن تعود لوظيفتها الطبيعية أي حماية الشعب من عصابات النهب بالجملة لا حماية هذه العصابات من الشعب.
وبإصلاح النواة واللب تصلح آليا مؤسسات القشرة فيصبح الإعلام والبرلمان والقضاء وباقي مؤسسات الدولة والمجتمع السلطة الفعلية لا السلطة المفتعلة ....نواة النظام الجديد لا غلافه.
أما الإصلاح "القشري" الذي يتحاشى المسّ بحق الرئاسة مدى الحياة وحق التوريث والسلطة غير المحدودة لأجهزة المخابرات فهو بمثابة صبغ سيارة والحال أن محرّكها يحترق. تنبع ضرورة الوقوف بحزم أمام هذا النوع من "الإصلاح" لا من "التشدّد" و"التسرع " و"اللاواقعية " الخ وإنما من أبسط قواعد المنطق التي تأمر بأن يوصف الدواء الصحيح بأسرع وقت ممكن وليس المسكنات في مرض ينذر إن طال بقتل المريض.
*
السؤال الآن كيف يمكن فرض مثل هذا الإصلاح "النواتي" في ظرف موازين قوى، أصبحت لحسن الحظّ تميل يوما بعد يوم لصالح قوى التغيير الحقيقي.
إنها تمرّ بالمصالحة لكن مع من ؟ فالمصالحة مثل الزواج لا تكون إلا برضى طرفين. أي متسلّط عربي جاهر برغبته في محاورة خصومه السياسيين حتى أكثرهم "اعتدالا"؟ لا أحد حسب علمي وذلك لانعدام التقاليد والإرادة والحنكة والذهنية والقدرة النفسية على التعامل الحضاري مع المعارضين. السؤال الثاني- لو افترضنا وجود النية عند الطرف الثاني - المصالحة حول ماذا ؟ فإذا كانت العملية مقايضة بقاء النظام القديم كما هو مقابل بعض التنازلات الشكلية للمعارضة، أو حتى تنفيس بعض الاحتقان بإطلاق سراح بعض المساجين السياسيين، فإن الأمر ليس إلاّ خيانة موصوفة للمصلحة العامة حيث سيبادل النزر القليل من الفعل والقدير الكبير من الوعود بتواصل الداء الذي ينخر في جسم الشعب والأمّة وإرجاء تفجّر الأزمة ودخول الحرب لحلّها.
إن على المصالحة أن تتمّ في إطار، وفي خدمة، الهدف الستراتيجي أي الإصلاح الفعلي والفعّال للنظام، لا بمعزل عنه أو في تناقض معه. في هذه الحالة كيف تكون ؟ إنه من المحزن أن نرى أنظمة اختفت في جلّ بقاع الأرض، ومطلوبة الرأس داخليا وخارجيا، تتواصل عندنا رغم افتقادها لأبسط عناصر الشرعية والقوة، أساسا لغياب بديل واضح يمكن أن يتجمّع حوله الشعب لفرض التغيير الحتمي. فلم يعرف عن أي مجتمع أنه تحرّك للإطاحة بنظام مهما كان فساده دون وضوح البديل المتشكّل من قيادة ومشروع وآليات عمل. إن هذه الشروط لن تتوفر طالما لم تخطو ثلاثة أنواع من المصالحة خطوات هامة إلى الأمام. الأولى هي المصالحة داخل الطبقة السياسية المجزّأة إلى أحزاب ومنظمات وشخصيات متنافسة. إن التنافس منطقي وخلاّق في المنظومة الديمقراطية لكنه سخيف ومدمّر في ظل دكتاتورية عدوّة الجميع ويفرض المنطق البسيط تجميع كل القوى ضدّها لا لشيء إلا لتوفير الظروف الدنيا التي ستعطي يوما للتنافس معناه وحظوظه. وقد لقّنتنا إفريقيا في نهاية الثمانيات درسا بليغا في كيفية تجاوز تنافس سابق لأوانه لبناء تحالف تفرضه المصلحة المشتركة وذلك عبر الالتقاء داخل المؤتمرات الوطنية الديمقراطية الجامعة لكل المعارضين المصممين على قبر الدكتاتورية. إن الوضع اليوم خاصة في مصر أو سوريا أو تونس ناضج لانعقاد مثل هذه المؤتمرات كبرلمانات مؤقتة لشعوب بلا برلمانات.
