القيروان: الأستاذ الذي تعرّض للاعتداء من طرف تلميذه لم يصب بأضرار والأخير في الايقاف    المعهد الثانوي بدوز: الاتحاد الجهوي للشغل بقبلي يطلق صيحة فزع    قيس سعيد يعين مديرتين جديدتين لمعهد باستور وديوان المياه المعدنية    هيئة تنظيم الزيارة السنوية لمعبد الغريبة: الطقوس الدينية ستكون داخل المعبد فقط    رئيس الجمهورية يشرف على افتتاح معرض الكتاب    النظر في الإجراءات العاجلة والفورية لتأمين جسر بنزرت محور جلسة بوزارة النقل    ارتفاع حصيلة شهداء قطاع غزة إلى أكثر من 34 ألفا    النادي البنزرتي وقوافل قفصة يتأهلان إلى الدور الثمن النهائي لكاس تونس    حالة الطقس خلال نهاية الأسبوع    الوضع الصحي للفنان ''الهادي بن عمر'' محل متابعة من القنصلية العامة لتونس بمرسليا    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    حامة الجريد: سرقة قطع أثرية من موقع يرجع إلى الفترة الرومانية    انتخاب عماد الدربالي رئيسا للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    عاجل/ كشف هوية الرجل الذي هدّد بتفجير القنصلية الايرانية في باريس    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    الترجي الرياضي: يجب التصدي للمندسين والمخربين في مواجهة صن داونز    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 5 آخرين في حادث مرور    مضاعفا سيولته مرتين: البنك العربي لتونس يطور ناتجه البنكي الى 357 مليون دينار    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    عاجل/ انتخاب عماد الدربالي رئيسا لمجلس الجهات والأقاليم    عاجل/ مفتّش عنه يختطف طفلة من أمام روضة بهذه الجهة    انزلاق حافلة سياحية في برج السدرية: التفاصيل    القصرين: تلميذ يطعن زميليْه في حافلة للنقل المدرسي    نقابة الثانوي: وزيرة التربية تعهدت بإنتداب الأساتذة النواب.    وزارة التربية تقرر إرجاع المبالغ المقتطعة من أجور أساتذة على خلفية هذا الاحتجاج ّ    كأس تونس لكرة السلة: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ربع النهائي    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    عاجل/ بعد تأكيد اسرائيل استهدافها أصفهان: هكذا ردت لايران..    عاجل: زلزال يضرب تركيا    كميّات الأمطار المسجلة بعدد من مناطق البلاد    توزر: ضبط مروج مخدرات من ذوي السوابق العدلية    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    بطولة برشلونة للتنس: اليوناني تسيتسيباس يتأهل للدور ربع النهائي    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    تفاصيل القبض على 3 إرهابيين خطيرين بجبال القصرين    وزارة الفلاحة: رغم تسجيل عجز مائي.. وضعية السدود أفضل من العام الفارط    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الجمعة 19 افريل 2024    المنستير: ضبط شخص عمد إلى زراعة '' الماريخوانا '' للاتجار فيها    القيروان: هذا ما جاء في إعترافات التلميذ الذي حاول طعن أستاذه    تجهيز كلية العلوم بهذه المعدات بدعم من البنك الألماني للتنمية    الاحتلال يعتقل الأكاديمية نادرة شلهوب من القدس    طيران الإمارات تعلق إنجاز إجراءات السفر للرحلات عبر دبي..    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    جوهر لعذار يؤكدّ : النادي الصفاقسي يستأنف قرار الرابطة بخصوص الويكلو    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    سيدي بوزيد.. تتويج اعدادية المزونة في الملتقى الجهوي للمسرح    محمود قصيعة لإدارة مباراة الكأس بين النادي الصفاقسي ومستقبل المرسى    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    "سينما تدور": اطلاق أول تجربة للسينما المتجولة في تونس    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفسير سورة النبأ للعلامة يوسف القرضاوي
