بقلم هادي يحمد/ سنعود يوما يا وطن... صديقي العزيز: وصلتني رسالتك التي تسألني فيها عما يمنعني من " العودة إلى تونس" بعد سبعة سنوات من الاغتراب ومن المفارقات أن رسالتك وصلتني و أنا اقرأ كتاب " الحبس كذاب.. و الحي يروح.. " لصاحبه " فتحي بن الحاج يحي" ! فأثرت أن أجيبك برسالة مفتوحة لاني اعلم إنها ستفتح لا محالة من " العون المجهول " إذا أرسلتها لك ب"الميل الالكتروني" أو ب"البريد العادي" ! سأبدأ رسالتي لك بسؤالي إليك " هل تعرفي شخص اسمه " محمد علي فداي".. هل سمعت به يوما بين المتهامسين خفية في "مقهى الدباغين" حيث كنا نلتقي أم في مقهى " كلية الآداب بمنوبة " بعيدا عن أعين " الأمن الجامعي ؟ هل سمعت عن اسمه من أفوه مناضلي حقوق الإنسان في مقر "الرابطة" أو في "المجلس" أو "الامنستي" في شارع أم كلثوم ؟ بالتأكيد لا اخالك قرأت عنه في جريدة "الشروق" أو "الصباح" و لا عند " بطرونات " مديري الصحف " الجريدية " الذين جلبوا العار لصحافتنا التونسية ؟ هل تريد أن أحدثك عن "محمد علي فداي" ؟! . انه " مواطن " مجهول في تونس اليوم من بين الملايين من " المواطنين " الذين لا تحتفل بهم الفضائيات و لا يقع استفاضتهم في نزل الخمسة نجوم وليسوا هم من أصدقاء الفرنسيين و لا الأمريكيين و لا يمكن ان تلصق بهم تهمة " عملاء الداخل " و لا " الخارج ".. ربما كان محمد علي فداي من الأشخاص الذين لم يطمحوا يوما ما في قيادة البلاد و لا حتى في ملكية " يخوت" و "هناشير" و لا ضياع و لا إدارة شركات و لا نهب ثروات البلاد ربما كان أقصى طموحه حياة بسيطة بتكوين عائلة و تربية أبناء و قليل من المال كما تفرض على أمثاله التقاليد الاجتماعية . صديقي العزيز: هذا " المواطن" صعد في ديسمبر 1996 أسوار قلعة القصبة بمدينة بنزرت و صلي ركعتين من الناحية المواجهة للمرفأ القديم ببنزرت .. وقف على حافة السور .. ثم كبر بأعلى صوته .. و ألقى بنفسه من أعلى السور .." فاض دم " محمد علي فداي " على رصيف مرفأ بنزرت و مات في الحال و دفن في مقبرة على عجل تاركا وراءه ثلاثة أطفال .. مات شهيدا أو منتحرا.. لا يهم ! هل سيدخل الجنة أم النار.. لا يهم ! ما قيمة المصير وما قيمة السؤال حول حقيقة وجود الله و ما قيمة وجود الجنة أو النار أمام شناعة ميتة كهذه ! المهم يا صديقي أن "محمد علي" هذا ضجر الحياة الذليلة تحت رقابة الأجهزة البوليسية و التوقيع اليومي في مخافر الشرطة بعد خروجه من السجن بتهمة الانتماء إلى " جمعية غير مرخص فيها".. و اختار الحل الأنسب لحياة أصبحت مستحيلة .. اختار " محمد علي فداي " أن يلقي بنفسه من أعلى قمة في مدينته لأنه اقتنع أن الحياة " تحت الحصار " كما يقول تقرير " "الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين" لا تستحق أن نحياها ( تقرير " مواطنون تحت الحصار.. المراقبة الإدارية في تونس " صدر بباريس مارس 2010 ) . صديقي العزيز: رحل " محمد علي فداي " الذي لم يسبق لي الالتقاء به و لا أشاطره أفكاره بل ربما لا أستسيغها ووجدت اسمه عرضا في تقرير ممنوع في تونس و لكني اعتقد انه قام باختيار " شجاع " و" مفزع " في ألان ذاته للتعبير عن حالة الإحباط و اليأس التي تسري اليوم في تونس بين " المواطنين " الذين دخلوا معترك السياسة و المشاركة في الحياة العامة " ليكتشفوا أن الحياة لا نستحق في هذه الظروف أن نحياها فاختاروا طريقة موت تليق باستحالتها !. بالقطع لن أقارن نفسي إذا ما عدت إلى البلاد بما جرى لهذا الشخص أو غيره لاني لست سياسيا و لا املك مشروعا سياسيا و لاني من المقتنعين بالمصير الفردي للإنسان بالمعنى الذي يصوره " كامي " في رواية " الغريب " و لكني اعلم أيضا أني إذا ما عدت يوما سوف أتعرض لمضايقات أكثر تنكيلا لاني أريد أن أمارس مهنتي الصحفية والكتابة في المحرمات و المحظورات و كل الممنوعات السياسية و الدينية و الاجتماعية وهو أمر غير متاح في تونس اليوم .. و لا أرى معنى لممارسة الصحافة إلا من باب " الاستفزاز الايجابي " و " السلخ المطلوب " و "المحاسبة غير المداهنة " و " نقد الحكومة و هرم رأس الدولة تحديدا بكل حرية و مسؤولية كما تفعل الصحافة الفرنسية " بساركوزي" اليوم و إلا لا معنى لمهنة الصحافة