انطلقت في رحلة مشي طويلة في جبال سويسرا وغاباتها وأنهارها الخلاّبة و بعد عدّة أميال لفّني خلالها وحدة وصمت مؤنسين عن ضجيج الحياة وعراكها وجدتني في موقع جميل مطلّ على بحيرة وما لبثت الصّورة أن ارتبطت عندي بمشهد لشاطئ أملكار ارتسم، ولسبب أجهله، بالذّاكرة منذ سنين. أطلت التّأمّل والتّفكّر حتّى انتابتني "غيبوبة شعورية" ارتحلت خلالها إلى أرض الوطن وأنا مثقل بهموم المهجر وتحدّياته والوفاء يشدّني إلى أرض غربتي ويحرّم عليّ الإنحناء وصوت بداخلي يصرخ "ثغرك ثغرك فغربتك جهاد". لم أشعر كيف امتدّت يدي إلى تلك القراطيس التي أدسّها في جيوبي تحسّبا لمثل هذه الحالات لأدوّن ما تجود به القريحة وتفيض به الخواطر ويطفح به الوجدان و تركت العنان للقلم يمتثل صاغرا لما تمليه المشاعر دون ضوابط ولا ميزان ودمع الشّوق إلى أرض الوطن يتصبّب غزيرا يبلّل الورق بين يدي .... لمّا قرّت النّفس وتوقّف الوجدان عن الإملاء انتبهت فإذا بضع نفر على بعد أمتار منّي يرقبونني من طرف خفي ولسان حالهم يقول "هل نقترب من هذا المصاب ونواسيه أم ندعه لحاله؟؟". شربت بعض الماء وشددت حقيبتي إلى ظهري ومشيت وأنا أدندن .... سأراها بعيني أخي، سأراها سأراها بلادي حين يُصبح حرّا سأراها حين أكسر قيده بجهادي ... سأراها
سأجوب تلالها والرّوابي سأزور جبالها وقراها ... ريفها والبوادي برجلي أخي حين يُصبح حرّا حين أرفع الضّيم عنه سأراها بعيني أخي، سأراها حين يصبح حرّا ... سأراها بلادي
سأشمّ عبيرها وهواها أشفي غليلي بأنف أخي حين يصبح حرّا حين أكسر القيد عنه بجهادي
سأسبح في شواطئها في المرسى والزّهراء وحلق الوادي ... سأسبح في شواطئها بجسم أخي حين يصبح حرّا حين أفكّ أسره بجهادي سأراها بلادي
سأرى أهلها والدّيار سأرى ليلها والنّهار سأراها بعيني أخي حين يصبح حرّا حين أكسر قيده بجهادي سأراها بلادي سأرى أرضها وسماها سأرى فجرها والغروب شمسها بدرها والنّجوم وأتيه بقلب أخي في هواها حين يصبح حرّا حين أكسر قيده بجهادي
سأراها بلادي أسمع طيرها يشدو في رباها أسمع همس الحياة في جوف ليلها وضحاها سأرى عنفوانها وبهاها (وبهاءها) سأسمع المؤذّن يدعو "الله أكبر" تعرج في سماها سأسمع ... بأذني أخي حين يصبح حرّا حين أكسر قيده بجهادي سأراها بلادي
سأراها وألثم تربها وثراها وأخطب ودّها أجدّد عهدي لها بهواها أطلب صفحها ورضاها بلفظ أخي حين يصبح حرّا حين أكسر قيده بجهادي
سأراها بلادي سأرى حقلها والزّهور وأرى السّنبل مثقلا خاشعا متهادي سأرى معهدي حيث كنت وأرى مقعد الإبتدائي وأرى "الكومبيس" قلعة النّضال والإجتهاد سأراها بعيني أخي سأراها حين يصبح حرّا حين أكسر قيده بجهادي
سأراها بلادي سأزور قبر أبي كمدا قضى من غربتي و بعادي و أمدّ كفّ أخي و أتل أمّ الكتاب بصوت أخي حين يصبح حرّا حين أفكّ أسره من غربتي بجهادي وأذرف الدّمع من عيني أخي حين يصبح حرّا كالبلبل يمرح شادي
سيّد عشقي أنا لبلادي وأدته بيدي في فؤادي فأخلصي لأخي يا بلادي حين يصبح حرّا يُبعث عشقي وحبّي وأشد الرّحال إليك بلادي
لا يبالي الغريب حين يضحّي أغدا أم بعد دهر يراها سأراها بلادي بعيني أخي سأراها سأراها ... آية في الكتاب سأراها ولو من تحت لحدي بعيني أخي سأراها حين يصبح حرّا حين أكسر قيده من غربتي بجهادي
ليس شيئا أحبّه كبلادي
العربي القاسمي من قمّة أحد جبال سويسرا الجميلة في 23 ماي 2010