رحلة فتاة تونسية من المسجد إلى الملهى نصرالدين السويلمي
"أحداث هذه القصة واقعية إلا أنّ إسم الفتاة مستعار"
قَالَ رسولُ الله صَلى الله عَليه وسلم « مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ »لكن من الآباء من لا يهوّد ولا يمجّس ولا ينصّر ولا يُأسلم بل يستسلم للأيام والأحداث تعجن وتُخَلق وتفصّل البنين على مزاجها وتحت رحمة رياح الشارع وأرصفته المرصعة بالمقاهي والملاهي والمنتزهات والمرافق العارية من ثوب الحياء !! مرافق زواياها وثناياها "طُهّرت" من الخجل بالمبيد القويّ الفعّال الحادّ صُنع على أعين أرباب "التحرر" ...وآباء آخرون توغّلوا في الجرم بعيدا ليعينوا التفسّخ على أبنائهم ..أزعجهم وأذهلهم وأذهبَ سُهادهم أنّ الملاهي فشلت في استقطاب فلذات أكبادهم !!! آباء أزعجهم نفور أبنائهم من الملذات فهبّوا يهشّون عزائمهم ويستنهضون التفسّخ كي يحتويهم ولا يتركهم "فريسة"لدين عائد من بعيد ينفض الغبار عن نُطفٍ شوّهها بعض جيل عبر البحار ذات يوم يبحث عن قوته، فإذا به يقاطع أصله وينحي المصحف وسجاد الصلاة من رفوف مكتباته ويستبدلها بقوارير الجعة وأخواتها كما ينحي صورة الأم بلباسها التقليدي ووشمها الثابت في أعلى الجبين ويستبدلها بصورة شقراء عارية لحمها اصطناعي مُحوّل ومُهجّن... في الحائط المقابل نزعت صورة الجامع واستبدلت بسيارة فيراري صفراء فاقع لونها تسرّ المنسلخين من أصلهم وفصلهم...تلك نماذج مترامية على أطراف القارة العجوز..
هناك من الحالات الكثير ...وهنا وما أدراك ما هنا، هنا ألمانيا الدوتش لاند بلد القياصرة والفولكس فاغن والمارك...
...في إحدى مدنها وعلى ضفة نهر الراين ترعرعت بسمة في عائلة تونسية "متأوربة"، عاشت الفتاة بين دخان سجائر أبيها ورائحة قواريره الخبيثة، ونهلت من الأفلام والمسلسلات الأمريكية ،وترددت في فصل الصيف مع أمّها على البحر بشبه الثياب تلك...بسمة وهي على مشارف سنّ المراهقة استوقفها مظهر وأسلوب خطاب زميلتيها المغربيتين، فجرّها الفضول لمجالستهما، ومن الجلسة إلى التفاعل، ومن التفاعل إلى الاستحسان، ومنه وجدت نفسها في المسجد لأول مرة في حياتها تلج قدمها بيت الله، وببراءة الأطفال وجدتها تقول في عطلة الصيف وحين كنت أسأل جدتي عن جدي أين هو؟؟ كانت تقول لقد ذهب إلى الجامع... إذا هذا هو الجامع!!! كانت تلك الانطلاقة التي ملكت روح بسمة وحلّقت بها بعيدا.
لم يتفطن الأب ولا حتى الأم بداية الأمر إلاّ أنّ الأب بدأ يتململ من مظهر الفتاتين، حيث كان في شبه مداعبة مبطنة يقول لهما نحول المحرمة "الدنيا سُخونة عليكم"، والأم من الحين إلى الآخر تنهر ابنتها" :أين صديقتك "أولغا" لما لم تعد تأتي ومانيش عارفة علاش لصقتي في الريافة واش عاجبك فيهم..."
مع الوقت تفطنت الأسرة أنّ ابنتهم تذهب إلى المسجد باستمرار - أزعجهم الأمر - ولم يذهلهم لأنّهم اعتبروه "نزوة" عابرة ...لكنّ الفتاة مع الأيام تعلّقت أكثر، كما تعلّمت الحروف العربية وأصبحت تهجئ القرآن بالبيت، وكانت الأم تنهرها: "نحي عليّ هذا وشدّي قرايتك". لم يتجاوز الأمر المناوشات والقلق والريبة، واستمر الوضع على ذلك الحال حتى كان اليوم المشهود الذي زلزل الأسرة يوم أتتهم الفتاة بحجابها، يومها كان في البيت - مأتم وعزاء -، وبما أنّ بسمة تمرّ بسنّ حسّاس ودقيق أصبح يصعب إخضاعها بالقوة خاصة مع الإصرار والعناد الذي لمساه في طبيعتها.
انطلقت سلسلة المؤامرات والإغراءات، وانطلق معها صمود بسمة وصراعها مع الباطل، وكانت تشتكي من الحين للآخر إلى زميلاتها قائلة:" أنا وحدي وأخاف من الاستسلام، إنّهم خلفي ليل نهار"، كانت الفتاتان تشجعانها وتحثانها على الصمود...
فشلت معها سياسة الترهيب والمؤامرات، وصعّدوا من سياسة الإغراءات ناهيك وأنّ الفتاة في سنّ دقيق.. فأخبراها أن لا ذهاب أبدا إلى البلاد في العطلة وهي محجبة.. كان ذلك كله في منتصف تسعينات القرن الماضي حين كانت الحملة على الحجاب مستعرة في تونس.