بالنسبة لي .. وهي بدون هذه المعاني عملية استرزاق رخيصة لا أريد أن أمارسها في بلدي ! صديقي العزيز: عندما تكون ممارسة الصحافة يمعناها الحقيقي أمرا مستحيلا فيه و فعل السياسة فعل جالبا للانتحار في ظل حفلات التهريج و مسرحيات الانتخابات و عندما تتالى التجمعات الجماهرية المنادية بتخليد الأصنام خبزا يوميا و عندما يكون تكميم الأفواه قاعدة و عندما يصبح الصحفيون - مع بعض الاستثناءات - أبواقا للسلطان و عندما تحاصر الجمعيات المستقلة و يطارد البوليس السياسي مناضلي حقوق الإنسان في كل شارع و في كل زقاق و في كل مقهى و يسترق "المخبر" السمع إلى مكالمات المعارضين و يقرأ "اميلاتهم" عبر أجهزة القرصنة " في دهاليز وزارة الداخلية بسادسة و عندما يتلصص على تفاصيل مضاجعة مناضل حقوق الإنسان لزوجته أو خليلته بوقاحة ... عندما يحدث كل هذا.. أي عندما تموت "السياسة" و تقبر " الصحافة " و تصبح المشاركة في الحياة العامة مستحيلة.. عندها يصبح خيار " محمد علي فداي " "خيار المستقبل" للتونسيين و ليس بديلا عنه إلا " الاستقالة " أو فتح محل للغلال و الخضروات " أو "الهروب من البلاد" لان العودة في مثل هذه الظروف تصبح عملية انتحار رمزي و عملية تضييع للعمر بلا جدوى . صديقي العزيز: الأكيد أن هناك من زملائي من " المستقلين" من يرى في " هامش الحريات " بارقة أمل في " دول الحرية " يوما ما.. و هناك من أصدقائي الشيوعيين من يراهن على كتابة " الكي " ( محمد الكيلاني ) على أعمدة " جريدة الصباح" هذه الأيام و يرى فيها بارقة أمل من اجل تطبيق " دولتهم الشيوعية " في تونس يوما ما .. و هناك من أصدقائنا الإسلاميين ممن اغمدوا سيوف " جهادهم المقدس" ممن عادوا إلى الوطن من يرون في " إذاعة الزيتونة " بارقة أمل في تطبيق " دولتهم الإسلامية " يوما ما .. و هناك من أشباه المناضلين من يرى في لين النظام معهم بارقة أمل في حصولهم على منصب يوما ما.. كل هذا لا يعنيني فما تعودت أن استرزق على فتات الاستبداد و لا أن أكون جنديا في مشروع جماعي فكاتب هذه السطور " ليس إلا فرد وليس له أي قدر جماعي " ما يقول "سيلين" في روايته " رحلة في دهاليز الليل " ! لا تعنيني الإشارات الخفية و البحث في ما تحت السطور لتعيين فلان أو علان في هذا المنصب أو ذاك كدليل انفتاح نسبي و لا يعنيني منطق " القطرة قطرة " و لست من الذين يرون أن تحقيق الحرية في تونس يقتصر على السماح بلس قطعة قماش فوق الرأس كما يطمح أهل الإسلام و السماح بالمساواة في الإرث كما تريد النساء الديمقراطيات أو السماح لهذا بالعودة أو الضغط على ذاك عبر مساومته بحقه في جواز سفر .. أنا من المقتنعين بحقنا في الحرية الكاملة والديمقراطية غير منقوصة و بحياة سياسية متحركة و حية تليق بالتونسيين بلا إضاعة عمر في أنفاق الانتظار. أنا لا أرى يا صديقي فيما يجري إلا تجميلا مكررا للمشهد السياسي منذ حوالي ربع قرن و لا أزال وفيا لقول مظفر النواب " إسرائيليون مهما كحلوا مشروعهم " ( على فكرة إنها قصيدة يشتم فيها شاعر العراق ال سعود) ! صديقي العزيز: ربما لن تسمع غدا أني ألقيت بنفسي تحت " مترو باريسي " غدا من شدة اليأس و الإحباط على خطى " محمد علي فداي " هذا .. لاني أولا " أحب الحياة كما لا يحب الحياة احد " كما يقول "الرفيق" أولاد احمد وثانيا انه لا يتبع خطاي في منفايا رجل امن كلما خرجت من بيتي و لا "يصنصر" الراحل " الهادي القريوي" مقالاتي كما كنت في مجلة "حقائق" و أكثر من ذلك لا أرى في نفسي جزءا من جيل الثمانينات المهزوم و لا حتى من جيل التسعينات المهجر و المنكوب و لا من جيل آخر يساريا أو يمينيا أو سلفيا أو شيوعيا أو إسلاميا أو أصوليا أو وصوليا .. أو غيرها من الاتجاهات التي أصبحت تطبق بتهافت المثال القائل " حشيشة طالبة معيشة " ! و لاني من جيل يرفض التصنيفات " البوليسية" التي أورثتها دولة الاستبداد لمعارضيها و لاني من جيل الحالمين بدولة " الحرية " يوما ما .. فان حلمي ليس قطعا عودة إلى وطن اغترب في داخلي و أصبحت فيه الغربة وطن إلى حين ! نسيت أن أقول لك قبل أن اختم رسالتي أني سأرسل لك قريبا نسخة من كتاب " الحبس كذاب و الحي يروح " قريبا عبر احد أصدقائي العائدين ! . من بريدي الوارد