من تفاسير القرآن الحديثة في العالم الإسلامي
نشر في الصباح يوم 29 - 07 - 2012


حديث البعث والمتغيرات الكونية

تقديم الأستاذ حامد المهيري
أواصل تقديم تفسير جزء (عمّ) لسماحة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يقول:
"وفتحت السماء فكانت أبوابا" أي كثرت أبوابها المفتحة لنزول الملائكة نزولا غير معتاد حتى صارت كأنها ليست الا أبوابا مفتحة كقوله تعالى في الطوفان "وفجرنا الارض عيونا" (القمر 12) كأن كلها عيون متفجرة وهو المراد بقوله تعالى "ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا" (الفرقان 25) وقيل الابواب: الطرق والمسالك لنزول الملائكة أي بتغيير نظام الكون، كما عرفه الناس فتفتح السماء فينفتح مكانها وتصير طرقا لايسدّها شيء ومعنى هذا وقوع الاضطراب في الكون كله وبذلك يخرب الكون العلوي كما يخرب الكون السفلي."وسيرت الجبال فكانت سرابا" أي حركت وأجريت في الجو على هيئاتها بعد قلعها من مقارها كما يعرب عنه قوله تعالى "وترى الجبال وتحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب" (النمل 88) أي تراها رأي العين ساكنة في أماكنها، والحال أنها تمرّ مرّ السحاب، الذي تسيره الرياح سيرا حثيثا، وذلك أن الاجرام العظام، اذا تحركت نحوا من الانحاء لاتكاد تتبيّن حركتها وان كانت في غاية السرعة لاسيما من بعيد.وقد أدمج في هذا التشبيه كما قال ابو السعود تشبيه حال الجبال بحال السحاب في تخلخل الاجزاء وانتفاشها كما ينطق به قوله تعالى "وتكون الجبال كالعهن المنفوش" (القارعة 5) يبدل الله تعالى الارض ويغيّر هيئتها ويسير الجبال على تلك الهيئة الهائلة، عند حشر الخلائق بعد النفخة الثانية ليشاهدوها ثم يفرقها في الهواء وذلك قوله تعالى "فكانت سرابا". يخيل للناظر أنها شيء وليست بشيء بعد هذا تذهب بالكلية فلا عين ولاأثر كما قال تعالى "ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لاترى فيها عوجا ولا أمتا" (طه 105-107) وقال: "ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة" (الكهف 47) ومعناها ان الجبال وهي الاجرام العظيمة التي يرى الناس ضخامتها حين يسيّرها الله تصير مثل السراب كقوله تعالى:"وبسّت الجبال بسّا فكانت هباء منبثا" (الواقعة 5-6) أي غبارا منتشرا وهي وان اندكت وانصدعت عند النفخة الاولى لكن تسييرها وتسوية الارض انما يكونان بعد النفخة الثانية كما تدل على ذلك آيات سورة طه السابقة وبعدها قال "يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له" (طه 108) وقوله تعالى "يوم تبدل الارض غير الارض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار" (ابراهيم 48) فان اتباع الداعي وبروز الخلق لله تعالى لايكون الا بعد النفخة الثانية. "ان جهنم كانت مرصادا أي: مرصدة ومعدة والمرصاد اسم للمكان الذي يرصد فيه، أي يراقب فيه ويحدث فيه الاطلاع على من يريدون كالمضمار الذي هو اسم للمكان الذي تضمر فيه الخيل أي أن جهنم كانت في حكم الله وقضائه موضع رصد، يرصد فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها. عن الحسن وقتادة قالا في قوله تعالى "ان جهنّم كانت مرصادا" يعني: أنه لايدخل احد الجنة حتى يجتاز بالنار فإن كان معه جواز نجا والا احتبس "للطاغين مآبا" يذكر الله تعالى هذا: أن جهنم مآب أي مرجع للطاغين جمع طاغ والطاغي: هو الذي يتجاوز الحد في ظلمه وفسقه والخرافة كما قال تعالى "كلا ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى" (العلق 6-7) وقال تعالى "فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى" (النازعات 37-39) وقال الله تعالى لموسى "اذهب