ليس هناك أبشع من أن ينسلخ المسلم عن هُويتِه وحضارته وينتسبَ إلى عدوِّه من المستعمِرين. كيفَ لبشرٍ أن ينسلخ عن جلدتِهِ ويفتخرَ بجَلادهِ؟ كيفَ له أن ينتسبَ إلى تاريخٍ ليس تاريخَه ولا إلى ثقافةٍ ليست ثقافته؟ كيفَ يبيعُ دينَه برطلِ لحمِ خنزيرٍ وقدحِ خمرٍ؟ أم المغلوب يقتدي دوماً بالغالب؟ ذلك هو شأنُ عصابةٍ من العلمانيين المتطرّفين في تونس وغيرها من البلاد العربية. لا بدَّ لنا أن نُشيرَ أوّلا إلى أنّ هؤلاء العلمانيين إنّما هم نِتاجٌ غربيٌ وصنيعة مستوردة. عندما زحفت جُيوش الغُزاة الاستعماريين على بلاد المسلمين خلال القرن التّاسع عشر وداست على المقدّسات والمجتمعات حاولتْ أن تَصْنع لها أذْيالاً أوفياء يقومون بنشر وتوريث ثقافتِهم وحضارتِهم المُلْحدة. تزايَدَ المسخُ الثّقافي بتطاول أمد المستعمِرين لعقود كثيرة وتأثّرت به نُخَبٌ من مجتمعاتِنا حتّى قال بعضهم "خذوا عن الغربِ حلوهِ ومُرِّه". في تونس مَثلاً نشأت طُغمةٌ متغرّبةٌ تدعُ إلى القطع مع الماضي واعتبارِه معطِّلاً للحداثةِ. زعموا أنّ لا تقدّمَ للأمّة إلاّ بثَورتها على موروثِها الحضاري العربي الاسلامي ولا سبيل لها من أجل اللحاقِ بالأمم المتقدّمة سوى نبذ الدّين. خرجت هذه الفئات الثّقافية على الأمّة بأفكارها الغريبة المتغرّبة وفرضته عليها بواسطة الدّولةِ القُطرية الوطنية المزعومة ولم يكن لهؤلاء حظٌّ يوصِلهم إلى قيادة الأمّة إلا من خلال دعم الغرب الاستعماري لهم. إنّ القضية الكبرى في تونس ليست دينها ولا هويتها لأنّ شعبَ تونس هو شعب مسلم متمسّك بإسلامه ولكن الخطر الأكبر هو الوصاية الثقافية المستوردة التي تفرضها العَلمانية المحاربة على الوطن. لا يمكن للعَلمانية أن تنتصر إلا عن طريق الاستبداد السياسي والقمع الأمني وهذا ما فعله النّظام المستهجن عبر أكثر من نصف قرن. ولا يمكن بأيّة حال لهذه العَلمانية أن تجد طريقَها إلى حكم الشّعوب العربية إلا بواسطة القهر. وهذا ما تَحقّق تاريخيا فرزحت هذه الشّعوب تحتَ جلاديها وتعطّلت نهضتها وسكنت إلى ذلِّ الاستعمار الجديد لسنين عددا. لمّا نصَرَ الله شعبَ تونس على ذاكَ الباغي الذي سرق عزّ تونس وشرّد خيرة رجالِها برَقَ أملٌ في الأمّة وهبّت شعوبٌ عربية كثيرة تتحسّسُ طريقَها إلى الحريّة والكرامة. أطاحت هذه الثّورات أوّلا بجدار الخوف الرّهيب وأمسى حكّام العرب أضحوكةً في أقاصي العالم. تبيّن أنّ "أصحاب السيّادة والفَخامة والجلالة والسُّموّ والمَعالي" هم عملاء وسفهاء وأزلام للغُزاة المستعمِرِين وأنْ ليس لهم من أهلية ولا شرعية لحكم شعوبِهم. كانوا أوصياء على هذه الأمّة وليس لهم من شأنٍ إلاّ من خلال تلكَ الهالة الاعلامية الرّهيبة التي يسخّرونها لأنفسهم. أحاطوا أنفسهم بحرسٍ شديدٍ وظنّوا أنّهم مانعتهم حصونهم فثارت عليهم شعوبهم ورمت بهم في قُمامة التّاريخ. كشفت هذه الثّورات عن أناسٍ كانوا عوْنا للبغاة وفضحت شِعاراتِهم المزعومة بأنّهم أحرار ودُعاةٌ للحريّة. برز في تونس رجال التطرّف العِلماني كمدافعين عن الحريّاتِ العامّة وباسم "الحداثة" تنكّروا لهوية هذه الأمّة ولطّخوا تاريخَها بفهمهم المجانب للحقيقة. لم يسارِعوا لنُصرة القضايا المصيرية للأمّة وانبروا يشكّكون في دينِها ويشوّهون رموزَها ويفترون على الله الكذب وهم يعلمون. لا شكَّ أنّ "أصحاب الشّمال" أو اليسار المتطرّف كان وبالا على أهل تونس. تَواطئوا على ممارسة أبشع أشكال العنف والقهر المنظَّمِ على الإسلاميين وسخّروا دولة القمع لضرب خصومِهم. أستطيع أن أجزمَ بأنّ المهندس الأوّل لمحنةِ الإسلاميين في تونس هو اليسار المتطرّف وكان "الهارب" سجّانَهم وجلاّدهم. ساد تونس جوٌّ من العنف والإرهاب وعاشت البلاد تحت حكم اللّصوص سنين عصيبة تميّزت بهيمنة العلمانيين على مؤسّسات الدّولة واحتكارهم للقطاع الثّقافي. أدرك التُّونسيون أن لا خيار لهم سوى المقاومة والصّبر على الأذى وهم يؤمنون بأمل الخَلاص. أطاحت ثورة 14 يناير برأس الاستبداد وفرّ ذاكَ المجرم مذموما مدحورا يبحث عن أرضٍ تأويه. لكنّ ثورة الأحرار في تونس لم تكتمل لأنّ بقايا ذاكَ الباغي ما يزالون يمْسكون بكثيرٍ من أجهزة الدّولة جهارا نهارا. لن تكتمل ثورة الكرامة إلا بالانتفاض على هؤلاء العلمانيين المتطرّفين وطردِهم من المراكز القيادية للدولة. الخطر كلّ الخطر هو أن يسعى العلمانيون المتغرّبون وأصحابهم من المتنفذين إلى زعزعة استقرار البلاد وجرِّها إلى نقاشاتٍ جانبيةٍ تُفضي إلى تهميش مسار الثّورة وتعطيل الانتخابات المقبلة وبالتّالي فرض الحلّ العلماني على تونس المسلمة. وليس هناك من سبيلٍ لتجنّبِ مكائِدِهم إلاّ بواسطة حالة الاستنفار القُصوَى في صفوف الجماهير. كما لا يمكن للجماهير أن تسْكت على مهاترات هؤلاء المغرضين الذين يتخذون من الغرب سبيلهم وقبلتهم. ولا بدَّ لنا أن نقول بأنّ العلمانية ليس لها قرار في بلاد المسلمين إلاّ بالقهر والنّار والحديد والاستبداد وهذا ما اكتوى به التّونسيون وغيرهم من الشّعوب العربية عبر أكثر من نصف قرن من الزّمان.