راودوها بصنوف متعددة من الإغراء، حتى أنّها وفي كثير من الأحيان كانت تهمّ بالضعف، لكنّها سرعان ما تحتمي بالمسجد وبصديقاتها فتتزود بجرعة للصمود تمكّنها من الثبات لأيام قادمات.
كانت العطلة قد حلّت، وكانت الصديقتان قد سافرتا لقضائها في المغرب، عندها اختلى الأب والأم بالفتاة وكثفا من أسلوب الإغراء المركّز ووعداها إن هي نزعت الحجاب بإرسالها إلى أمريكا أسبوع لتتجول وتشتري الملابس التي ستذهب بها إلى تونس، كما أخبراها أنّه في صورة ذهابها بالحجاب سيسجن الأب والأم وستتعرض هي إلى الضرب والتنكيل، ورويا لها قصص مؤلمة عمّا تعرضت له بعض المحجبات، لا أدري أسمعا بتلك القصص أم هي من بنات أفكارهما..
بين سياسة الترغيب والتوسع في الإغداق وسياسة الترهيب من الحجاب وعواقبه، كانت الفتاة تتخبط.. حاولت الحصول على هاتف صديقاتها فلم تفلح، حاولت.. وجاهدت نفسها ..فرّت خارج البيت أصبحت لا تدخله إلاّ متأخرا، التقت ذات مرة بامرأة تعرّفت إليها في المسجد سألتها عن حالها فبدت متجهمة وأخبرتها بالأمر قائلة: "نحسّ في روحي باش نضعف والنحيه وإذا نحيتو عارفة روحي ماعادش نقدر نرجع ولعل نزيد نعمل حاجات خايبة زادة "، كانت المرأة تحكي عن بسمة وتبكي وقالت عندما التقيتها آخر مرة في القطار وفي غفلة من أمّها قالت لي: "تعرفي خالتي .... نحسّ في الدنيا ضيقة ضيقة ضيقة أصغر من الفينيش لأنّو مافيش ولا واحد يمدّ لي يد المساعدة تعرفي البارح وقت لنزلت علي مما رقدت وقلت واش يخص لو كان نحل عينيا في الصباح نلقى روحي في داري معرسا وبحجابي وبأولادي وقلت وقت لنجيب أولاد ديما نهزهم للجامع ما نعملش كيف مما".
أتت الشيطنة المكثفة والمركزة من الأبوين أُكلها وفي الأخير كانت لحظة الانهيار، عندها أقنعت البنت نفسها بأنّها ستلبي طلبهم وتتحصل على الملابس والسفر إلى أمريكا التي كنّ زميلاتها يتحدثن عنها كثيرا ثم بعد العطلة ستعود إلى حجابها... وكان عرس كبير في البيت وفرح جارف "لقد خلصوا ابنتهم من بعض دينها "وقد وصل بهم الأمر وكمكافأة أن اشتروا لها بثلاثة آلاف مارك ملابس!!! في العطلة طافا بها الأعراس والمهرجانات وسهّلوا لها ربط علاقات مع بعض الشباب ودفعاها إلى الرقص في الحفلات والسهر إلى وقت متأخر في جلسات مختلطة.
عند عودتهما إلى ألمانيا كان الأبوين قد استسهلا لعبة الإغراء وكانت البنت قد استسلمت إلى لعبة الابتزاز... لا تذهبي إلى صديقاتك.. لا لن أذهب لكن مقابل ماذا؟؟؟ والمقابل كان جاهزا دائما وبسخاء. نُقّلت بسمة إلى مدرسة أخرى.
طردت الأم صديقاتها عندما أتين إلى زيارتها، اغتاظت الفتاة وذهبت إليهنّ ودار بينهنّ حديث طويل عادت على إثره مساء متعبة حائرة، حاولت أمّها الحديث إليها فتجاهلتها وذهبت إلى النوم. في الصباح زادت جرعة الإغراءات، واتفق الأب والأم على تسجيلها في نادي للرقص محترف وباهظ الثمن لتبتعد عن هذه الأجواء، وتقضي هناك جميع أوقات فراغها.
كان لهما ما أرادا، وانغمست بسمة في نادي الرقص هذا، وكانت تتنقل مع والدها إلى جلّ الحفلات التي تحييها الجالية، وصعدت إلى الركح مع فنانين شعبيين تونسيين معروفين وكان قد قدّمها أبوها وعرّف بموهبتها في الرقص بأنواعه.
حضرت بعض الحفلات الألمانية وأعجبوا برقصها الشرقي وكان الأب يتباهى بها، وشوهد ذات مرة في حفل أحياه مطرب شعبي وكانت ابنته ترقص "فزاني" وهو على ركبة ونصف منهمك في التصفيق كما سمعته سيدة ذات مرة يقول حين اعتذرت ابنته في حفل بحجة المرض "هيا جيبيلهم رقصة على رضاية الوالدين"...
انقطعت الفتاة عن الدراسة وتمكنت من الميدان.. ومع مطلع الألفية الثالثة كانت بسمة الفتاة الخجولة بفضل أبويها قد أصبحت راقصة لا يُشقّ لها غبار... وذاع صيتها في ملاهي المدينة الألمانية.. ألفت خاصرتها العيون والعقول المخمورة والمزطولة وساحت في دنيا "الهزّ"... لا ندري ربما ساقتها الأقدار يوما أمام مسجد أهدى إليها ذات يوم جزء عمّ عن ظهر قلب فأخذها الحنين وعادت إلى نبع أجدادها... ولربما يمضي بها العمر بعيدا ولا تعود.