الى فرعون انه طغى" (طه 24) فبين ان طغيانه وتجبره على خلق الله جعله احوج مايكون الى الرسالة وذم الله الأمم المستكبرة على الله تعالى وعلى عباده من عاد وثمود وفرعون وامثالهم بقوله:"الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصبّ عليهم ربّك سوط عذاب" (الفجر 11-13) فلا غروّ أن يعد الله جهنّم لأهل الطغيان الذي يقترن عادة بالفساد ليحمي الحياة والأمم بقاء هؤلاء المتجبرين في الأرض يفسدونها ويعطلون عمارتها التي أمر الله بها حين قال على لسان صالح:"هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" (هود 61) "لابثين فيها أحقابا" ماكثين في جهنم دهورا ومددا متطاولة متتابعة كلما مضى حقب شيعه حقب آخر.و(أحقابا) جمع حقب أو حقب بضم الحاء أو بكسرها وقد اختلفت فيه اختلافا كثيرا من ثمانين سنة الى عشرات الاف السنين وكلها لم تأت عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وهذه احدى الايات او ثالث الايات القرانية التي دلت على ان لله تعالى فضلا ورحمة ونعمة بأهل النار بحيث يمكن أن تنتهي فيها عقوبتهم، وينهي الله عذابهم في جهنّم بعد مايشاء الله من ألوف السنين أو ملايينها وهناك ثلاث آيات في القران الكريم رصدها اهل التهويل دالة على ذلك كلها في القران المكي. أولها قوله تعالى في سورة الانعام "قال النار مثواكم خالدين فيها الا ماشاء الله ان ربّك حكيم عليم" (الانعام 128) ثانيها: ماجاء في سورة هود"فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها مادامت السماوات والارض الا ماشاء ربك ان ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا في الجنة خالدين فيها مادامت السماوات والارض الا ماشاء ربك عطاء غير مجذوذ" (هود 106-108) فقد ذكر الله في شأن الذين شقوا وادخلوا النار انهم خالدون فيها مادامت السماوات والارض الا ما شاء ربك فكان هذا الاستثناء مبينا ان امر الخلود الابدي معلق بالمشيئة الالهية واكد هذا بقوله تعالى "ان ربك فعال لما يريد" هو خالق الخلق ومالك الملك وصاحب الارادة المطلقة فاذا أراد شيئا لم يمنعه مانع ولم يقف في وجهه شيء وخصوصا اذا كان هذا الامر مما تقتضيه رحمته التي سبقت غضبه والتي وسعت كل شيء والتي بها سميّ أرحم الراحمين ولذا قال هنا في امر نعيم اهل الجنة مايدل على بقاء نعيمهم لايزول ابدا فبعد ان قال: "الا ماشاء ربّك عقبها بقوله تعالى: "عطاء غير مجذوذ" أي غير مقطوع والاية الثالثة في هذا السياق هي هذه الاية التي معنا في سورة النبأ "لابثين فيها أحقابا" فهذه الايات الثلاث في كتاب الله تبعث الامل من رحمة الرحمان الرحيم خير الراحمين، وأرحم الراحمين،الذي هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، أن يريح عباده الكافرين بعد أن عذبهم ماعذبهم من ألوف السنين أو ملايينها ان يجري عليهم الفناء، ويبقى أهل الايمان وحدهم في الجنة فهذا هو اللائق برحمانيته ورأفته بعباده وله وحده مايريد واذا اراد شيئا قال له كن فيكون.
وهذا مذهب الامامين الكبيرين: شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه الامام ابن القيم الذي دونه في كتابين معروفين له اولهما (حادي الارواح الى بلاد الافراح) والثاني شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) وأذكر مما قاله في هذا المقام "لايذوقون فيها بردا ولاشرابا (24) الا حميما وغساقا" (25) أي لايجد هؤلاء الطاغون في جهنم التي ارصدها الله لهم بردا لقلوبهم ولاغذاء يتغذون به أو شرابا يروي مايشعرون به من حرق يكوي أكبادهم فهذا برد ينفعهم بخلاف الزمهرير فهو برد يؤذيهم فلا ينفهم وقال بعضهم البرد في الآية: "النوم في قول أبي عبيدة وغيره قال الشاعر:
ولو شئت حرمت النساء سواكمو*** وان شئت لم أطعم نقاخا ولابردا.
