الدكتور عثمان قدري مكانسي وهذا يساعد على الانتباه والاستقصاء والمتابعة . إن الإنسان حين يسمع محاضرة يحدد فيها صاحبها منذ البداية أفكارها ، ويستعرض مخططها ، يكون أقدر على الانتباه لها ، وتقدير الطرائق التي اعتمدها المحاضر ، وتركيز ذهنه وحواسه في استقصاء أفكارها ، اعتماداً على ما ذكره المحاضر أول ما بدأ ، ومتابعة تفاصيلها وتسلسلها الزمني ، ويصبح بإمكانه أن يسأل المحاضر شيئاً نسيه أو مر عليه سريعاً ، أو لم يعالجه المعالجة التي عالج بها بقية الأفكار . وإنه يستحسن للقائد أن يحدد الزمان والمكان لجنوده قبل البدء بعمليتهم القتالية ، والزمن الذي تستغرقه ، والهدف الذي يسعون إلى تحقيقه . وإن الرسام ليضع أولاً الإطار الذي يحيط بلوحته ، والمهندس خريطة لموقعه ، والمدرس مخططاً على اللوح لدرسه يسترشد به التلاميذ في متابعة درسهم ، مع ذكر القاعدة والأهداف بشكل مرتب متسلسل . - وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ، فيضع المسلمين في إطار العدد المراد تحديده . ففي الحديث الذي يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول : ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة (1) ( حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنواع من المنبوذين يوم القيامة ، فأصاخ أصحابه السمع ، ورسموا الإطار ، وانتظروا البدء ) : العاق لوالديه ، والمرأة المترجلة ، الديوث ، ( فأغلقوا الإطار على العدد وأصحابه وسبب العقوبة ) - وثلاثة لا يدخلون الجنة : ( مقدمة أخرى لعدد آخر من نوع آخر ، فرسموا الإطار واستعدوا ) العاق لوالديه ، والمدمن الخمر ، المنّان بما أعطى(2) ( فأغلقوا الإطار على العدد وأصحابه وسبب العقوبة ) ثم تناولوا الحديث بالبحث والدراسة ، وكان العدد مساعداً للمسلمين على الاحتفاظ بالأفكار ليوصلوها إلى إخوانهم على مر العصور مرتبة حسبما وردت ، لا زيادة فيها ولا نقصان ، ولا تقديم ولا تأخير . - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة : 1 لايكلمهم الله يوم القيامة 2 ولا يزكيهم 3 ( قال معاوية ) : ولا ينظر إليهم 4 ولهم عذاب أليم (3) ( من هؤلاء الثلاثة ؟ وما الذي سبب لهم هذه العقوبة في المقدمة السابقة ؟) . 1 شيخ زان ( وكان أولى به الوقار والعفاف ، فقد جاز مرحلة الشباب والطيش ) 2 وملك كذاب ( ولماذا يكذب ولن تطاله يد أحد بالعقوبة وهو القدوة والحاكم ) 3 وعائل مستكبر(4) ( وعلام يستكبر وهو فقير يحتاج مساعدة الناس ؟) فاستقصى الصحابة الكرام هؤلاء الأنواع الثلاثة ، والمقدمة التي وضحت أنواع العقوبة ليتدارسوها ويحددوا مسار حياتهم من خلالها . - وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث دعوات مستجابات : 1 دعوة المظلوم ( فليس بينها وبين الله حجاب ) 2 ودعوة المسافر ( اتخذ الله رفيقاً واعتمد عليه في سلامة الوصول ) 3 ودعوة الوالد على ولده(5) ( إن بر الولد بوالده أولى به ، فقد بذل عمره وعمله للولد ) . حفظها السامعون ، وتجنبوا الوقوع فيها ، ووعظوا الغائبين ، وكانت مصابيح للخَلَفِ يسيرون على هديها . - وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سبعة يظلهم الله في ظله ، يوم لا ظل إلا ظله : ( في الآخرة حر شديد ، والشمس تدنو من الخلائق يا الله أليس هناك مكان نتقي فيه ذاك الموقف يا سيدي يا رسول الله ؟ . . نعم إنه ظل عرش الرحمن سبحانه إلا إنه مخصص لسبع فئات من الناس . . اللهم اجعلنا منهم ، فمن هم يا رسول الله ؟ . . . ) 1 إمام عادل . 2 وشاب نشأ في عبادة الله عزّوجلّ . 3 ورجل قلبه تعلق بالمسجد . 4 ورجلان تحابّا في الله ، اجتمعا عليه وتفرقا عليه . 5 ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله . 6 ورجل تصدق بصدقة ، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه . 7 ورجل ذكر الله خالياً ، ففاضت عيناه(6) . يستقصي رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء السبعة ، ويكرر ذلك على مسامع الصحابة فيحفظون أصنافهم ، ويتخلقون بأخلاقهم : 1 فالإمام العادل يحكم بشرع الله ، ولا يعمل بهواه ، ولا يستغل منصبه للوصول إلى شهواته وإلى ما ليس من حقه ، ويحب الناس ويعدل بينهم ، فيفيئون إليه ملتمسين حقهم منه ، مطمئنين إلى رحمته وعدله . 2 والشاب المتدفق حيوية ، تتفتح أمامه دروب الغواية وسبل الفساد تدعوه إلى الانحراف ، ومتابعة الشيطان ، وهو معرض عنها ، متعلق بحبل الله المتين ، يستنصره عليها ، ويستدفع به شرورها . 3 والرجل الذي يُكثِر من دخول المساجد للصلاة ، والانتفاع بقراءة القرآن ، وحضور حلقات العلم والمذاكرة ، ويرى جنته فيها ، وهناءته في رحابها . 4 ورجلان كان حب الله الرابط َبينهما ، إن اجتمعا فعلى الذكر والتدبر ، وإن تفرقا فعلى الألفة والتواصي بالحق ، يحفظ كل منها غيبة الآخر ، ويكون عوناً له على ظروف الدهر ، لا يبتغي كل منهما غير رضا الله ثواباً . 5 ورجل وسيم أحبته امرأة ذات منصب وجمال ، فأغرته بنفسها ، وسهلت له طريق الزنا ، ومنحته الجاه والمال إن ارتكبه ، وسولت له بأحابيلها ما تريد منه ، فظل متمسكاً بحبل الله المتين ، يعرض عنها ، وإن أصابه من امتناعه مكروه . 6 ورجل يتصدق سراً فالمراءاة تحبط عمله ، وتضيع أجره .. ويكبت في نفسه حب الاستشراف والرغبة في أن يقال : هو كريم ، إنه لا يبغي الأجر إلا من الله عزّ وجلّ. 7 ورجل ذكر الله وهو في أهنأ عيش وأطيب حياة ، لا ينغص عليه أحد أيامه ، فهو يشكر الله على فضله ، ويحمده على كرمه ، ويشتاق إلى جنته ، ويعلم أن ما أصابه كان برحمة الله وجوده ، فيجتهد في العبادة ، ويبكي شوقاً إلى لقاء الله تعالى ، فما عند الله خير وأبقى . اللهم علمنا ما ينفعنا ، وهيء لنا من أمرنا رشداً ، واجعلنا من عبادك السعدا ، وأظلنا تحت ظلك يوم لا ظل إلا ظلك . ------------------------------------------------------------------------ (1) كناية عن عدم الرحمة . (2) أخرجه النسائي في الزكاة . (3) كناية عن الإمتهان والتحقير . (4) رواه مسلم . (5) الأدب المفرد الحديث . (6) رياض الصالحين الحديث / 374 / متفق عليه .