الخيط الرفيع بين نقد الذات وجلدها الدكتورمحمد بن نصر
أصواتٌ كثيرة من الداخل والخارج لا تفتأ تردِّدُ أنَّ المسلمين أناسٌ تعطَّلت عندهم أسباب النهوض وأصابهم الوهن، فلا أملَ في إصلاح أمورهم وقيام عودهم. صورٌ متجدِّدة ومتكررة ومتنوِّعة من عمليات جَلد مزدوج، جَلدُ الآخر لذات تعبت من جَلد نفسها حتى خُيِّل للمرء أنَّه قد تجمَّع فيها ما تفرق في غيرها من مساوئ، وهي الأمَّة التي جعلها الله بأجناسها كافةً خيرَ أمةٍ أخرجت للناس. ولكنَّ المفارقة التي لا تلطف على الدَّهماء، ولا تجفو عن الأكفاء فتفرض نفسها على كل عقل ذي بصيرة هي أنَّه إذا كان الأمر كذلك فما تفسير هذا التكالُب الذي حظي باتفاق الجميع مع اختلاف في الوسائل على هذه الأمَّة؟ ولماذا اُختُزِلت عبقريَّة العالم المتحضر مع نفسه، المتوحش مع غيره، في كيفية مواجهة وتعطيل كلِّ محاولات النهوض الفكريِّ والعلميِّ والسِّياسيِّ والاقتصاديّ؟ لا شكَّ أنَّ الوضع الأعمَّ للأمَّة ليس وضعاً سوياً، وان كان هذا الوضع على اعوجاجه لم يكن الأسوأ في تاريخها على الرغم من أشكال المعاناة والمحن المتتالية التي تتعرَّضُ لها، ولا شكَّ أنَّ هناك عوامل هدم داخليةً لا جدال في تمكنها من وعى المسلمين وخاصة في وعى النخب منهم، عطَّلت نهوضها فأمست بها غير قادرة على الاستجابة الفعلية لكلِّ التَّحديات التي تواجهها، وهي عواملُ يجب أن يشار إليها بشجاعة كافية، ويجب على أهلها أن يجتهدوا و يجدِّوا في القضاء عليها، ولكنَّ جذور عداوة الغرب الضمنية والصريحة تعودُ إلى استعصاء هذه الأمة، وقدرتها على تسفيه كل الاحتمالات التي وضعت في الماضي والحاضر حول المآل الذي ستنتهي إليه. ففي كل مرة يطمئن فيها صانعو القرار في الغرب إلى تمكُّن الإحباط من هذه الأمَّة يقيِّض الله أمراً نحسبه بمنطق الربح والخسارة الماديين والتقديرات العقلية شراً، ويتبيَّن لنا بعد حين أنَّه بَابُ خير ما كنَّا نظنُّ أنَّه سيكون كذلك. صحيح إنَّ إخوتنا في فلسطينالمحتلة لا زالوا يعانون وطأة الاحتلال المدعوم دولياً، ولازال اليهود المغتصبون لأرضهم يعيثون فيها فساداً، ولكن ماذا سيكون وضع الأمة لو أنَّ فلسطين أصبحت مثل غيرها من الدول الإسلامية دولةً ذات سيادة وهميَّة وموهمة بغير حقيقتها؟ لقد أراد الله أن تكون فلسطين جمرة اليقظة الدائمة، والنُّورَ الذي لا يخبو، أرادها الله أن تكون جذوة نارٍ متَّقدة تمنعُ الإحباط وتصيب بشظاياها خيوط الانشداد إلى الأرض، وكذلك سيكونُ العراق الجريح، وغيره من مناطق العالم الإسلامي التي شرَّفها اللهُ بهذه المحن. لم تتأت إذاً هذه العداوة من مظاهر تخلُّف الأمَّة إنما جاء ت من استمرار وجود مَواطن حياة في جسم أمَّة رفضت أن تستسلم، وترفضُ أن تتشكَّل وفق القوالب التي أُعدِّت لها سلفاً. لقد بشَّر العديد من المفكِّرين العلمانيين الغربيين، ومن كان على جديلتهم من المسلمين بأفول التديُّن، لأنَّ الدِّين عندهم مجردُ ظاهرة اجتماعية ستؤولُ لا محالة إلى مجرَّد سلوك فردي لا علاقةَ له بالشأن العام، وأنَّ الإسلام مثل غيره من الأديان سيعرفُ حتماً طَورَ الشَّيخوخة، ولكنَّ قُدرة الإسلام على التجدُّد الدَّائم، واكتساب قوَّة دفع جديدة أرَّقهم كثيراً، وأفسدَ عليهم ما كانوا يُدبِّرون. فهذه القدرةُ والقابليَّة لاستيعاب ما استقام من قيم الحداثة وهضمها، وتشكيلها من جديد وفقَ معاييره، ومنطلقاته