النقاخ: الماء العذب والبرد : النوم والعرب تقول منع البرد البرد بمعنى الا رأى ذهب البرد النوم. "الا حميما وغساقا" الحميم: الماء الحار قال ابو عبيدة وقال النحّاس: اصل الحميم الماء الحار،ومنه اشتق الحمام ومنه الحمى ومنه "وظل من يحموم" (الواقعة 34) انما يراد به النهاية في الحر والغساق صديد اهل النار وقيحهم والعياذ بالله فلم يجدوا في جهنم أي روح أو راحة خلال هذه المدة. "جزاء وفاقا" أي جوزوا بذلك جزاء موافقا لاعمالهم فالوفاق بمعنى الموافق كالقتال بمعنى المقاتلة و(جزاء) نصب على المصدر أي جازيناهم جزاء وافق اعمالهم أي هذا الذي صاروا اليه من هذه العقوبة وفق اعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا. قال مقاتل:وافق العذاب فلا ذنب أعظم من الشرك ولاعذاب أعظم من النار وقال الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة، فأتاهم الله بما يسوؤهم. "انهم كانوا لايرجون حسابا" أي ان هؤلاء الكفرة الطاغين المتجاوزين للحدود لم يكونوا يتوقعون ان يحاسبهم الله على مافعلوا فانهم لم يكونوا يعتقدون بعد الدنيا دارا اخرى يحيون فيها بعد مماتهم ويجزون فيها بما عملوا ويحاسبون على ماقالوا ومانووا ومافعلوا فمن كان لايؤمن بالاخرة ولقاء الله فيها كيف يرجو حسابا ومابعد الحساب من ثواب وعقاب؟ "وكذبوا باياتنا كذابا" اي كذبوا بما جاءت به رسل الله وبما انزلنا من الكتب وكانوا يكذبون الله ودلائله على خلقه التي انزلها على رسله، والتي غرسها في فطر عباده وجعلها ثابتة في عقولهم التي في رؤوسهم فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة والمعاداة ومعنى (كذابا) أي تكذيبا، وهو مصدر من غير الفعل قال الفراء: هي لغة يمانية فصيحة يقولون: كذبت به كذابا وخرقت القميص خراقا وكل فعل في وزن (فعل) فمصدره فعال مشدد في لغتهم هكذا نقل القرطبي وقرئ (كذابا) بتحفيف الذال وقد قالوا: التخفيف والتشديد جميعا لقول الاعمش (فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه) واقره الزمخشري في الكشاف: وهو مثل "انبتكم من الارض نباتا" (نوح17) يعني وكذبوا باياتنا فكذبوا كذابا. " وكل شيء احصيناه كتابا" أي قد علمنا كل شيء من اعمال العباد كلها وكتبناها عليهم، كتابه دقة واحصاء لايفوتها شيء وان صغر وقل وسيجزيهم على ذلك ان خيرا فخير وان شرا فشرّ كما قال تعالى "يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا احصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد" (المجادلة 6) فهذه كتابة صدرت عن الملائكة الموكلين بالعباد بأمر الله تعالى اياهم بالكتابة والتسجيل لكل شيء كما قال تعالى: "وان عليكم لحافظين كراما كاتبين" (الانفطار10-11) وقال تعالى "ام يحسبون انا لانسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون" (الزخرف 30).
"فذوقوا فلن نزيدكم الا عذابا" أي يقول الواحد القهار سبحانه تعالى لاهل النار بعد كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالايات مخاطبا لهم ومهددا ومتوعدا أي كلما مرّ العذاب عليهم ازداد شدة وقوة كما قال تعالى "كلّما خبت زدناهم سعيرا" (الاسراء 97) وقال تعالى "كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب" (النساء 56) فهم في مزيد من العذاب ابدا.
قال ابن كثير: يقال لأهل النار: "وذوقوا ما انتم فيه فلن نزيدكم الا عذابا من جنسه "واخر من شكله ازواج" (ص 58) وعن عبد الله بن عمرو قال: "لم ينزل على اهل النار اية اشد من هذه الاية:"فذوقوا فلن نزيدكم الا عذابا" قال فهم في مزيد من العذاب ابدا اللهم اعذنا من النار" وفي انتقاله من الاية (31) "ان للمتقين مفازا" الى الاية (36) "جزاء من ربك عطاء حسابا" يقول سماحته " بعد ان حدثنا الله عن الاشقياء الذين استحقوا عقوبة النار بتكذيبهم وعدوانهم وفاقا لاعمالهم يحدثنا الله بعد ذلك عن السعداء من عباده، وما أعدّ لهم عز وجلّ من الكرامة والسعادة والرضوان والنعيم المقيم. فحدثنا سبحانه عن المتقين الذين اعدّ لهم جنات عرضها السماوات والارض، والذين نجاهم من النار والذين جعل الله لهم من امرهم يسرا وكفر عنهم سيئاتهم واعظم لهم اجرهم الى اخر مامدحهم به في القران الكريم هؤلاء المتقون اخبرنا الله في كتابه ان لهم مفازا" أي موضع فوز ونجاة وخلاص مما فيه اهل النار ولذلك قيل للفلاة اذا قل ماؤها: مفازة تفاؤلا بالخلاص منها.