أما مهمة هذه المؤسسات فليست صياغة برنامج حكم، لأن الأمر مستحيل، وإنما صياغة مسودة دستور النظام المقبل أي إبرام عقد تاريخي حول الضمانات المتبادلة لعدم تجدد الكارثة. وفي مرحلة ثانية يمكن للمؤتمرات الوطنية الديمقراطية تعيين قيادة جماعية مؤقتة مهمتها التخطيط للانتفاضات الشعبية السلمية وقيادة المرحلة الانتقالية إلى يوم هيكلة النظام السياسي الجديد عبر تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية فعلية. إلاّ أنّ عملية مثل هذه تستوجب ضرورة مصالحة تاريخية بين المشروعين المتنافسين لوراثة النظام القديم أي بين الإسلام السياسي والديمقراطية. أما صيغتها فوفاق بين الديمقراطيين المعتدلين والإسلاميين المعتدلين يكون مبنيّا على مبدأين أساسيين: أنه لا مستقبل لأي نظام سياسي عربي يتنكر للهوية والاستقلال- مما يعني أنه لا مجال لقبول أي تدخّل أجنبي في عملية الإصلاح - كما لا أمل في أي نظام سياسي لا يرتكز على حقوق الإنسان بما فيها الديمقراطية، لأن الاستبداد كان وسيبقى - بغض النظر عن العقيدة التي يتغطى بها ولو كانت الإسلام - هو وحده المسئول الأكبر عن فشلنا التاريخي أفرادا وشعوبا وأمّة . يعني هذا القطع من جهة مع لائيكية متشددة غريبة عن المكان ومن جهة أخرى القطع مع سلفية متشدّدة غريبة عن الزمان.
أخيرا لا آخرا، لا بدّ من مصالحة بين المجتمع المدني والمجتمع ككلّ. فالأول غالبا ما يكون مشغولا إما بالعقيدة إذا كان إسلامي التوجّه أو بالحريات إذا كانت الديمقراطية هاجسه. لكن الناس مثقّلون بهموم الحياة العادية ولا بدّ للمؤتمرات الوطنية الديمقراطية إذا أرادت تجنيد الناس في الانتفاضات الشعبية السلمية من جعل الحقوق الاقتصادية والعدالة الاجتماعية نقطة الثقل في مشروعها لبديل مندمج متكامل يجمع بين الهوية العربية الإسلامية والحريات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
*
نأتي لآخر نقطة أي الصلح والدرس مجدّدا من إفريقيا وعلى وجه التحديد من إفريقيا الجنوبية. لقد استطاع هذا البلد الانتقال من عهد الميز العنصري إلى عهد الديمقراطية دون المرور بمرحلة حمام الدم لأن كل الأطراف مارست السياسة في أعلى مستوياتها وتوصلوا عبر التفاوض المستمرّ لصيغة وفاقية هي الانتقال السلمي مقابل طي صفحة الماضي، أي مقابل تعليق المحاسبة والتتبع للمسئولين والجلادين، إلا في المستوى الرمزي الذي جسمته جلسات لجنة المصالحة والحقيقية-
ونحن العرب اليوم أمام نفس مفترق الطرق الذي عرفته جنوب أفريقيا في بداية التسعينات. فمن جهة هناك إرادة تغيير حبلى بالعنف الناجم عن طول القهر والإذلال. ومن جهة أخرى هناك أنظمة ميز سياسي واحتلال داخلي، محاصرة ومرعوبة ومستعدّة لكل الموبقات للبقاء في الحكم بما هو ضمانها الوحيد للإفلات من محاسبة عسيرة كالتي يستعدّ لها صدام حسين.
إنه وضع لا نحسد عليه حكاما ومعارضين حيث السلطة مطوقة من الجهات الأربع بالمجتمع الناقم والمجتمع الناقم مطوّق من الجهات الأربع بالنظام الخائف ولا وجود لمنفذ لا لنا ولا لهم. إن أي حلّ سياسي مبنيّ بالضرورة على تنازلات متبادلة ونموذجه كما قلت خيار مانديلا العظيم : الصلح مع العدوّ الشرس البغيض على قاعدة العفو وعدم المحاسبة مقابل الانتقال السلمي للنظام الجديد.
صحيح أن هذا الحلّ منافي للعدالة بما هي انتقام، لكنه ليس منافي للعدالة بما هي تعويض مادي ومعنوي لكل الضحايا. ويبقى على كل حال أن توفير حياة كم من آلاف من البشر أثمن من كل عدالة الأرض. إلا أن المشكلة هي في قابلية مثل هذا الصلح للتحقّق في عالمنا العربي المعقّد. كم من فوارق داخل الملكيات وبينها وبين جملكيات هي المرشحة الأولى للانهيار. ثم نحن بحاجة لشخص مثل مانديلا وفي كل قطر يضمن جدية المقايضة. كذلك لا زالت جلّ الأنظمة تتصرّف وفق مقولة Hanna Arendt الشهيرة " كل شيء على ما يرام في الدكتاتورية حتى الربع ساعة الأخيرة".
