هناك أطراف تغذي نزعة المواجهة بين اتحاد الشغل والحكومة. أنا مع هدنة المرزوقي.. وأدعو الحكومة إلى توسيع دائرة مشاوراتها. أخشى التطرف العلماني بقدر ما أخشى التطرف الديني. القطريون قالوا لي: «نريد تحويل توزر إلى مراكش جديدة". هو من مواليد القيروان منتصف الأربعينات من القرن الماضي، درس بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار ثم واصل دراساته العليا بالسوربون حيث أحرز شهادة الدكتوراه ببحث عنوانه «الصحوة السياسية للإسلام وكيف حلّلتها الصحافة الغربية من 1980 إلى 1990". تحمّل أحمد القديدي عدة مسؤوليات في العهد البورقيبي الطويل وخاصة إبان صعود صديقه محمد مزالي إلى المنصب الثاني في الدولة إذ كان عضو اللجنة المركزية للحزب الدستوري ومقرر لجنة الشؤون السياسية بمجلس النواب. كما أدار جريدة «العمل» لسان الحزب الحاكم آنذاك(1981-1986)، وبأفول نجم مزالي وهروبه خارج البلاد، وجد أحمد القديدي نفسه منفيا خارج وطنه ثم أصبح احد عناوين المعارضة التونسية في المنافي لنظام السابع من نوفمبر وخاصة في عشرية التسعينات حيث كان عدد المعارضين في باريس يعدّ على أصابع اليد الواحدة. سجل أحمد القديدي صفحات من سيرته السياسية في كتاب صدر سنة 2005 بالدوحة عنوانه «ذكرياتي من السلطة إلى المنفى». وفي خطوة مفاجئة عيّنه بن علي سفيرا لتونس في قطر شهورا قليلة قبل هروبه. وعلى الرغم من مغادرته السفارة يحتفظ أحمد القديدي بعلاقات ودية مع مختلف الفاعلين السياسيين في مرحلة ما بعد 14 جانفي وخاصة حركة «النهضة» التي كتب على أعمدة صحيفتها أكثر من مرة.. الدكتور أحمد القديدي تحدث ل«التونسية» في زيارته الأخيرة إلى تونس.. كيف وجدت تونس في زيارتك هذه؟ - مع الأسف، الطبيعة كانت قاسية على تونس ونطلب من الله عزّ وجلّ أن يمنّ علينا بالرحمة بتعديل مستوى الأمطار وإزالة الثلوج حتى يتمكن الشعب التونسي من التصدي للمشاكل العديدة التي يجابهها وهي تشغيل الشباب والتوازن الجهوي وخلق فرص عمل وتجاوز العقبات السياسية والدستورية بأقل ما يمكن من التشنج والحدة والتكاليف. وجدت تونس في وضع صعب وأنا أثق في التونسيين وفي الكفاءات الوطنية في السلطة وخارجها في أن تتجاوز هذه الأزمة بسلام . تردد مؤخرا نبأ تعيينك سفيرا لتونس في باريس؟ - لا، لم اسمع بهذا، وليست لي طلبات في هذا الموضوع، أنت الذي أخبرتني، عموما أنا أخدم بلدي في أي موقع بالوطنية التي عهدها التونسيون فيّ والتي أعتقد أني لم أحد عنها. تحتفظ بعلاقات ودية مع حركة تميل حسب المحللين إلى الانكفاء على منخرطيها هي حركة «النهضة»؟ - علاقاتي بمناضلي «النهضة» مثل علاقاتي بمناضلي «التكتل» أو «المؤتمر» أو «الحزب الديمقراطي التقدمي» تكونت أيام النضال ضد الاستبداد مثلما قلت للشيخ الغنوشي أنا رفيق كفاح ولست رفيق نجاح، وهو ما أقوله لكل الإخوة الموجودين على الساحة حيثما كانت مواقعهم. فأنا تعرفت عليهم في سنوات الجمر وهي سنوات الصبر كنّا فيها متضامنين تجمعنا عصا الاستبداد والملاحقات وحجز جوازات السفر وهتك الأعراض في الصحافة الصفراء. فعلاقتي بالإخوة في «النهضة» هي علاقة نضال مشترك وتواصلت عندما عادوا إلى تونس لتحقيق حلمنا جميعا في أن تكون تونس حاضنة لكل أبنائها بلا إلغاء أو إقصاء. يرى البعض أن هذه المرحلة هي مرحلة «توزيع الغنائم» على مناضلي الأمس (آخرها تعيين الولاة ) ألم تطالب بنصيبك من الغنيمة؟ - أنت تعتبر المسؤولية غنيمة؟ أنا اعتبرها محنة وأحيانا أشفق على من يتحمل مسؤولية في هذه الظروف ولا أعتقد أن الذين هم في المسؤولية اليوم يحسبونها كذلك. فهم في أشد الحاجة إلى شد الأزر وإلى العون وتجاوز الصعوبات وما يقتضيه الموقف من وحدة وطنية أتمنى أن تكون أوسع لجميع التيارات ولا يجب استعمال كلمات من قبيل «جماعة الصفر فاصل» فكل مواطن وكل مناضل له الحق في أن يشارك في إدارة شؤون البلاد بما يعتقد أنه الطريق السليم. ما تقييمك لأداء حكومة الجبالي؟ - أعتقد أن الظرف صعب وأن الكفاءات الموجودة اليوم في الحكومة أو المجلس التأسيسي أو المعارضة وهي نخبة، تحكم تونس بطريقة أو بأخرى حتى وهي خارج الوزارات لأن الشعب ينتخب من يحكمه وينتخب ضمنيا معارضته، فحكم تونس لا يقتضي منصب وزير أو كاتب دولة أو سفير.. أنت بقلمك تحكم تونس، بطريقتك تهندس الرأي العام وتوجه الأحداث نحو الوجهة التي تراها صالحة من منظورك الوطني. أنا أعتقد أن الظرف صعب مهما كانت الهوية السياسية لمن يمسك بدواليب الدولة اليوم، ولي ثقة في أن نخرج من هذه الصعوبات. كيف؟ - أعتقد أننا أخطأنا في بعض المنطلقات فمشاكلنا ليست إيديولوجية وليست مشكل هوية وتحديد الأولويات أيضا. فالمشاكل الآنية الظرفية الاستعجالية هي جلب الاستثمارات حتى نشغل الشباب وحتى تدور عجلة الاقتصاد ويعود السائح ولكني أرى في بعض الأحيان مؤشرات هنا وهناك لا تنبئ بأن هناك وعيا بالأولويات، لأنه حين يضعف الاقتصاد يزيد الأمر تعقيدا بتداعياته الاجتماعية، والصراعات الإيديولوجية لن تحل المشكلة بل ربما تطلق عليها سيلا من الضباب والدخان يلفها حتى أن رؤية القضايا الحقيقية تصبح مستحيلة. وأنا أدعو إلى مؤتمر وطني تشارك فيه كل التيارات والحساسيات السياسية لضبط خارطة طريق ترسم أولويات الحكومة في المرحلة الانتقالية وآمل أن تتم الاستجابة إلى هذا المقترح في أقرب الآجال. وأنا مع المنصف المرزوقي في مطالبته بهدنة اجتماعية إذ لا يمكن محاسبة حكومة بعد أسابيع من تشكيلها كما أنه يتعين على الحكومة توسيع دائرة مشاوراتها، ولكل تيار ولكل مواطن دور في الخروج من عنق الزجاجة الذي نوشك أن ندخله إن لم نتفق. هل تخشى من معركة كسر عظم بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل؟ - أعتقد أنه توجد بعض الأطراف هي التي تغذي هذه النزعة. من له مصلحة في هذا الصراع؟ - من له مصلحة في أن تغرق تونس، والخصوم كثيرون ويجب التعامل مع الواقع مثلما هو لا مثلما نلوّنه نحن ويتهيأ لنا، الواقع صعب وهناك من لا يريد لمسارنا النجاح. كيف ترى دور الاتحاد العام التونسي للشغل؟ - دور الاتحاد اليوم مثلما كان أيام الزعيم التاريخي فرحات حشاد الذي تضامن مع بورقيبة ومع الحزب الدستوري والحزب الشيوعي والقوميين حتى تنال تونس استقلالها. وقد دفع حشاد حياته ثمنا لهذا الموقف، فهذا مبدأ عقدي(عقيدة) في نظري يجب أن يسود العلاقة بين الاتحاد والحكومة مهما كانت هذه الحكومة لأن الاتحاد انبنى على قولة حشاد «أحبك يا شعب» واعتقد أن أهدافنا واحدة وغاياتنا واحدة وربما تقع بعض التشنجات في الطريق قد تغذّيها بعض الأطراف التي تريد أن تخلق صراعا بين منظمة عتيدة وحزبا نال اكبر قدر من الأصوات في انتخابات شرعية وهذا لا يخدم تونس. تحدثت عن الأولويات ولكن الحكومة منشغلة بتوحيد المغرب العربي وضرب النظام السوري؟ - أنا أعتقد أن السياسة مصالح وأولويات ولكنها أيضا مبادئ. فالذي يجري في سوريا لا شك في أنه يمسّ كل تونسي، فهذا النظام يقتل شعبه بشهادة القوى الحية السورية، وقيام تونس بدور طلائعي في الملف السوري أمر يشرّفها ويعطيها زخما ديبلوماسيا كانت تونس تقوم به. لا تنس أن تونس زمن بورقيبة تدخلت في قضية موريتانيا وانفصالها عن المغرب وكانت أول دولة تعترف بموريتانيا، وكان المختار ولد داده (أول رئيس لموريتانيا ولد في 1924 وتوفي في باريس سنة 2003) يزور تونس ويقيم بيننا وقد نجحت تونس في أقلمة القضية وتوصلت إلى حل، وقتها قيل لبورقيبة ما دخلك في القضية الموريتانية، لنا مشاكل «وادي زرود» أولى من قضية موريتانيا؟ نتمنى أن يكون لتونس دور في قضية الصحراء الغربية وقضية سوريا و«مؤتمر أصدقاء سوريا» يندرجان ضمن رسالة تونس الدبلوماسية. هل تؤمن بأن حل قضية الصحراء الغربية هو حل إقليمي؟ - قلت هذا الكلام لعبد العزيز بوتفليقة حين كان خارج السلطة، كان يزورنا في الدوحة كل يوم جمعة وكان وقتها مستشارا للشيخ زايد، كنا في بيت أبو ناصر آل خليفة نتناول سمكا على طاولة الغداء، قلت له (كان ذلك في منتصف التسعينات) عندما تمسك بشيء من السلطة حاول أن تحلّ هذه القضية. فقال لي «أول أولوياتي حلّ هذه المشكلة لأنها تعطل بناء المغرب العربي». ولكن بعد أن أصبح رئيسا ربما تغيرت المعادلة، ولم ننجح إقليميا في طي هذه الصفحة، وأعتقد أن المرزوقي محق في قوله بأننا جميعا نخسر من اللامغرب لأن التكامل بيننا جغرافي وتاريخي وديمغرافي وثقافي.. فنحن لا يمكن أن ننجح دون المغرب العربي ودون العالم العربي وقضية سوريا تندرج في هذا الباب وأعتقد أن الدبلوماسية التونسية دبلوماسية جريئة وعادلة ترتكز على قيم مثلما ترتكز على مصالح. هل لك مخاوف من تقسيم ليبيا؟ - مخاوفي من تقسيم العالم العربي كله وقد انطلق المخطط بالسودان التي فصلت إلى نصفين، والعراق أصبحت فيه دويلة كردية استعدادا ربما لبناء كردستان الكبرى على حساب إيران وتركيا وسوريا، وتقسيم العالم العربي قضية القرن 21 بالنسبة إلى القوى العظمى أو المتعاظمة مثل الولاياتالمتحدة وروسيا والصين.. ما تعليقك على زيارة داعية ختان البنات وجدي غنيم إلى ديارنا؟ - هو لم يتحدث عن ختان البنات في تونس، هذه وضعها الفايسبوكيون المناوئون له. وخطابه هل يتلاءم والمجتمع التونسي؟ - لا، لا يتلاءم مع طبيعة المجتمع التونسي وأبناؤنا من السلفيين فيهم الكثير من الاعتدال والرؤية الصالحة حتى لو نادوا بالعودة إلى السلف الصالح فتونس لها معطيات منذ 3000 سنة وتكونت فيها حضارات متعاقبة متنوعة ومن عام 50 ه استمر الإسلام في بلادنا التي تتفاعل فيها كل الحضارات لتنشئ عبقرية مسلمة من حيث الدين وعربية من حيث اللغة وتونسية التوجه ولا تحتاج إلى تطرف من شرق أو من غرب. فالتطرف العلماني أخشاه قدر خشيتي من التطرف الديني. ألا تخشى تصاعد التيار المتشدد دينيا؟ هي ظاهرة تهم العالم الإسلامي كله ولم ننفرد بها وهي رد فعل على تطرف آخر يريد انتزاع الهوية الإسلامية من هذه الشعوب، فلو نعتدل في التطرفين نجد نوعا من التوازن ونسلك طريقا فيها احترام لهوية الشعب. هل مازلت مستقلا؟ - نعم، لم أنتم إلى أي حزب من بين 117 حزبا. لم تختر أي حزب؟ - لا اخترت ولا هم اختاروني. هل يمكن أن تنضم لأحد الأحزاب؟ - ممكن، وربما كان البقاء مستقلا أكثر حرية في التعبير عن رأيي. لمن صوتت في انتخابات 23 أكتوبر؟ لليمين أو لليسار؟ - صوتت لمن اعتبرته صالحا لحكم تونس. هل كانت لك اتصالات مع وجوه سياسية في زيارتك الأخيرة؟ - في كل زيارة ألتقي أصدقائي الذين يرغبون هم أيضا في ملاقاتي. أنا لا أريد أن أثقل على أحد.. كيف تختم هذا الحوار؟ - أنا أعيش بين ثلاث قارات فأبنائي في فرنسا وأنا بين تونسوالدوحة حيث أشتغل لأني أعتبر نفسي في خدمة سفرائنا بدول الخليج عموما والدوحة بشكل خاص بحكم معرفتي بالبلد وأهله وعلاقاتي الطيبة بهم لما فيه خدمة تونس وشعبها، وأنا أتمنى أن تخف هذه الحدّة المفتعلة بين تونس وقطر فلا شيء يبرر أن تكون سفارة قطر محاطة بالأسلاك الشائكة فقطر فتحت أبوابها لنا كمعارضين تونسيين في عهد الظلم والطغيان ولكثير من المعارضين العرب في سنوات الجمر والقطريون هم الذين فتحوا لنا المنابر وأكلنا في قطر خبزا من عرقنا فدور قطر قديم ولا نية لهذا البلد حسبما يؤكد لي أصدقائي القطريون في التدخل في الشأن التونسي وعلينا أن نهيئ الجو لعودة الاستثمار ويقول لي الإخوة القطريون من كبار المسؤولين «نريد أن نجعل من توزرمراكش بسمعتها العالمية» وسينطلقون في مشروع بوغياضة (مارينا المهدية)كما عاد مشروع مصفاة الصخيرة إلى الإخوة القطريين بعد زوال الأسباب التي علّق بسببها المشروع وهذه مشاريع تفتح الباب أمام آلاف الشباب من أصحاب الشهادات وغيرهم، هذا هو دورنا أن نساعد على عودة المستثمر الأجنبي والسائح وأن نتجنب الصورة السيئة التي تكرسها بعض وسائل الإعلام من تهريب للأسلحة وعنف وقطع للطرقات فهناك نصف ملآنة من الكأس لا ينبغي التغاضي عنها.