وقد بين لنا القران متى يحقق الانسان الفوز فقال تعالى "فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز" (ال عمران 185) "وحدائق واعنابا" ثم شرح القران الكريم حقيقة هذا المفاز ومشتملاته فقال "حدائق واعنابا" والحدائق جمع حديقة وهي البستان المحوط عليه من النخيل والاشجار وغيرها يقال: احدق به،أي أحاط (وأعنابا) جمع عنب أي كروم اعناب فحذف وهي جزء من هذه الحدائق ولكن خصه بالذكر لأهميته كأنه وحده ليس جزءا من هذه الحدائق. "وكواعب اترابا" جمع كاعب وهي المرأة الناهد. أي هنّ نواهد...يعنون ان اثداءهن نواهد. لم يتدلين لانهن أبكار. عرب اتراب كمال قال تعالى "وكواعب اترابا" والاتراب: الاقران المتشابهات ممن كن في سنّ واحدة قال تعالى "انّا انشأناهنّ انشاء فجعلناهنّ ابكارا عربا اترابا لاصحاب اليمين" (الواقعة 35-38) وقال الضحاك: الكواعب العذارى ومنه قول قيس ابن عاصمة
(وكم من حصان قد حوينا كريمة **** ومن كاعب لم تدر ماالبؤس معصر)
"وكأسا دهاقا ": الكأس هو الاناء الذي يشرب فيه الخمر وهي من شراب الجنة الذي ليس فيه غول، كما قال القران "من خمر لذة للشاربين" (محمد15) والدهاق: المملوؤة المترعة لانّ الخمر عندهم كانت عزيزة فلا يكيل الحانوتي للشارب الا بمقدار فاذا كانت الكأس ملأى كان ذلك اسر للشارب ولهذا تميزت كأس الجنة بانها دهاقا أي ممتلئة ومنه قول الشاعر: "اتانا عامر يبغي قرانا ? فاثر عنا له كأسا دهاقا" وقيل ايضا: دهاقا أي: متتابعة يتبع بعضها بعضا واستدلوا لذلك بما ردّدوا من الشعر:
"لانت الفؤاد احب قربا **** من الصادي الى كأس دهاق"
"لايسمعون فيها لغوا ولاكذابا" مما من الله به على المتقين من اهل الجنة من نعيم: ان الله هيأ لهم فيها الحياة الطيبة. مما يؤكل ويشرب ويستظل به وينظر الى ينعه وكذلك نزّه اسماعهم من ان يسمعوا فيها اللغو والكذب مما لايحبون ان يقولوه ولا ان يسمعوه ولذلك وصف الله المؤمنين في الدنيا بقوله "والذين هم عن اللغو معرضون (المؤمنون 3) اسمعوا اللغو واعرضوا عنه" (القصص 55) فلا عجب ان يكافئهم الله في دار ثوابه بمنع مايكدر عليهم صفاءهم من الكلام الذي لافائدة منه او الكلام الكاذب لهذا قال تعالى:"لا يسمعون فيها لغوا" أي باطلا، وهو مايلقى من الكلام ويطرح ومنه الحديث " اذا قلت لصاحبك انصت والامام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت" وذلك ان اهل الجنة اذا شربوا من الكأس الدهاق لم تتغير عقولهم، ولم ينطقوا بلغو ولاباطل بخلاف اهل الدنيا."ولاكذابا": أي لايكذب بعضهم بعضا او لايسمعون كذبا.
"جزاء من ربك عطاء حسابا" أي هذا الذي ذكرنا من نعيم الجنة جزاهم الله به. واعطاهموه بفضله ومنه واحسانه ورحمته. لايخاف احد عنده ظلما ولاهضما.
