ما يميز شخصية الإنسان عن مجموعة من الناس هو مقدار تميزه عليهم بقيمة من القيم على الأقل,كالكرم والإقدام والشجاعة والذكاء والحكمة أو ما قابلها من الأضداد, حتى يضرب به المثل من بينهم,وفي بلاغة العرب حتى يصير علامة على تلك القيمة..وبهذا تعود الناس مجاراة بعضهم في هذه الأمثال, كما تعودوا تردادها, حتى وإن لم تصح واقعا أحيانا.فيسهل عليك أحيانا أن تحدد مقدار تميزك في قيمة التفكر مثلا, بقدر توقفك عن اتباع هذه الأمثال ومجاراتها ,وبقدر ابتعادك عما تعوده العامة .وإذا أردت أن تعرف حقيقة أي إنسان في مستوى تفكيره ما عليك إلا أن تنطلق من هذه المقدمة فستعرف وبسهولة هل له ما يميزه عن غيره عموما أم لا...وانظر حواليك ممن يسمون بالنخبة أو رجال الفكر فستعرف أن الكثير منهم يرددون الأفكار المعتادة,بغض النظر عن صحتها .والقليل هم الذين لهم تميز خاص في هذا الجانب. فما عليك إلا أن تنتظر الجديد والتجديد في كل المجالات ممن لهم هذا التميز.ولا تنتظر إلا الأفكار الميتة والمعتادة من غيرهم...وغالب الناس ينفرون من كل جديد مبتدع بداية الأمر.لكنهم يهرعون إليه بعد طول أمد,لأن قوته جذابة بقدر صدقه ومقدار حاجة الواقع إليه.فإذا لم يحصل هذا حصلت لهم النكبات, وفاتهم الخير الكثير.ولقد حطم القرآن الكريم وكذلك السنة المطهرة عادة الإتباع بدعوى القربى أو العصبية أو القبلية أو الخوف أو الإكراه وما إلى ذلك من المشوشات, وحذر منها أيما تحذير وجعل لها عاقبة السوء. وجعل الحق في كل ذلك مرهونا بصدق النظر والقول.ولم يميز القرآن بين الشرك وبين أي حكم من أحكام الشريعة فجعل عنوان القبول "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين","قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا". ولقد ضرب لنا القرآن أمثالا عديدة ,منها ما يجر الناس إلى جهنم جرا - والعياذ بالله – ومنها ما يزيد المؤمن إيمانا وخشية وعلما...قيم وقناعات ومبادئ وأخلاق تواطأ عليها الناس ,منذ زمن بعيد, جاءت بها الحاجة إليها, وزكتها الأديان تترا. ولكن كثيرا ممن عميت قلوبهم في مرحلة من مراحل الإنسانية الحرجة – وكذلك الجماعات- اتبعوا الأهواء المزينة والمزينة ,فحادوا عن الجادة فضلوا وأضلوا, فجعل الله لهم من الأوزار أضعافا مضاعفة بسبب الضلال والإضلال "ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ".فلا عجب أن ترى كثيرا من أهل جهنم –والعياذ بالله-أولئك الذين لم يتعلموا تقديس العلم والبرهان بدل تقديس الأشخاص والمشوشات حتى يأتيهم اليقين الأكبر فإذا بهم قد فتحت لهم الأبواب..لو أردنا ضرب الأمثلة -مع تصغير الأحجام- قلنا إن العديد من البشر اليوم يعيشون على وتيرة واحدة من محبة الكارثة في غياب الوعي الجمعي القويم وفي غياب أهل التميز والإختصاص على كل صعيد.فترى الواحد منهم يضيع عمره ,منتظرا أن يأتي الذباب بالعسل والشفاء..بل تراه مبررا لكل سلوك يسلكه من أجل ذلك .وترى أهل المشوشات من حوله يزكون عمله, إما تحت غطاء التدين الزائف محتجين بقوله تعالى "إن الله على كل شيء قدير"يريدون بذلك إمكان مجيء العسل من الذباب .أو نظرا لما تعوده الناس من تمجيد له .وبهذا يذهب العامة وراء الدهماء فتضيع مصالح الخلق...الشاهد من كل ذلك حين ترى كثيرا من الناس اليوم يبررون ما قبحوه بالأمس ,وصار الكذب عندهم صدقا, والصدق كذبا,والشجاعة تهورا,والجبن بطولة,والإفساد إصلاحا,والإهانة إكراما,وإرضاء السلطان الجائر أسمى الغايات, فاعلم أن الكارثة قد حلت بهم.وأنها إذا طالت بهم لم تبق لهم أثرا...فحالات الناس وأعراضهم وأغراضهم مختلفة,فكيف يريد الواحد من الدهماء أن يلم جبرا كل الناس خلفه ؟كيف يريد من ليس له باع في النظر والتفكر طيلة حياته أن يحدد مصير الناس ؟كيف لشخص لم يعرف الناس عنه التزاما بعهد أن يكون أمامهم وإمامهم في مستقبل أيامهم ؟كيف لشخص لم يعرف بتميزه في قيمة من القيم أن يجعل من نفسه كل شيء ,وأن يجعل من غيره لا شيء ؟كيف لإنسان لا يأمن الناس بوائقه أن يقودهم في مرحلة حرجة كالتي تمر بها البلاد؟ كل ذلك وأغلب الناس في صمت رهيب لا يلوون على شيء.. عجبا لمن أرادنا يوما أن نكون حطبا للحق,يريدنا اليوم أن نكون حطبا للباطل..عجبا بعد أن كنا صوتا من أصوات الحق بارزة,نصبح اليوم بوقا من أبواق الباطل,مسبحين بحمده صباح مساء,نزين أعماله..ألا يكفيه أجهزة الإعلام ينفق عليها الشعب من دمه..ماذا نخسر-أكثر مما خسرنا- لو صبرنا ليالي وأياما عددا وأعددنا العدة, كل من جانبه, واتفق الناس جميعا على ميثاق يرتضونه يحقق كرامة الإنسان,أكبر المصالح ,ويرفع عنهم أعظم البلاء, بلاء الإفساد والإستبداد ؟ بم نحدث الأجيال القادمة إذا انحرفنا آخر الطريق –لا قدر الله-؟ نهايات الأعمال هي التي تكتب في سجلات التاريخ,وتبقى محفورة في ذاكرة الأجيال .وذاكرة الأجيال ميالة للنظر في النتائج غالبا . فإما تضحية وإما خيانة.. فصبر جميل أيها الأحباب.