الأساسيَّة، كانت سبب التصرُّف الهستيري للتيارات اللادينيَّة تجاه الإسلام والمسلمين. لم يقبل الإسلام سياسة الانحناء للعاصفة لأنَّ الانحناء لا يولِّدُ إلاَّ الآراء والتصوُّرات المحدّبَة، ولأنَّ العاصفة لن تكون في كل الأحوال مؤقتة، فالصراع بين قيم الحقِّ وقيم الباطل ماضٍ إلى يوم القيامة، ولا تتغيَّرُ في هذه المسألة إلاَّ الوسائلُ والأساليبُ فقط. لقد أدَّت سياسةُ الانحناء بالأديان الأخرى إلى الذَّوَبان، حيثُ تداخلت فيما بينها إلى حدِّ فقدانها المميِّزات التي تميِّزُ بعضها من بعض، وانصهرت في النَّظام العلماني إلى درجة الانحلال الكلِّى، ففقدت أثَرَها في توجيه الحياة العامَّة وترشيدها. ولكنَّ الإسلام استطاع في مظهره الأغلب المحافظة على مقوِّماته الأساسيَّة، واستطاع بفعل هذه القدرة على الاستيعاب أن يحطِّم ثنائيَّة الدِّين والحداثة. وبرزت أجيالٌ جديدة لا تعرف فرقاً بين الالتزام الدِّيني وبين إمكان التفوُّق في المجالات كلِّها، فلم يكن من السهل على المخيِّلة الغربيَّة أن تقبل تجاوزَ الإسلام لهذه التقابليَّة، فتمكَّن منها الخوف والحذر في تعاملها مع المسلمين، وظلَّ أصحاب الشَّوكة يبحثون عن الحالات التي شذَّت عن المنطق العام للإسلام فأبرزوها وضخَّموا من شأنها، وعلى الرغم من أنَّهم لم يبخلوا عليها بكلِّ أسباب التمكين والتأثير فإنَّ هذه الحالات لم تتجاوز السطح، وبقي العمقُ بمنأىً عنها، فسرعان ما تبدَّدت، وتلاشى أمرُها حين ظنَّ مهندسوها أنَّها قد استوت على الجودي. ظلَّ هؤلاء ردحاً من الزمن يكتبون عن شيخوخة الإسلام المرتقبة بوصفها نتيجةً طبيعةً لقيمه المتخلِّفة التي كانت كما يزعمون زمن ظهوره متقدِّمة، اذ حينها كان العقلُ الإسلامي يافعاً، ولكن سرعان ما حاصرته النُّصُوص فاختار الاستقالة التامَّة، ولكنَّ التيارات الرجعيَّة لم تكتف بهذه الحالة التي أصبح عليها، فاغتالته وقضت عليه نهائياً، وحضارةٌ فاقدة للعقل مآلها الزوال. تلك هي الصُّورةُ التي رسموها عن مسيرة العقل الإسلاميّ، وما كادوا يطمئنون إلى هذه النتيجة حتى فاجأتهم المؤسسات التعليميَّة التي أرادوا منها أن تكون معاقلَ للعلمانيَّة في العالم الإسلامي بتخريج فئات جديدة من المثقَّفين استطاعت أن تجمعَ بين انتمائها الدِّيني وتحصيلها العلمي، بل ترى في التَّحصيل العلميِّ عبادةً في حد ذاته، وراحوا يبحثون عن تعليلات لذلك من نوع أنَّ الترسانات الثقافيَّة التقليديَّة ما زالت قويةً ومؤثرةً في المجتمع الإسلامي، أو أنَّ المعدمين عادةً ما يستهويهم التِّيه في خيالات الدِّين، وأنَّ الأمر يحتاج إلى وقت أطول حتى يتمَّ تجفيفُ هذه الينابيع التقليديَّة. ولكنَّ الخرق اتسعَ على الراتق، وازداد التمسُّك بالدِّين والإقبال على الإسلام في مجتمعات غير مجتمعاته التقليديَّة، تُعدُّ في الأصل فضاءات معادية للدِّين نظراً لهيمنة قيم العلمانية والحداثة المنفلتة عليها. وفقدَ فقهاءُ العلمانيَّة صوابهم، وتخلَّوا عن قيم الحريَّة الفرديَّة التي طالما تغنَّوا بها، ولجأوا إلى قوُّة القانون لقمع نزعة التديُّن الفطريَّة في الإنسان. ولما اقتنعوا مرغمين أنَّه لا سبيل إلى مواجهة الإسلام برمته، عمدوا إلى نواته يفتِّتونها، فحاول البعض منهم أن يجعل من الإسلام إسلامات: إسلامٌ للشعوب وإسلامٌ للحكام، إسلامٌ للنُّخبة وإسلامٌ للعلماء، إسلامٌ حضاري و إسلامٌ غير حضاري، إسلامٌ شرقيّ و إسلامٌ غربيّ... والقائمة تتناسل وتتسلسل باستمرار. ولكنَّ الإسلام، وبحكم منطقه الداخلي الذي يحكمه، لفظَ وسيلفظ كلَّ هذه النوابت، وأخفقت كل محاولات تبعيضه كما حبطت كل محاولات تجاوزه من خارج إطاره العقائديّ، استوت في ذلك القراءات الحرفيَّة والقراءات المحرِّفة. تلك هي جذورُ العداء للإسلام، والتربُّص بأهله حتى أضحى دمُهُم أرخصَ دم على وجه الأرض على الرَّغم من حالة الضَّعف والهوان التي تعيشها نخبهم. إنَّه الخوف من أن يحقِّق الإسلام مرةً أخرى معادلة الاحتفاظ و التجاوز: الاحتفاظ بالقيم الإيجابيَّة للحداثة، وتجاوز ما شذَّ منها عن الطبيعة البشريَّة. لقد تعهَّد الله سبحانه وتعالى بحفظ هذا الدِّين، وبهذا الحفظ سيكون في مأمن من القراءات الجامدة، والقراءات المنفلتة، وسيكون الأقدر على المواجهة الفعليَّة للمشروع الماديّ في كل أبعاده، والذي أصبحت ميزته الأساسيَّة نزعَ الصفة الأخلاقيَّة عن الفعل الإنسانيّ. لذلك يخشى الغرب المسلمين في ضعفهم وقوتهم، بل يعمل دائماً على إعادة كل من سوَّلت له نفسه تجاوز السقف المسموح به من البحث العلميِّ وخاصة في قضايا معيَّنة والنُّمو الاقتصاديِّ، والإصلاح السياسيِّ إلى المربَّع الأول، وفي كل مرة تخطو فيها دولةٌ إسلامية خطوة إلى الأمام في مجال من المجالات يفتعل لها مشكلةً حتى تكون غطاء لإجبارها على التقهقر خطوات عدَّة في المجال نفسه، وما يحزُّ في النفس ويؤسف له حال النخب الحاكمة، والنخب المفكِّرة التي لازلت تنظر إلى الأزمات التي تمرُّ بها بلدانهم من زاوية ضيقة نظرياً، ومحتبسة جغرافياً، بعضهم منخرطٌ عن وعي في استراتيجية الدمار الشامل، وبعضهم يحسب أنَّه يحسنُ صنعاً. لم تفهم هذه النخب أو لعلَّها تتجاهل حقيقة هذه الأزمات التي تتمُّ في إطار إستراتيجية نهب منظَّمة، تتقاطعُ فيها العوامل الداخليَّة والخارجيَّة، وتعمل في كل المجالات وفق خطة متكاملة، في الأدب، والفنِّ، والسياسة، والاقتصاد بأساليب ذكيَّة ومستحدثة تجعل قصير النظر عاجزاً عن إدراك المنطق المتحكِّم فيها. إنَّها استراتيجية الإبقاء على العالم الإسلاميِّ في حالة استقالة حضاريَّة كاملة، وخارج دائرة الإنتاج والفعل، ولكنَّ المكر السيئ في النهاية يحيقُ بأهله، طال الزمن أو قصر، وشرطُ ذلك وجود عباد يتوفر فيهم الإخلاص والإتقان، ولاشكَّ في وجود ما يجب أن يكون لأنَّ ذلك وعدٌ إلهي، واللهُ لا يخلفُ وعدَهُ أبداً. وقد قال أبوحيَّان التَّوحيديُّ واعظاً-لعل البعض ممن يتصورون أن الكلم الطيب وحيد المنبع، يقولون متى كان التوحيدي واعظا؟ "إنَّ الله عزَّ وجلَّ يطلع الخوفَ من ثنية الأمن، ويسوقُ الأمنَ من ناحية الخوف، ويبعثُ النَّصرَ وقد وقعَ اليأسُ، ويأتي بالفرج وقد اشتدَّ البأس، وأفعالُ الله خفيَّةُ المطالع، جليَّةُ المواقع، مطويَّةُ المنافع، لأنَّها تسري بين الغيب الإلهي، والعين الإنسي، وكلُّ ذلك ليصحَّ التوكُّلُ عليه..." إنَّها دعوةٌ إلى الذين أصبحت لوحة المفاتيح رشتهم المفضلة أن يوسِّعُوا من أفق نظرهم، وألاَّ يكونوا سُجناء للحظة الرَّاهنة، وأن يتحرَّرُوا من مضايق الشَّدائد ومن أشكال التَّعصُّب الحزبي والعرقي والمذهبي، الخفيَّة والظَّاهرة، فذلك ما يُشوِّشُ الرُؤية، ويُشتِّتُ القُوَّة، ويُفرغها في المعارك الجانبيَّة، ويُؤجِّلُ المعركة الحضاريَّة الحقيقيَّة.والكلمة أمانة.