وقد جعلت هذا الجزاء هنا "من ربك" الذي يملك امرك ويربك ويرعاك ويرفعك في مدارج الكمال ويغمرك باحسانه وفضله على الدوام (عطاء حسابا) أي اعطاهم الله تعالى من عنده عطاء من المعطي الذي لايبخل والغني الذي لايفتقر والكريم الذي لا يستقل ولايستكثر مايمنح ومعنى "حسابا" أي كافيا وافرا شاملا كثيرا تقول العرب اعطاني فأحسبني أي جعلني اقول حسبي ومنه حسبي الله أي الله كافي. "رب السماوات والارض ومابينهما الرحمان لايملكون منه خطابا" قرئ بخفض كلمة (ربّ) كماهي قراءتنا الشهيرة لحفص عن عاصم على انها نعت لقوله تعالى (من ربك) وقرأ الاخرون "ربّ السماوات" على انه خبر أي: هو رب السماوات فهو سبحانه الذي خلق هذه السماوات والارض ومابينهما وهو الذي يملكها ويحفظها ويرعاها ويدبّرها ويسيّرها على احسن نظام بما فيها من نجوم وشموس واقمار كما قال تعالى "تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا" (الفرقان 6) والله جعل لكم الارض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا" (نوح 19-20) هذا الرب العظيم لهذه المخلوقات الكبيرة التي قال الله فيها "والسماء بنيناها بأيد وانا لموسعون والارض فرشناها فنعم الماهدون" (الذاريات 47-48) هو الرحمان أي ذو الرحمة الواسعة، التي وسعت جميع خلقه ورزقت المؤمن والكافر وانعمت على البرّ والفاجر واطلقت على الجميع شمسها وقمرها وانزلت عليهم امطارها واطعمتهم من نباتها واشجارها وجعلت منها متاعا لهم ولانعامهم هذا الربّ الرحمان لايملكون منه خطابا أي لايملكون ان يسألوه الا فيما اذن لهم فيه وقال الكسائي لايملكون منه خطابا بالشفاعة الا باذنه كما قال تعالى "من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه" (البقرة 255) وقيل: اراد الكفار خاصة فهم الذين لايملكون منه خطابا حيث لاتجوز لهم الشفاعة لاحد وكيف يشفع من هو من اهل النار واستحقاق العذاب؟ فأما المؤمنون فيشفعون كما قال تعالى "يومئذ لا تنفع الشفاعة الا من اذن له الرحمان ورضي له قولا" (طه 109) وقوله تعالى "لايملكون منه خطابا" استئناف مقرر لما افادته الربوبية العامة، من غاية العظمة والكبرياء واستقلاله تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء من غير ان يكون لاحد قدرة عليه، والضمير في "لا يملكون" لاهل السماوات والارض أي لايملكون ان يخاطبوه تعالى من تلقاء انفسهم خطابا مافي شيء ما والمراد نفي قدرتهم على ان يخاطبوه تعالى بشيء من نقص العذاب او زيادة الثواب من غير اذنه على ابلغ وجه وآكده وكيف وليس في ايديهم مما يخاطب الله به ويأمر به، في امر الثواب والعقاب خطاب واحد، فيتصرفون فيه تصرف الملاك فيزيدون فيه او ينقصون منه؟ "يوم يقوم الروح والملائكة صفّا لايتكلمون الا من اذن له الرحمان وقال صوابا" من هو الروح المذكور في الاية الكريمة؟ اختلف المفسرون فيه اختلافات شتّى والذي يلوح لي ان الروح هو جبريل امين الوحي الذي نزل بالقران على محمد صلى الله عليه وسلم وقد سماه الله تعالى في كتابه الروح الامين كما قال سبحانه "نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين" (الشعراء 193-195) وهو المذكور في سورة القدر حيث قال تعالى "تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل امر" (القدر 4) وهو المذكور في هذه الاية فمن اوصاف يوم القيامة ويوم الفصل ويوم الحساب للخلائق جميعا ان يقوم فيه جبريل ملك الوحي وحامل القران اعظم كتب الله الى اعظم رسل اله محمد والذي وصفه الله في كتابه في سورة التكوير بقوله انه لقول لرسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين" (التكوير 19-21) "انه يقوم جبريل والملائكة الكرام ومعه وهم جنود الله في السموات والارض لايلعمهم الا الله وقد اصطفوا مع جبريل عليهم السلام صامتين لايتكلمون الا من اذن له الرحمان وقال صوابا أي يتكلمون بشرطين.