هل معنى هذا أن علينا الاستعداد لسنوات رهيبة من تفاقم الأزمة السياسية والانتفاضات والقمع إلى أن يقتل الطغاة في قصورهم أو يساقون إلى المشانق بعد محاكمات صورية كما سيقع غالب الظن مع بطل أم الهزائم ؟ إن هذا هو خيار الحرب ورهانها لكن خيار السياسة منع مثل هذا السيناريو، لا لشيء إلا لأنه سيعيد عقرب الساعة إلى الصفر الذي انطلقنا منه ونعود إليه كل مرّة. إن الأمر المستعجل اليوم هو بلورة إستراتيجية سياسية واضحة تنافس إغراء إستراتجية الحرب ويمكن أن تشكّل أفقا مقبولا لشعوبنا. هذه الإستراتيجية السياسية هي بالضرورة رفض المساومة في مبدأ رحيل الاستبداد ورفض المساومة في أي إمكانية لتجدده، مع فتح منفذ أمام المحاصرين إذا لم يلجئوا لتقتيل الناس من فرط خوفهم على حياتهم. أما الضامن لهذه الستراتيجيا فبالضرورة المؤتمرات الوطنية الديمقراطية، وهذه واحدة من أهمّ مهامها، لأن النظام المحاصر لا يمكن أن يثق بطيف من الأشخاص والأحزاب المتناحرة على مبتدأ الخبر ومنتهاه. ويوم يوجد هذا الهيكل عبر نجاح المصالحات المتعددة المستويات ويوم يتبنى خيار أقصى الحزم بخصوص الهدف وأقصى المرونة بخصوص الوسائل، فإن الشعب سيخرج للشارع لتحقيق الاستقلال الثاني كما خرج لتحقيق الاستقلال الأوّل.
لا شك أيضا بأن البشر، يمكن أن يبدعوا أشكال أخرى غير تقليدية، في حين يجعل الركون إلى أساليب مترددة وبالية من الإصلاح ترميما والمصالحة استسلاما والصلح مجرّد فترة وقف إطلاق النار، في حرب متواصلة تغذيها أوهام وأخطاء رجال ونساء لم يرتقوا بحلولهم لمستوى المشاكل. في هذه الحالة فإن خيار الحرب الذي يمثله بن لادن وينظّر له الظواهري هو الذي سيغلب. علما بأن نتيجته ستكون كارثة على الأمة هزم أو انتصر. فإن هزم، أي تم الأخذ بالسيناريو الجزائري، فإنه سيكون سبب إطالة عمر الاستبداد الحالي نتيجة دعم الخارج وجزء من الداخل لنظام يدعي أنه الدرع ضد "الإرهاب". وإن انتصر فسنعيش انتصاب نظام الحاكمية للشريعة أي الحاكمية للذين فرضوا بالسلاح التغيير الذي عجز عن تحقيقه الخيار السياسي وللذين اكتسبوا بالقوة حق تأويل وتفويض الشريعة لصالحهم. معنى هذا أننا سندشّن فصلا جددا من فصول الاستبداد باسم الدين، وستذوق منه الأمة الأمرّين بعد أن جربت كل الهول الممكن مع الاستبداد باسم الشعب أو باسم الأمّة.
إن حل الحرب الذي يدعو له بن لادن والظواهري لن يؤدّي إلا لتواصل اللعنة التاريخية التي تصاحبنا منذ الفتنة الكبرى: التأرجح من الفوضى إلى الاستبداد ومن الاستبداد إلى الفوضى، علما بأنه لا شيء يولّد الاستبداد قدر الفوضى ولاشيء يولّد الفوضى قدر الاستبداد. ولأن قدرنا ليس الخيار بين فوضى وفوضى، بين استبداد وآخر، فإنه من واجب كل شخص مسئول في هذه الأمّة أن يجنّد ويتجنّد للإصلاح والمصالحة والصلح ....قبل فوات الأوان.
تنبيه :لقد خصت صحيفة الوسط التونسية بهذا المقال من قبل الد.منصف المرزوقي رئيس المؤتمر من أجل الجمهورية شخصيا فله جزيل الشكر والتقدير.
تاريخ النشر على صحيفة الوسط التونسية:


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.