الاول: ان يأذن لهم الرحمان بالكلام وفي هذا اليوم لايتكلم احد الا باذنه والشرط الثاني ان يقول صوابا أي سدادا من القول مثل ان يشفع لمن يستحق الشفاعة كما قال تعالى ولايشفعون الا لمن ارتضى" (الانبياء 28) ولايرتضي الشفاعة لمن اشرك به فقد قال تعالى "ما للظالمين من حميم ولاشفيع يطاع" (غافر 18) قال تعالى "فما تنفعهم شفاعة الشافعين" (المدثر 48) فهؤلاء المقربون من الله تعالى: الروح والملائكة لايقدرون ان يتكلموا الا باذن الله وقول الصواب فكيف بالاخرين؟ انه يوم عظيم "يوم يقوم الناس لرب العالمين" (المطفّفين 6) "ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ الى ربه مآبا ذكر ذلك اشارة الى يوم قيامهم على الوجه المذكور وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد المشار اليه للايذان بعلوّ درجته وبعد منزلته في العلو والفخامة واليوم الحق هو الكائن المتحقق الثابت لامحالة ولاريب فيه من غير صارف يلويه ولاعاطف يثنيه اذا كان الامر كما ذكر من تحقق هذا اليوم فمن اعطاه الله تعالى مشيئة ينفذ بها فليتخذ له مرجعا وطريقا يهتدي اليه ومنهجا يمر به عليه الى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم. فعل ذلك بالايمان به والطاعة له والعمل الصالح، كأنه اذا عمل خيرا ردّه الى الله تعالى واذا عمل شرا عده منه، وينظر الى هذا المعنى قوله عليه السلام" الخير كله بيدك والشرّ ليس اليك"
"انا انذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ماقدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا" (النبأ اية 40) : الانذار التخويف بالخطر قبل وقوعه واعظم الخطر ما أعده الله من عذاب لمن كفروا به وكذبوا رسله وجحدوا ماتوعدهم به من عذاب الاخرة والخطاب في (انذرناكم) - كما قال ابن عطية ? لجميع العالم وان كانت المخاطبة لمن حضر النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار ووصف العذاب بالقرب لتحقق وقوعه وانه ات ولابدّ، وكل ات قريب، والجميع داخل في النذارة منه قال تعالى "يوم يرونها لم يلبثوا الا عشية أوضحاها" (النازعات 46) وقد قال بعضهم ان العذاب القريب هو عقوبة الدنيا لانها اقرب العذابين والاظهر انه عذاب الاخرة وهو الموت والقيامة وماوراءها من اهوال لأن الله تعالى يقول " وماأمر الساعة الا كلمح البصر أوهو أقرب (النحل 77) ولأن من مات فقد قامت قيامته فان كان من اهل الجنة رأى مقعده من الجنة وان كان من اهل النار لقي الخزي والهوان ولهذا قال تعالى "يوم ينظر المرء ماقدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا" بين الله تعالى وقت ذلك العذاب" أي انذرناكم عذابا قريبا من ذلك اليوم وهو يوم ينظر المرء ماقدمت يداه أي يرى كل ماعمله من خير او شر وقيل (المرء) هنا المؤمن في قول الحسن أي يجد لنفسه عملا فاما الكافر فلا يجد لنفسه عملا فيتمنى ان يكون ترابا. ولما قال "ويقول الكافر" علم انه اراد (المرء) المؤمن والاولى ان يكون ذلك عاما في كلّ احد وانسان يرى في ذلك اليوم جزاء ماكسب كما سنرى استعمال مثله في القران كقوله تعالى "يوم يفرّ المرء من اخيه وامه وابيه (عبس 34-35) فهو يشمل المؤمن والكافر والبر والفاجر.
"ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا" يتمنى في ذلك اليوم الهائل ان لو كان في الدنيا فلم يخلق او لم يكلف اذ قامت: أي ظل ترابا في هذا اليوم فلم يبعث".

والى اللقاء في الحلقة القادمة مع سورة اخرى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.